العدد 224 -

السنة العشرون رمضان 1426هـ – تشرين الأول 2005م

قاعدة أهون الشرين

قاعدة أهون الشرين

يستدل بعض المشايخ المعاصرين وغيرهم من المتصدّرين لبعض نواحي العمل الإسلامي بهذه الأقوال: أهون الشرين، أو أقل الضررين، أو أخف المفسدتين، أو درء المفسدة الأكبر بالمفسدة الأصغر، أو بما في هذا المعنى؛ لتبرير بعض المواقف والأعمال المحرَّمة سواء لأنفسهم أم لغيرهم من أولياء مصالحهم. وسنبين، بحول الله تعالى، في هذه المقالة حقيقة المعنى الشرعي لهذه الأقوال.

وقد كان الدافع لهذه المقالة الجهل الواقع في فهم هذه الأقوال، وتحريف الأحكام الشرعية من خلال تطبيقها في غير مواضعها؛ لذلك ينبغي قبل البداية الإشارة إلى بلاءٍ تعاني منه الأمة، وينبغي العمل على معافاتها منه، ونسأل الله تعالى العون.

=================================================================

إن هذا البلاء هو أن الأمة ابتليت بأشخاص حظهم من العلم قليل، وزادهم من التقوى ضئيل، يُـنَـصَّـبون على منابرها، ويتصدرون مجالس التعليم الفقهي، ويتسلمون مراكز البيان والتوجيه الشرعي، في ظل واقع يروَّج فيه للفكر الغربي ونُـظُـمه، وتوضع فيه مناهج التعليم الشرعي على أساس التوفيق بين أحكام الإسلام والقوانين الغربية بما يُرضي الحكام وأسيادهم، وفي ظل أوضاع يُـستبعد فيها العلماء الحقيقيون الورِعون، ويُـغَـيَّـبون؛ لأن مواقفهم لا ترضي الحكام ولا تناسب أنظمتهم وسياساتهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وإذا كان من هم مفترضٌ فيهم أن يكونوا قادةً للأمة يدلونها على الخير لتقدم عليه، وينبهونها على مواطن الخطر لتحذره، والحرام لتحجم عنه، قد غلبَ على الكثير فيهم المقياس المادي النفعي، فبمنحةٍ ماديةٍ، أو بوظيفة أو منصب يخرجون الفتوى والبيان (الشرعي) بأن يشارك الناس في الانتخابات ولو كان إثماً، أو بأن ينتخبوا فلاناً ولو كان لا يقيم للشرع وزناً، أو بأن يؤيدوا ويساندوا هذه الفئة أو تلك ولو كانت ترى الإسلام إرهاباً أو تعدُّه تخلُّـفاً، أو بأن يشاركوا في هذا العمل أو ذاك ولو كانت شعاراته فسقاً وكفراً وراياته صليبيةً، بل صلبانَ مخنجرةً تقطر دماً، أو يدعون إلى التقارب بين الإسلام والكفر تحت عناوين الحوار بين الأديان، أو يطلقون على أصحاب القلوب الفاسدة والأيادي السوداء بأنهم أصحاب الأيادي البيضاء في خدمة الإسلام والمسلمين، ولو كانوا عملاء للكافر، ويفتحون البلاد قواعد عسكرية له؛ ليسيطر على البلاد والعباد، وينهب ثرواتها، ويأكل خيراتها، ويحارب الإسلام والدعاة إليه، تحت اسم الحرب على الإرهاب. إذا كانت هذه حال من يفترض فيهم أن يكونوا رواداً وفي طليعة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكم يكون إذ ذاك خطرهم عظيماً؟! وهل هم بهذه الحال دعاةٌ إلى الله أو عقبةٌ في طريق الدعوة؟ ! وهل هم عاملون لإنهاض الأمة أو هم معاول هدم في أيدي الحكام والسياسيين العلمانيين وأصحاب المال، يخدعون بذلك الأمة، ويفرغون جهودها، ويوهنون طاقاتها، في سياسات ومشاريع تخدم أعداء الأمة، بل قَـتَـلَـتَـهَـا؟!

وليعذرنا الشيخ الشهيد عبد القادر عودة وقد عنون لرسالته بـ(المسلمون بين جهل أبنائهم وعجز علمائهم)، فقد آل الأمر أيها الأخ الشهيد إلى العكس، فالمسلمون يعانون اليوم من عجز أبنائهم وجهل علمائهم.

نعم، جهل بالشرع، بل جهل بمعنى عقيدته، يُـنبئُ عنه ضعف حاد في الإيمان، نراه واضحاً في أقوال، ومواقف، وفتاوى، مخالفة للشرع. وقد صارت الشهادة في العلم الشرعي أداة استرزاق، وصارت المشيخة مهنة يؤكل بها، وصار موقف الحق عند أمثال هؤلاء المشايخ جهلاً وعدم فهم أو سوء تقدير لصعوبة الواقع، ومواقف غير عقلانية. وصار المحدِّد للحكم الشرعي وللموقف الشرعي -عندهم- هو مقدار ما يرجع على هذا الموجِّه، أو المعتلي للمنبر، من منفعة، أو مقدار ما يدرأ عن نفسه من ضرر. وانتشر لديهم مفهوم خاطئ وهو أننا ضعفاء وعاجزون، وعلينا أن نقبل بهذا الواقع؛ لأن الزمان ليس زماننا! وعلينا أن نحافظ على ما تبقى لنا ونرضى بما أُلقيَ إلينا من فتاتٍ أو يُـلقى، وإلا فالبديل أسوأ وأخطر!

لقد جمعوا بين الجهل واليأس فصاروا دعاة هلاك ومروجي فتنة، لقد صاروا تجربةً فاشلةً، ومثالاً فاسداً، وسبَّةً على الداعين إلى الإسلام، وحجةً عليهم، فما أعظمها فتنةً!

علماء بغير علم، يتعلمون الفقه من الواقع، ويستدلون عليه بهوى النفس، وربما بحكمة الزعيم، وليس بالقرآن والسنة، فما أعظمها فتنةً! يفتون بحسب ظروفهم وأوضاعهم، وبحسب مصلحة الجهة التي يوالونها، ويعلِّمون العقيدة علمَ كلامٍ، خاليةً من الإيمان، فما أعظمها فتنةً!

غلبت عليهم النفس الأمارة بالسوء، فنفوسهم يائسة، وخوفهم من العبد أكبر من خوفهم من رب العبد، ومقياسهم كمْ، فما أعظمها فتنة!

إن من كانت هذه أحوالهم، وأصرُّوا عليها، فالأمة -بصحوتها الصاعدة- ستلفظهم وتتعافى من الثقة بهم وتأنف الرجوع إليهم، كما تعافت قبل ذلك من الثقة بأسيادهم، وأخرجت من قلبها كلَّ أثر لولاء لهم أو انتظار خير منهم.

أيها العلماء: إن الدور الذي ينبغي أن يكون منوطاً بكم كبير، والمسؤولية التي ينبغي أن تكون على عواتقكم كبيرة، وقد حُمِّلتموها فاحملوها، ولا تكونوا كالذين حمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها، وإن تتولوا يستبدل الله بكم قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم، وستقفون يوم القيامة بين يدي الجبار، وستُسألون، فبماذا ستجيبون؟ إنه لأمر عظيم لا يهوِّن من شأنه أن تحسبوه هيناً، أو أن تمروا عليه بسرعة. فارجعوا إلى كتابكم وتدبروا فيه معنى الإيمان، وبادروا إلى قول الحق وموقف الحق. وإن الصحوة قد نالت من الأمة ونالت الأمة منها، والأمة تبحث عن روّادها لتنقاد لهم في مسيرة إعزاز دينها وإعزازها، وفي مسيرة الشهادة على البشرية. فاحذروا أن تكونوا عقبةً في طريق دولة الأمة، أو أن تكونوا أدواتٍ ومروجين لسياسيين علمانيين وفسقة أو لآخرين بائسين، ولا تكونوا من الذين قال الله تعالى فيهم: ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) [الجاثية 23].

إن الله تعالى هو النافع وحده، وهو المعز والمذل، وهو الرافع والخافض، فتدبروا معنى الإيمان ومعنى التوكل على الله في المواقف، كل المواقف، وأفتوا الناس حينئذٍ بحكم الشرع وعلِّموهم كما يعلمكم الشرع، حينئذٍ تكونون علماء حقيقيين ورواداً صادقين للأمة، والفظوا من بين صفوفكم الجواسيس، والدجالين، والمنحرفين، والمرتزقة.

أما فيما يتعلق بالقواعد المذكورة آنفاً، الأخذ بأهون الشرين وما في معناها، فإن العلماء الذين يأخذون بها، يدركون ضوابطها ومواضع إعمالها، فلا يصح أن يؤخذ نص القاعدة وكأنه شرعي مطلق، أو يأخذ مبتوراً عن شروط تطبيق القاعدة، ثم تعطى بناءً عليه فتاوى تُـبَـرَّرُ بها الأعمال المحرمة ويخدع بها الناس.

والقاعدة الشرعية ليست نصاً شرعياً، وإنما هي حكم شرعي؛ لأن نصها صياغة بشرية، صاغه فقيه أو مجتهد. والنصوص الشرعية هي نصوص القرآن والسنة فقط. ولكن كان من الأدق أن يطلق عليها اسم قاعدة شرعية، وليس حكماً شرعياً؛ لأنها في واقعها قاعدة إضافةًً إلى كونها حكماً، أي أنها تتسم بالعموم أو بالكلية؛ لأنها تنطبق على أفراد كثيرة بناءً على لفظ عام، أو على جزئياتٍ كثيرة بناء على علة؛ وعلى ذلك فإذا حصل خلاف في القاعدة أو في تطبيقها فيجب الرجوع إلى المصادر، أي النصوص الشرعية التي استنبطت منها القاعدة، فهي التي تبيِّـن معنى القاعدة، وحدود تطبيقها ومواضعه، وحالات الاستثناء منها أو تخصيصها.

وهذه القاعدة المذكورة أعلاه بنصوصها المختلفة، عند العلماء الذين يأخذون بها، ترجع إلى معنى واحد، وهو جواز الإقدام على أحد الفعلين المحرّمين، وهو الفعل الأقل حرمة منهما، وهي ليست مطلقةً بهذا المعنى، وإنما مقيدة فيما إذا كان المكلَّف لا يسعه إلا القيام بأحد الحرامين، ولا يمكنه أن يترك الاثنين معاً؛ لأن ذلك متعذر أي خارج عن الوسع، أو في حالة يسعه فيها ألا يقدم على أيٍّ من الحرامين، ولكنه إذا فعل ذلك فسيقع الحرامان معاً، أو سيقع أشدهما حرمةً، أو سيقع حرامٌ أشد من الاثنين، فهذه من شروط أو ضوابط إعمال هذه القاعدة. ولإعمالها ضوابط أخرى تختلف بحسب اختلاف المسائل أو الأوضاع، ويتحدد الفقه فيها في كل مسألةٍ على حدة.

أما مستند هذه القاعدة فهو المعلوم ضرورة من الدين أن الحرام يُـترك والواجب يُـفعل، فإذا كثرت الأفعال المحرمة فيجب تركها كلها سواء كانت اثنتين أم أكثر، وإن كثرت الواجبات فيجب فعلها كلها سواء كانت واجبين أم أكثر، وكذلك يقال في المكروهات والمندوبات مع فارق أن المكروه يُـكره ولا يحرم، والمندوب يُـستحب ولا يجب.

وإنما يقولون بجواز الإقدام على أقل الحرامين مع أنه حرام، وبأفضلية الإقدام على أقل المكروهين مع أنه مكروه شرعاً، وبتعبير آخر أخف المفسدتين أو الشرين أو الضررين، أو يقال بدرء المفسدة الأعظم بالمفسدة الأخف، فيما لو كان لا يمكن درء المفسدتين معاً أو كان درؤهما معاً يؤدي إلى مفسدة أعظم. قال تعالى: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) [التغابن 16] وقال: ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ) [البقرة 286]. ومن هذه النصوص يتبين معنى هذه القاعدة وكيفية تطبيقها؛ وبناءً عليها -أيضاً- يقال بفعل الأوجب ولو عن طريق ترك الأقل وجوباً إذا تعذر إيقاع الواجبين معاً، أو يقال جلب المصلحة الأكبر بترك المصلحة الأصغر. وينبغي أن يلاحظ أن لفظ المصلحة والمفسدة هنا لا يطلق بمعنى المنافع والمضار بحسب الأهواء وحظوظ النفس، وإنما بحسب ما طلبه الشرع أو نهى عنه. قال الغزالي: «أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع. ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهي: أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم»1.

وبناء على ما سبق، فإن استخدام هذه القواعد للإفتاء بفعل المنهي عنه في غير هذه الحالات هو فتوى بغير ما أنزل الله، ولا يقول بذلك أحد من العلماء الصادقين، قال صلى الله عليه وسلم: «من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض» أخرجه السيوطي في (الجامع الصغير) وقال حسن؛ وعلى ذلك فإن قول من يقول انتخبوا فلاناً وإن كان علمانياً كافراً أو فاسقاً، أو أيدوا فلاناً ولا تؤيدوا الآخر؛ لأن الأول يساعدنا والثاني لا يساعدنا، أو ما شاكل ذلك، وسواء أكان القائل شيخاً، أم عالماً، أم لم يكن، هو قولٌ مردودٌ شرعاً، ولا يصح الاستناد فيه أو في مثله إلى هذه القواعد، وإنما الذي يقال هنا: إن الأمرين المعروضين أمامنا محرَّمان، فلا يجوز انتخاب العلماني ولا يجوز توكيله أو إنابته لتمثيل المسلم في الرأي؛ لأنه لا يلتزم بالإسلام، ولأنه يقوم بأعمال محرَّمة لا يجوز للموكِّـل أن يقوم بها كالتشريع والمصادقة على مشاريع محرَّمة، وكالمطالبة بالمحرمات والقبول بها والسير فيها، وبالجملة فهو ينهى عن المعروف ويأمر بالمنكر؛ ولذلك فلا يجوز انتخاب أي منهما؛ لأن انتخاب هذا أو ذاك حرام. وترك انتخاب هذا أو انتخاب ذاك داخل في الوسع. ولا يقال مثلاً: إن لم ننتخب ونساعد في إنجاح فلان فسينتخب غيرنا شخصاً أكثر ضرراً. لا يقال ذلك مثلما أنه لا يقال: إن لم نفتح الخمَّـارة نحن ونتقوَّى بمكاسبها فسيفتحها غيرنا (سيفتحونها هم) ويكسبون هم. وإنما السبيل هنا أن يُـترك الحرامان، وأن يُـدعى الآخـرون إلى أن يلتزموا أيضاً بترك المحرمات، فإن فعلوا كان خيراً لهم وإن لم يفعلوا كان شراً لهم. قال تعالى: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [المائدة]. وأخرج الترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، عن قيس بن أبي حازم قال: «قام أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) وإنكم تضعونها على غير مواضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيِّروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب». وأخرج الترمذي وصححه وابن ماجة عن أبي أمية الشعثاني قال: «أتيتُ أبا ثعلبة الخُـشَـني فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قوله: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) قال: أما واللهِ، لقد سألت عنها خبيراً. سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوْا عن المنكر، حتى إذا رأيتَ شحاً مطاعاً، وهوًى متبعاً، ودنيا مؤثرةً، وإعجابَ كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوامِّ، فإن من ورائكم أياماً، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم»، وفي لفظ: «قيل: يا رسول الله، أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين رجلاً منكم».

فمن هذه النصوص يتبين أن الحرامين يتركان، ويؤمر الناس بترك الحرام. ولا تنطبق هنا قاعدة أهون الشرين.

وإنه لمن المهازل أن يعترض هنا، ومن قِـبَـل مشايخ، بقولٍ سخيف: «يعني نقعد، لا نعمل شيئاً!» والجواب: إذا كنت بين أمرين إما أن تعمل حراماً وإما أن لا تعمل شيئاً ولا ثالث لهما، أي لا تستطيع أن تعمل خيراً، فالواجب أن تقعد وتكف أذى نفسك عن الناس، ولسانك عن تحريف الدين. قال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» رواه الشيخان. والأصل أن تقوم ولا تقعد، وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأن تسعى لوجود من يستحق أن يُـنتخَـب، أو أن تسعى لتغيير الأوضاع كلياً؛ لأن الواجب هو أن لا تَحكُـمَ أو تُـحكَم إلا بالإسلام، وأن لا تحتكم إلا إلى الإسلام. فقم لرفع شأن أمتك: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) [الرعد 11].

إن هذا الموضع وأمثاله لا تنطبق عليه هذه القواعد، والذين يطبقونها في مثل هذه المواضع ينطبق عليهم قوله تعالى: ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ) [المائدة 52].

وإن مثال ما يطبق فيه هؤلاء المخطئون هذه القواعد هو كأن يُـعرضَ على المكلَّف طعامان أحدهما فيه ميتة والآخر فيه لحم خنـزير، فهل معنى القاعدة هو أن يبحث المكلف عن أقلهما حرمةً ثم يأكله، أو أن كليهما طعام حرام وعليه تركهما؟ نعم، كلاهما حرام، وعليه أن يجد طعاماً مما أحل الله أو فليصبر.

وأما العلماء الذين يأخذون بهذه القواعد، المدركون لحقيقتها، فهذه أمثلة من تطبيقاتهم لها:

1- إذا ما وصل الإنسان إلى حد الاضطرار الذي يخشى معه فوت الروح، وعند ذاك فإذا وجد حرامين فعله بالأقل حرمةً وإذا وجد حلالاً فلا.

إن هذه القواعد ليست معقدة ولا غامضة، وإنما هو البلاء المذكور، بلاء الجهل واليأس وقلة الدين. وسأذكر فيما يلي مثالين لتطبيق هذه القواعد لأجل مزيد من الوضوح، ثم أذكر أمثلةً مما ذكره بعض الأئمة ليكون القارئ على بيِّـنة من الأمر وطمأنينة.

2- إذا تعسَّـرت ولادة الأم ووقع العجز عن إنقاذ الأم والجنين معاً، واحتاج الأمر إلى قرار سريع: إما إنقاذ الأم وهذا يقتضي موت الجنين، وإما إنقاذ الجنين وهذا يقتضي موت الأم. وإذا تُـرك الأمر ولم يُـعمل على موت أحدهما لإنقاذ الآخر، أو إحياء أحدهما بموت الآخر، فقد يؤدي إلى موت الاثنين. ففي مثل هذه الحالة يُـقال بأهون الشرين، أو أقل الحرامين، أو أخف المفسدتين، وهو أن يقدم على الفعل الذي ينقذ المطلوب إنقاذه وهو الأم، ولو كان هذا الفعل نفسه قتلاً للآخر.

وينبغي أن يلاحظ هنا أن تعيين الفعل الأقل حرمةً لا يرجع إلى هوى أو مشيئة وليِّ أمر الأم والطفل، وإنما يرجع إلى الشرع، فكما أن الشرع هو الذي يبين ما هو حلال وما هو حرام، فهو أيضاً الذي يبين أيهما آكد في الشرع.

3- أن يتعرض شخص للهلاك غرقاً أو قتلاً من قِـبَـلِ شخص آخر، أو للإصابة بأذىً بليغٍ في بدنه وأعضائه، أو أن يُـعتدى على امرأة بالزنا، بحضور مكلَّـف يستطيع منع هذه المنكرات وعليه صلاة مفروضة قد يفوت وقتها، فإما أن يمنع ذلك الحرام فيفوته أداء الواجب، وإما أن يؤدي الواجب في وقته فيقع ذلك الحرام، والوقت لا يتسع لفعل الأمرين معاً. فهنا يأتي تطبيق القاعدة، وتكون الموازنة أيضاً من قِـبَـلِ الشرع الذي جعل رفع تلك المحرمات المذكورة آكد من أداء الواجب المذكور، ولو أمكن فعل الواجبين معاً لوجبا. ولا يقال: نفعل الأوجب ويجوز القعود عن الأقل وجوباً.

وكما مَرَّ آنفاً فإن الموازنات بين الأحكام ترجع إلى الشرع. وللفقهاء فيها قواعد للقياس، والمشابهة، والتقدير، والمقارنة. ولا يسعنا الدخول فيها وإنما أشير إلى ذلك بما يلفت النظر، وتفاصيل ذلك في الفقه، وربما كانت صعبة المورد ولكنها عذبة المذاق.

فحفظ نفسين أولى من حفظ نفسٍ واحدة والثلاثة أولى وهكذا، وحفظ النفس مقدم على حفظ المال، وحفظ دار الإسلام داخل في حفظ الدين وهو أَوْلى من حفظ النفس والمال، وكذلك الجهاد والإمامة العظمى فهما داخلان في حفظ الدين من أوَّل وأَوْلى الضرورات، وفي الموازنة بين الإكراه على الزنا والقتل اختلاف والله أعلم. قال الشاطبي في الموافقات: «إن النفوس محترمة محفوظة ومطلوبة الإحياء بحيث إذا دار الأمر بين إحيائها وإتلاف المال عليها، أو إتلافها وإحياء المال، كان إحياؤها أَوْلى، فإن عارض إحياؤها إماتة الدين كان إحياء الدين أَوْلى، وإن أدى إلى إماتتها، كما جاء في جهاد الكفار وقتل المرتد وغير ذلك، وكما إذا عارض إحياء نفس واحدة إماتة نفوس كثيرة»2. وقال الغزالي في المستصفى: «ونحن نعلم أن الشرع يؤْثِـر الكليَّ على الجزئي، فإن حفظ أهل الإسلام عن اصطلام الكفار أهم في مقصود الشرع من حفظ دم مسلم واحد… فإن قيل: فتوظيف الخراج (الضرائب) من المصالح، فهل إليه من سبيل أو لا؟ قلنا: لا سبيلَ إليه مع كثرة الأموال في أيدي الجنود، أما إذا خلت الأيدي من الأموال ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات (رواتب) العسكر، ولو تفرّق العسكر واشتغلوا بالكسب، لخيفَ دخول الكفار بلاد المسلمين، أو خيفَ ثوران الفتنة من أهل العرامة في بلاد المسلمين، فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند، ثم إن رأى في طريق التوزيع التخصيص بالأراضي فلا حرج؛ لأنا نعلم أنه إذا تعارض شران أو ضرران قصدَ الشرعُ دفع أشد الضررين وأعظم الشرين، وما يؤديه كل واحد منهم (أي من الأغنياء الذين فرضت الضريبة في أموالهم) قليل بالنسبة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكةٍ يحفظ نظام الأمور ويقطع مادة الشرور»3.

وهذه أمثلة أخرى ذكرها الإمامان الغزالي وعز الدين بن عبد السلام، رحمهما الله، يظهر فيها كيفية إعمال قاعدة أهون الشرين عندهما، ويظهر فيها أيضاً موازنات بين الأحكام. قال العز في كتابه قواعد الأحكام في مصالح الأنام: «إذا اجتمعت المفاسد المحضة فإن أمكن درؤها درأنا، وإن تعذر درء الجميع درأنا الأفسد فالأفسد، والأرذل فالأرذل، فإن تساوت يُـتَـوَقَّـف، وقد يُـتَـخَـيَّـر، وقد يُـخْـتَـلَـف في التساوي والتفاوت، ولا فرق في ذلك بين مفاسد المحرمات والمكروهات»4. ثم ذكر أمثلة فقال: «أن يُـكرَهَ على قتل مسلم بحيث لو امتنع منه قُـتِـلَ، فيلزمه أن يدرأ مفسدة القتل بالصبر على القتل؛ لأن صبره على القتل أقل مفسدة من إقدامه عليه، وإن قدر على دفع المكروه بسبب من الأسباب لزمه ذلك؛ لقدرته على درء المفسدة؛ وإنما قُـدِّم درء القتل بالصبر على القتل لإجماع العلماء على تحريم القتل واختلافهم في الاستسلام للقتل»5. فهذا مثال واضح في أنه اختيار لأخف المفسدتين أو الحرامين لأنه لا فكاك له من أحدهما، ولو أمكنه منع المفسدتين لوجب عليه ذلك.

وقال في مثال آخر: «وكذلك لو أكره بالقتل على شهادة زور أو على حكم بباطل، فإن كان المكره على الشهادة به أو الحكم به قتلاً، أو قطع عضو، أو إحلال بضع محرم، لم تجز الشهادة ولا الحكم؛ لأن الاستسلام للقتل أولى من التسبب إلى قتل مسلم بغير ذنب، أو قطع عضو بغير جرم، أو إتيان بضع محرَّمٍ. وإن كانت الشهادة أو الحكم بمالٍ، لزمه إتلافه بالشهادة أو بالحكم حفظاً لمهجته كما يلزمه حفظها بأكل مال الغير. وكذلك من أكره على شرب الخمر أو غَـصّ ولم يجد ما يسيغ به الغصة سوى الخمر، فإنه يلزمه ذلك؛ لأن حفظ الحياة أعظم في نظر الشرع من رعاية المحرمات المذكورات»6. وقال في مثال آخر: «إذا اضطر إلى أكل مال الغير أكله؛ لأن حرمة مال الغير أخف من حرمة النفس، وفوات النفس أعظم من إتلاف مال الغير ببدل، وهذا من قاعدة الجمع بين المصلحتين وبذل المصلحة الأخرى»7.

ومن أمثلته أيضاً: «إذا وجد المضطر إنساناً ميتاً أكل لحمه؛ لأن المفسدة في أكل لحم ميت الانسان أقل من المفسدة في فوت حياة الإنسان»8. ومنها: «إذا وقع رجل على طفل بين الأطفال إن قام على أحدهم قتله وإن انفتل إلى آخر من جيرانه قتله، فقد قيل: ليس في هذه المسألة حكم شرعي، وهي باقية على الأصل في انتفاء الشرائع قبل نزولها، ولم ترد الشريعة بالتخيير بين هاتين المفسدتين. فلو كان بعضهم مسلماً وبعضهم كافراً فهل يلزمه الانتفال إلى الكافر لأن قتله أخفُّ مفسدةً من قتل الطفل المحكوم بإسلامه؟ فالأظهر عندي أنها تلزمه؛ لأنا نجوِّز قتل أولاد الكفار عند التترس بهم حيث لا يجوز مثل ذلك في أطفال المسلمين»9. أما قوله إن المسألة باقية على الأصل في انتفاء الشرائع قبل نزولها، فهو لجهة أن الأطفال جميعاً متساوون نظرياً، فإذا وقعت الحادثة فسيكون فيها من الحيثيات ما يُـرجعَ مناط الحكم فيها إلى أوصاف أخص من مجرد عموم كونهم أطفال أو أي عموم آخر فيها. وهذه المسألة أول من أوردها -والله أعلم- هو إمام الحرمين الجويني في كتابه غياث الأمم عند التياث الظلم، وذكر أنها ليست لها في الشريعة حكم، مع أنه أكد في كتابه نفسه أنه ما من واقعة إلا ولها في الشريعة حكم.

ومن أمثلة العز بن عبد السلام أيضاً: «إذا اغتلم البحر بحيث علم ركبان السفينة أنهم لا يخلصون إلا بتغريق شطر الركبان؛ لتخف بهم السفينة، فلا يجوز إلقاء أحد منهم في البحر بقرعة ولا بغير قرعة؛ لأنهم مستوون في العصمة، وقتل من لا ذنب له محرم، ولو كان في السفينة مال أو حيوان محترم لوجب إلقاء المال، ثم الحيوان؛ لأن المفسدة في فوات الأموال والحيوانات المحترمة أخف من المفسدة في فوات أرواح الناس»10. ومن أمثلته: «لو أكره بالقتل على إتلاف حيوان محترم من حيوانين يَـتَـخَـيَّـر بينهما». «ولو أكره على شرب قدح خمر من قدحين يتخير بينهما». «ولو وجد حربيَّـين في المخمصة فإن تساويا تخير في أكل أيهما شاء، وإن تفاوتا بأن كان أحدهما أجنبياً والآخر أباً، أو ابناً، أو أماً، أو جدةً، كره أن يأكل قريبه ويدع الأجنبي، كما يكره أن يقتله في الجهاد. ولو وجد صبياً أو مجنوناً مع بالغ كافر أكل الكافر بعد ذبحه وكف عن الصبي والمجنون، لما في أكلهما من إضاعة مالِـيَّـتِـهما على المسلمين، ولأن الكافر الحقيقي أقبح من الكافر الحكمي»11. ومن أمثلته أيضاً: «قتل الكفار من النساء والمجانين والأطفال مفسدة لكنه يجوز إذا تترس بهم الكفار بحيث لا يمكن دفعهم إلا بقتلهم». «قتل من لا ذنب له من المسلمين مفسدة إلا إذا تترس بهم الكفار وخيفَ من ذلك اصطلام المسلمين ففي جواز قتلهم خلاف؛ لأن قتل عشرة من المسلمين أقل من مفسدة قتل جميع المسلمين»12. وللغزالي تفصيل في هذا المثال الأخير حيث يقول: «إن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلماً معصوماً لم يذنب ذنباً، وهذا لا عهد به في الشرع، ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضاً، فيجوز أن يقول قائل: هذا الأسير مقتول بكل حال فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع؛ لأنا نعلم قطعاً أن مقصود الشرع تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان، فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل»13.

فهذا المثال واضح في أن الوضع الذي يُـلجأ فيه إلى العمل بأخف الحرامين أو المفسدتين هو وضع العجز عن تجنب الحرامين جميعاً أو منعهما جميعاً، انظر قوله: «فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلماً معصوماً» وقوله «فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على القليل».

ثم يقول الغزالي: «وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم إذ لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة، فبنا غِـنْـيَـةٌ عن القلعة»14.

بهذه الأمثلة التي ذكرها بعض الأئمة على إعمال قاعدة أهون الشرين يتبين معنى القاعدة ومواضع إعمالها، ويتبين أيضاً كيفية الموازنة بين المصالح والمفاسد، كما ويتبين مقدار البلاء الذي ترزح تحته الأمة في ظل أقوال وتوجيهات تصدر باسم العلم والفقه، وما هي إلا دلالة على الانحطاط الذي أصاب الأمة بسبب هيمنة عدوها وزبانيته عليها؛ ولذلك وجب التنبيه إلى الخطأ في إعمال هذه القاعدة وإلى خطأ الموازنات غير الشرعية التي تقلب أحكام الشريعة رأساً على عقب. ولعل من هؤلاء المخلصين من يتنبه إلى مقدار خطئه وخطره على أمته، فيسعى إلى التوبة مما باء به، ويقرر التخلص مما يحوك في صدره، والله من رواء القصد.

محمود عبد الكريم حسن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- المستصفى، ج1، ص: 286، دار الكتب العلمية.

2- ج2، ص: 27، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.

3- ج1، ص: 304.

4- ج1، ص: 71.مؤسسة الريان.

5- الموضع نفسه.

6-الموضع نفسه.

7-المرجع نفسه، ص: 72.

8- الموضع نفسه.

9- المرجع نفسه، ص: 73

10- الموضع نفسه.

11- المرجع نفسه، ص: 74.

12- المرجع نفسه، ص: 83.

13- المستصفى، ج2، ص: 294.

14- المرجع نفسه، ص:296.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *