العدد 223 -

السنة التاسعة عشرة شعبان 1426هـ – أيلول 2005م

كفانا بؤساً نريد أن نعيش!

كفانا بؤساً نريد أن نعيش!

المهندس حسن الحسن

هكذا يقولون! هكذا يقول الذين في قلبهم خور وهوان وذلة! استمعوا:

المياه قليلة وإن توفرت فملوثة. الكهرباء تطل علينا بخجل كما تطل الشمس على دول الشمال. البطالة مكتسحة، وإن وجد عمل فلا يتوفر معه إلا النـزر اليسير من المال. مشاكل اجتماعية واقتصادية وسياسية متراكمة. سعي من أجل الحفاظ على الوضع الاجتماعي لدى البعض، وتحسينه لدى آخرين، وصراع من أجل البقاء لدى الكثيرين.

لا تقل لي دولة إسلامية، لا تقل لي فلسطين والعراق وكشمير وأفغانستان والشيشان، لا تقل لي تضحية وفداء، دعك من شعارات الجهاد والكفاح والنضال، دعنا نعيش الواقع بسلام ولننسحب من عالم الخيال المجنون، كفانا خطابات جوفاء وخطباً حماسية صماء.

آه كم تنـزع نفسي إلى امرأة مليحة، ممشوقة القوام حوراء العينين، أستأنس بها ولا أمل النظر إليها، وبيت واسع فسيح تطل عليه الشمس من كل جانب ويطل على البحر من أحد الجوانب، أسكنه مع زوجتي وعيالي، وحديقة غناء أتمشى فيها قبيل الغروب وأقطف منها الثمر عند اللزوم، ووظيفة مستقرة ترد علي دخلا يكفيني همّ الحياة، والتفكير الثقيل بيوم غد المشؤوم.

فليمنحوا إسرائيل ما تشاء، ولتدعنا نعيش بسلام، من غير حواجز ولا قصف ولا صوت سيارات إسعاف. وليهنأ قرنق ومن بعده سيلفاكير بجنوب السودان، ولينفصل إقليم دارفور، ولتتدخل بريطانيا وأميركا وكل أمم الدنيا فيها. تكفينا همومنا، يكفينا جوعنا، لقد مللنا الفقر وشظف العيش، وآن الأوان لأن ننعم بالثروة والنفط. ودع روسيا تلتهم الشيشان، وأميركا تبتلع العراق والسعودية وأفغانستان، ولا يؤرقن أحد بريطانيا في الكويت وقطر والإمارات وعُمان، وأعيدوا لبنان والجزائر إلى أمهما الرؤوم فرنسا.

وبدلاً من الانشغال بذلك كله، دعونا نلتفت إلى ما يثمر وينفع الناس، وإلى ما يرتب شؤوننا ويحسن أوضاعنا المعيشية، علنا نتقدم ولو قليلا فنلحق بذيل الغرب أو حتى بعضاً من أثره.

هكذا يقولون! فإن لم تسمعوا ذلك فقد قرأتموه.

هذا ملخص ما تلوكه ألسنة المفكرين الواقعيين، من علمانيين مضبوعين بالغرب، أو علماء السلطان وأكثر مشائخ الفضائيات على حد سواء، ممن يسهل عليهم تحريك ألسنتهم بالباطل، وسرد حجج التقاعس والقعود، والاستكانة للواقع البئيس والنوم العميق، الذين لا تحمر وجوههم وتنتفخ من غضبة عز لله، بل من كثرة الطعام والدعة والاتكاء على الآرائك المخملية، أولئك الذين لا يطأطئون أصابعهم ولا يحركون أناملهم الرقيقة إلا عند عدّ رزم الفلوس وكتابة المقالات المحقونة بالسم الزعاف.

يسوق هؤلاء فكرة الاستسلام للواقع والتعامل معه على أنه قضاء لا يمكن تغييره، وأن محاولة المسّ به والانقلاب عليه مجرد وهم لا بد من تجاوزه، وأن أي إصلاح لا يتأتى من خلال القنوات التي تفرزها السلطة ويسمح بها الواقع الدولي هو الانتحار والجنون بذاته.

يشعر المرء بالارتباك أمام تلك الادعاءات لأول وهلة، إذ يلمس لها واقعاً في حياته على الرغم من تناقضها ومسلماته. ويرجع وهج وجهة النظر تلك لروجانها في وسائل الإعلام، وكثرة تكرارها على المنابر وفي الندوات العامة والمفتوحة، إضافة إلى ما يقَدَّم للناس ليل نهار من نجوم، همهم نشر الرذيلة واستباحة العري والمجون، لا بل والانتشاء بذلك النوع من الفجور.

ولقد رأيت الحاجة جد ملحة، بسبب كثرة اجترار تلك المقولات وما تحويه من مغالطات، لسبر أغوارها وإماطة اللثام عن عوارها، عسى أن يسددني الله في شرح واقع الأشياء وتبيان الحقائق كما هي مجردة عن الهوى لمن زاغت بصيرته، عله يرعوي ويعود إلى جادة الصواب.

وها نحن نأخذ بلجام كل قضية على حدة حتى نحاكمها بعيداً عن ضوضاء اللغط وزحمة الكلام.

أوليس من العجيب أن نتحدث عن قلة الماء في بلاد تعتبر منبعاً للثروة المائية والتي تحتضن أطول الأنهار وأهمها في العالم، ناهيك عن البحيرات والبحار والآبار والأمطار؟ أوليس غريباً أن تُلوَّث وتملؤها القاذورات مع أن الله قد أنزلها وفجرها وأجراها طاهرة نقية؟ ألا نملك النيل ودجلة والفرات وبحيرات كثيرة وبحاراً؟ أليس جديراً إلقاء اللوم وتحميل المسؤولية للسلطات القائمة التي تهيمن على مقدرات البلاد والعباد والقادرة على استثمار هذه الموارد الهائلة وتسهيل إيصالها للناس؟ أليس من التجني إلقاء الكلام على عواهنه ونسبة ذلك إلى تمسك الأمة بإسلامها وقضاياها المصيرية؟ وكأن إلقاء الأمة تلك القضايا في سلة المهملات سينقي ماءها ويريح بالها!

أما البطالة فيحق لنا التساؤل عمن سببها وأرهق كاهل الناس بها. فبعد أكثر من خمسين سنة على الاستقلال المشبوه لأغلب البلدان العربية والإسلامية، لا يوجد مصانع للسيارات أو الطيارات أو الكمبيوترات أو المعدات الخفيفة فضلا عن الثقيلة، ناهيك عن صناعة النفط والغاز والصلب وعموم أنواع الطاقة. فمن المسؤول عن ذلك؟ ولماذا لا تستصلح الأراضي وتستثمر خصوبتها، والطقس المتنوع الذي تمتاز به بلاد المسلمين يمنحها القدرة على إنبات كافة أنواع المزروعات؟ ألا يملك المسلمون الثروة والمواد الخام والنفط والمعادن الثمينة والأرض الخصبة واليد العاملة والعلماء والخبراء المشردين في كافة أصقاع الدنيا؟ أليس المسؤول عن ذلك هو السلطات الحاكمة التي تعزف اللحن الذي يشير إليه السفير الأميركي أو البريطاني أو مندوبهما، وتطبق هذه السلطات خططهما كأنها وحي من السماء؟! وهل الانصياع للواقع يعني سوى استمرار لتلك البطالة المتضاعفة والمتضخمة؟

ولماذا شح المال وقلّت مداولته في الأسواق مع كثرته الفاحشة وثبوت تخزين تريليونات الدولارات التابعة لبلدان العالم الإسلامي منه في أمريكا وأوروبا؟ ولماذا يملك أقل من عدد أصابع اليد الواحدة من الأفراد في عديد من أوطان المسلمين من ذلك المال ما يزيد عن ثروة شعوب بأكملها، مع أنهم لم يرثوها ولا يوجد في الواقع بحسب زعمهم ما يؤهلهم امتلاكها، في دول يقتلها العوز وتنهكها كثرة الديون، إضافة إلى ادعاء شح المال وقلة وفرته؟

واضح أن واقع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتراكمة في العالم الإسلامي، تتجاوز الأفراد لتعم الناس كجماعة ومجتمع لتشمل غالب الأمة، فتخرج بذلك المعالجات حتماً من إطار الحلول والمقترحات الفردية، إلى حقل العلاج والحل الجماعي والمجتمعي ليتناول الأمة، والذي لا يملك التصرف به والقدرة على معالجته أحد سوى من يملك زمام أمور المجتمع ويتحكم بشؤونه ومقدراته ورسم سياساته، مما يمنحه القدرة على التأثير وصياغة الواقع بما يناسب تصوراته.

إن ما سبق هو محاولة لفهم الأمور بتجرد على ما هي عليه، فمجرد حدوث أية علة أو وقوع أي مرض لا يمكن تعليله باستنتاجات عشوائية تدفع إليها الغرائز وما يطفو على السطح، فذلك هشاشة في التفكير إذ لا بد من معاينة الداء وتحديده بشكل دقيق، قبل أن يتم الحكم عليه ومعالجته بشكل مناسب.

وبما أننا نتحدث عن العالم الإسلامي أو الشرق الأوسط الكبير، سمه ما شئت، فإننا نتحدث عن الأمة الإسلامية حتماً، والتي تتمثل هويتها بانتمائها إلى عقيدة الإسلام ورسالته في الحياة، ولذا كان لزاما إيجاد حلول ومعالجات لأزماتها من وجهة نظر الإسلام في الحياة ككل، بالوقوف على نظمه وقوانينه التي تعالج الإنسان كفرد وجماعة ودولة وأمة، وكان من الضروريّ تجسيد كل ذلك بدولة تحكم بالإسلام وتصهر الأمة في دولة واحدة هي دولة الخلافة الإسلامية، فوق كونها فريضة تجسد معنى العبودية لله في أرض الله وملك الله. وكان لا بد من العمل لإيجاد هذه الدولة، لأنها النمط الوحيد والترياق الشافي لها والصالح لإنهاض هذه الأمة بل والبشرية جمعاء.

وبذلك يتجلى أن محاولات الانتقاص من مفهوم الدولة الإسلامية والدعوة لإيجادها، ما هو إلا شغب نتيجة غبش وغوغائية في التفكير لا أكثر، وكان من التجني والإمعان في التضليل إضفاء المشكلات المذكورة والأزمات التي تعاني منها الأمة كتداعيات للمطالبة بدولة إسلامية أو محاولات إيجادها. مع أن دولة الإسلام غائبة بالكلية منذ أكثر من 80 سنة، وكانت تداعيات غيابها هي هذه المشكلات المذكورة وكثير غيرها، من ضياع فلسطين وتقسيم بلدان المسلمين واحتلال العراق وأفغانستان وجعل ثروات الأمة الإسلامية نهبة لأعدائها وتخلف الأمة عن ركب التقدم الذي تشهده البشرية، ذلك بعد أن كانت الخلافة الدولة الأولى في العالم بلا منازع. فعلى عكس الدعوات المتهافتة، فتحقيق النهضة المادية هو خيال طالما استمر غياب الخلافة، لأنها كانت وما زالت مرتبطة بها وجوداً وعدماً كاقتضاء وتلازم، فضلا عن أن الأمة لم تشهد فظائع مجتمعة يوماً ما كما شهدتها وقاستها بعد هدم دولة الخلافة.

أما التضحية والفداء والنضال والجهاد والكفاح فهي غنية عن التعليق، إذ إنها ضريبة سننية في خلق الله لتحقيق الأفضل والخلاص من الأسوأ، كما قال الشاعر:

وما نيل المطالب بالتمني        ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

ولا يقتصر هذا على أمة من الأمم بل هي طريق كافة الشعوب التي تصبو إلى الانعتاق والنهوض والارتقاء. أذكر أنه إثر خروج أحد الثوار الفرنسيين من معتقل النازيين بعد تعذيبه بوحشية، كي يرشد الألمان إلى مقار الثوار، وأصابه جراء ذلك 17 كسراً في وجهه وسائر جسده، قيل له لقد أبليت حسناً وأنت بطل تفخر بك فرنسا، أجاب: الحقيقة أنني لم أفعل شيئاً سوى ما يفترضه علي انتمائي لوطني، ولم أكن متميزاً في أدائي عن بقية رفاقي، فقد جمع المعتقل الكثيرين من أمثالي، ونالهم مثلي وأكثر، ولم ينل ذلك من عزيمتهم، ولم يشِ أحد منهم بأسرار الثوار الآخرين، إنها ضريبة الثورة.

هذا موقف رجل ينظر إلى فوز في الدنيا فقط دون تطلع إلى فوز برضوان الله في الآخرة، فكيف بموقف المسلم الذي يتطلع إلى فوز في الدارين؟ إنه طاقة هائلة برضوان الله لا تدانيها طاقة أخرى. إن ما يمكن تأكيده في أيامنا هذه، أن آلام الأمة ما هي إلا نتيجة ذلك المخاض العسير، الذي ستولد بعده من جديد في ثوب عروس متألقة، بعد أن تنعتق من سموم الغرب والإدمان على ثقافته والتبعية السياسية العمياء له لتعيش في كنف إسلامها العظيم، موحدة بكيانها تظلها من جديد راية العز والمجد التي تصل الأرض بالسماء بعنوان واضح المعنى بشهادة التوحيد الخالص.

وأما تحرير البلاد المغتصبة، فهي من بديهيات الفطرة البشرية، ومن أهم الفرائض الشرعية، وإذا ما استثنينا ذلك السقوط الذي تمر به أمتنا اليوم، ولو أطللنا على واقع بقية الأمم نرى أمثلة لا تكاد تحصى من كثرتها بذلت المهج والأرواح لتحرير بلدانها، فأميركا نفسها خاضت حروباً لاستقلالها عن أعدائها، وفرنسا فعلت الشيء نفسه، بل إن اليهود في فلسطين يزعمون أنهم حرروا فلسطين من العرب بعد آلاف السنين، فما بال رموز المسلمين وزعماؤهم اليوم لا يصلون إلى مستوى ذلك الدافع الغرائزي الملحّ بضرورة الكفاح لتحرير البلاد ودفع الأعداء، بدلاً من اللهاث المهين وراء سلام مزعوم، والذوبان في الآخر وكأنهم يقودون أمة من العبيد أدمنت السخرة والأسر.

أما المرأة المليحة ممشوقة القوام وما إلى ذلك من متطلبات الغريزة والدوران حول المصالح الشخصية والأنانية المفرطة وجعلها هدفاً بحد ذاتها، فإنها وإن كانت مما تتلهف إليه النفس، إلا أنها متع مؤقتة، ولا تعني الكثير إذا تخلى الإنسان عن قضاياه، وعاش عابثاً في دنيا قصيرة الأمد. بل يحق لنا أن نتساءل عن أسباب كثرة الانتحار وتفشي الأمراض النفسية حيث تكثر أمثال تلك النساء، بل ويستمتع الناس فيها بالمال والراحة المادية والرفاه الملحوظ، من أمثال الدول الاسكندنافية وكثير من الدول الغربية الثرية.

وحتى لا أطيل الحديث، فيكفي توضيحاً لمثل تلك الحجج الواهية قول الله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ @ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:14-15].

وقال الشاعر قديماً:

إذا ما صح لي ديني وعرضي

فلست لما تولّى ذو اهتمام

فالإسلام يوضح للإنسان غاية وجوده، بين قدوم ورحيل قسريين، (إلى) و (مِن) هذه الحياة الدنيا، كسهم ما إن يرميه قوس المخاض من الرحم، حتى يقفز ليسقط مسرعاً في بطن القبر، ينتقل إثرها إلى عالم البرزخ. هذا حال جميع من سكن الأرض، مؤمنهم وكافرهم. وسيطوي الموت قبيل قدوم قرن جديد، غالبية من هم الآن من أهل الدنيا إن لم يكن كلهم. لتتجدد رحلة الحياة بعد ذلك من جديد مع آخرين، يرفلون بفهم قويم لأسباب وجودهم في هذه الدنيا، مع تسخير لمكونات الأرض وخيراتها لهم، كما لم يسبق له مثيل في ظل التقدم المادي والتقني الهائل الذي حققته البشرية.

هذا إن تركنا لهم نموذجاً ترتقي إليه الإنسانية في الحياة، من خلال إيجاد دولة الخلافة، النظام الشرعي والحتمي، الذي تعوزه البشرية اليوم بحق، ليعالج مشكلاتها الكأداء. وإلا فإن البشرية ستعوم في عالم البهيمة والمادة الموصليْن إلى الشذوذ والانتحار. فبإيجاد نظام الإسلام وتجسيده في الحياة فقط تؤدى الرسالة التي يرقى بها الإنسان حقاً ويسمو عن البهيمية، وتتم به الغاية من الخلق.

قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *