العدد 225 -

السنة العشرون شوال 1426هـ – تشرين الثاني 2005م

مفهوم الأقلية (2)

مفهوم الأقلية (2)

إن مفهوم الأقلية مفهوم أجنبي، لم يعرفه المسلمون ولم يعرف في الإسلام. وقد ابتلي به المسلمون حين مزقهم هذا المفهوم وما زال يمزق ويشتت بهم حتى الآن. وقد استخدمته الدول الاستعمارية كسلاح فعال للتدخل في شؤون الدول والشعوب الأخرى، ولتمزيقها؛ حتى يسهل استعمارها، والهيمنة عليها، ومنعها من النهضة والتقدم. وقد قيل إن سياسة الاستعمار تعتمد على المقولة التالية: «فرق تسد».

=================================================================

مفهوم الأقلية لا يعالج المشكلة

إن مفهوم الأقلية الذي أصدره الغرب وصدره إلى العالم لا يعالج ما يسمى بمشكلة الأقليات، بل هو الذي يوجد الأزمة ويعقدها، فهو يعمل على إيجاد الفوارق بين مجموعات الشعب الواحد، ويعمل على تقسيمه. ولكن العلاج الصحيح  والحق في هذه المسألة هو العمل على إيجاد الانسجام بين المجموعات البشرية المختلفة. لأن وجود الفوارق في اللغات والأديان والعادات والتقاليد، وفي الأعراق والألوان والأنساب، أمر طبيعي بين البشر منذ أن خلق الله البشرية. وإذا أردت أن تقسم الناس على أساس هذه الفوارق فإنه يجب عليك في النهاية أن تقسم القبيلة الواحدة، بسبب ظهور فوارق بين بطونها، وظهور بطن أقل عدداً من الأخر وإعطائه صورة المظلوم لقلة عدده، وظهور عادات وتقاليد جديدة لديه، وربما معتقدات جديدة بسبب وضعه الجديد وانزوائه عن أقاربه الأكثر عدداً، وتخصيص نفسه ببقعة أرض خاصة به، وشعوره بعدم القدرة على التأثير. فتتولد لديه أحاسيس بأن يشكل لذاته الجماعية كياناً خاصاً به.

إن مفهوم الأقلية مفهوم مختلق من قبل الدول الاستعمارية الكبرى خاصة، ومن قبل مؤسستها وأداتها العالمية، ألا وهي الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي الذي يصدر القرارات، ويعطي للدول الاستعمارية هذه صلاحية التدخل، بل واحتلال البلاد وفرض العقوبات والحصار، وغير ذلك من أنواع الجرائم التي ترتكب في حق شعوب آمنة بريئة قادرة على حل مشاكلها بنفسها، حيث تقوم هذه الدول الاستعمارية الجشعة المتخمة والمترفة التي لا تشبع ولا تعرف الشبع،  والتي تعودت على مص دماء الأبرياء ونهب ثرواتهم، بإقامة حكومات لها تسميها ديمقراطية، تدعي حقوق الإنسان وهي منها براء، وتنادي بحرية الشعوب وهي تتعشق حب التعذيب والاغتصاب وتتفنن فيه بل وتتلذذ عليه، وآخر مثال لهذه الدول أميركا في العراق. فما يسمى بحقوق الأقلية ما هو إلا مشروع استعماري بحت بعيد كل البعد عن أي ناحية إنسانية، بل هو الذي يوجد الأعمال الوحشية، ويسيل الدماء، ويثير الدهماء والفتن والقتل والدمار.

علاج ما يسمى بمشكلة الأقليات

إن علاج المشاكل بين المجموعات البشرية ذات الفوارق المختلفة، والتي ربما يحدث بينها مشاكل وفتن كما يحدث بين أبناء المجموعة الواحدة، لا يكون بإقصائها عن أختها في كيان منفصل ومستقل، فإن هذا كتقطيع أعضاء الجسد الواحد، كلما اشتكى عضو منه قاموا ببتره ورميه جانباً حتى لا يبقى هناك جسم يذكر.

إن حدوث المشاكل أمر طبيعي في المجتمعات البشرية، ولكن يعمل على حلها بالتصالح بين الناس بعدما يعرف سبب المشكلة، وفي إزالة الفساد والظلم الذي ربما يكون سبب المشكلة أو أنه قد ظهر بعد حصول المشكلة؛ فمشكلة دارفور في السودان كانت بسبب الاختلاف على المراعي بين القبائل، ومن ثم صارت دولة فرنسا الاستعمارية تمد قبائل مسلمة غير عربية بالسلاح والعتاد وتحرضها على أخواتها القبائل المسلمة العربية، فجاء النظام الفاسد في السودان لا ليعالج المشكلة بتصالح هذه القبائل وتنظيم شؤون المراعي والمياه واستصلاح مراعٍ جديدة والاهتمام بشؤون الناس؛ فيكون بذلك قد قطع يد المستعمر الأثيمة الممتدة من تشاد، بدلاً من ذلك راح يمد القبائل العربية بالسلاح، ظاناً بعقله الغبي الذي لا يتمتع القائمون عليه بأية صفة من صفات رجل الدولة أنه سيسكت المشاكل هناك ويقطع دابر الفتنة، ولأنه يظن أن أميركا قد رضيت عنه بسبب قبوله بالحل الأميركي بتنازله عن الجنوب، وأنها سوف لا تتدخل هناك، أي في دارفور. ولكن ظن الأغبياء هؤلاء قد خاب.

ولهذا يجب النظر في أساس المشكلة وسبب ظهور الفساد والظلم، فإن كان نتيجة وجود نظام فاسد أصلاً وظالم؛ لأن عقيدة هذا النظام باطلة وفاسدة؛ عندئذ يصبح الواجب على الناس تغيير هذا النظام من جذوره وذلك كالنظام العلماني في تركيا. فإذا  تشكّى الأكراد قي تركيا وقالوا إن لغتنا ممنوعة يقال لهم إن لغة الأتراك ممنوعة، وأجبروا على تغيير أسماء عائلاتهم ومنعوا من أن تكون أسماء عائلاتهم عثمانية أو عربية، وكذلك منعت نساؤهم من ارتداء اللباس الشرعي وأجبرت على السفور، ومنعت ثقافتهم الإسلامية وأجبروا على تجرع الثقافة الغربية المرة كمرارة العلقم، بل منع ما هو أكبر من ذلك وأعظم ألا وهو دينهم الحنيف وأقصي عن الحياة وعن الدولة وعن المجتمع، وحوصر في المساجد وفي بعض الطقوس والأشكال الكهنوتية. والناظر يرى أن الأكراد يشتركون مع إخوانهم الأتراك في نفس المشاكل. فالحل ليس تقسيم البلد، وإنما هو إزالة هذا النظام الفاسد العفن. وهذا يكون بالعمل الجماعي المشترك من قبل أهل البلد تركاً وكرداً وعرباً وغيرهم من المسلمين القاطنين فيما يسمى بتركيا بدون تمييز بينهم. ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن يحمل العمل للتغيير أي طابع قومي أو وطني أو مذهبي، أو أن يكون فيه أي فكر من هذا القبيل، بل يجب أن يكون إسلامياً صرفاً خالصاً. وإن قال الأكراد في العراق إننا حرمنا من نفطنا في كركوك فنقول لهم إن المسلمين جميعا حرموا منه، والحل ليس هو الخيانة والتعاون مع أميركا لاحتلال البلد وتقسيمها، وإزالة الطاغوت صدام واستبداله بطواغيت أخرى اسمها علاوي وبرزاني وطالباني وأضرابهم من الطواغيت الكبيرة أو الصغيرة، ومنحهم كياناً كردياً منفصلاً، ومنح الشيعة كياناً آخر، بل الحل في الأمس كان بالعمل على تغيير النظام السابق كما كان يعمل بعض المخلصين من دعاة الخلافة، وقد أعدم العديد منهم وسجن الكثير منهم، ومع هذا صبروا واحتملوا واحتسبوا، ولكنهم لم يتعاونوا مع دول الكفر ولم يستدعوها ولم يستعدوها لتحتل البلد وتهدمه على رؤوس أهله بحجة الإعمار وإعادة البناء وإزالة الدكتاتور. والحل اليوم هو طرد  المستعمر المحتل وتغيير النظام. ويجب أن يعمل الجميع معاً بدون وجود أية فوارق قومية أو مذهبية، بل يجب أن يكون العمل إسلامياً بحتاً.

وأما إن كان النظام إسلامياً أساسه العقيدة الإسلامية، وحصل فيه إساءات في تطبيقه أو مظالم أو مفاسد من قبل ولاة الأمر، فيعمل على إصلاح النظام وإصلاح المسببين لذلك، أو تغييرهم إذا اقتضى الأمر بعد التحقق من ذلك ومقاضاتهم لدى محكمة المظالم، لأن أساسه صالحاً. وهذا ما كان يجب عمله في الدولة العثمانية. ولكن العكس هو الذي حدث، إذ أعطى الاستعمار الشيطان معاول الهدم لرعايا هذه الدولة من مسلمين وغير مسلمين، ومن عرب وترك وكرد، ومن صرب وبلغار وألبان، ومن غيرهم، وهو معهم ومن ورائهم، ومن ثم صار في مقدمتهم في الحرب العالمية الأولى، وانقضوا عليها حتى هدموها ومزقوها شر ممزق، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً، فكانت عاقبة أمرهم خسراً. والصورة السيئة التي نحن عليها الآن معاشر المسلمين من تمزق وتأخر وهزيمة وذل وهوان هي نتيجة خيانتنا لديننا ولدولتنا الإسلامية بحجة أنها ظلمتنا وقصرت بحقنا، وأننا نريد حق تقرير مصيرنا واستقلالنا، كالذي يقتل أمه وأباه وإخوته وأهله وكل أقاربه بحجة أنهم ظلموه وأنه يريد أن يأخذ حقه ويستقل عنهم، فيبقى وحيداً مهزوماً لا نصير له ولا معين، والكل يعيبه ويهينه ويحتقره.

التناقض بسبب الديمقراطية

إن الغرب يناقض نفسه عندما يقول بالديمقراطية التي يعبر عنها بحكم الأكثرية، فالأكثرية عند الغربيين تحكم الأقلية، ولو كان الأمر ظاهرياً، وهي التي تشرع القوانين، لأن القوانين لا تصدر عندهم إلا بموافقة الأكثرية، والحكومة تشكل من قبل الأكثرية. وعلى الأقلية أن تنصاع وتخضع لحكم وتحكّـم الأكثرية. أليس هذا، بحسب مقولتهم، نوعاً من الظلم والتسلط من تحكم مجموعة بشرية كبيرة بمجموعة قليلة؟!

ربما يردون علينا بقولهم إن مفهوم الأقلية لا ينطبق على واقع الأقلية في الديمقراطية؛ لأن مفهوم الأقلية ينطبق على المجموعة البشرية التي لها فوارق لغوية أو دينية أو في العادات والتقاليد وتقل عدداً عن غيرها.

نقول لهم إن حصر التعريف في المجموعة البشرية التي لها مثل هذه الفوارق خطأ. لأن المسألة في تحكم الأكثرية بالأقلية. ففي كثير من البلاد تكون ما يسمى بالأقليات منسجمة ومتآخية مع الأكثرية أكثر من انسجام أقلية الديمقراطية مع أكثريتها. لقد كانت المجموعات البشرية ذات الفوارق المختلفة، والتي منها قلة العدد، منسجمة في ظل الدولة الإسلامية مع المجموعة الأكثر عدداً، وتتمتع كلها بحقوق متساوية. حتى إنه بعد زوال ظل الدولة الإسلامية وبسبب وجود أثار الإسلام عند الناس، بقيت المجموعات البشرية قليلة العدد منسجمة مع المجموعة كثيرة العدد، فلم تثر بينها تلك الفوراق تلقائياً وذاتياً، وإنما أثارتها القوى الاستعمارية وعملاؤها كما ذكرنا من قبل، وهي التي حددت مفهوم الأقلية بهذا المعنى عن طريق آلتها الأمم المتحدة، حتى تقوم بالتدخل، وتقسم البلاد حتى تضعفها وتستعمرها بذريعة حماية حقوق الأقليات.

والغرب يناقض نفسه أيضاً عندما يمنع الأقلية العددية عنده من أن تتمرد على حكم الأكثرية، مهما كانت القوانين مجحفة بحقهم، بل تجبرهم على الخضوع وإلا فإنهم يقومون بعمل غير ديمقراطي، ولكن عندما تقوم مجموعة بشرية تسمى أقلية في العالم الإسلامي بالتمرد تنصرها هذه الدول الديمقراطية وتمدها بالسلاح وبكل ما يلزم لتحقيق الانفصال.

فالمسألة ليست وجود فوارق أو عدمها، وليست وجود عدد كبير أو عدد قليل، بل المسألة هو تحقق العدل للجميع، وإعطاؤهم كافة حقوقهم بصورة متساوية، وعدم تحكم فئة كبيرة بفئة صغيرة، وعدم تشريعها حسب مصالحها وأهوائها؛ فلهذا لا يفرق الإسلام بين الناس. فمهما كانت فوارقهم اللغوية والدينية، ومهما كانت عاداتهم وتقاليدهم، فكلهم متساوون في الحقوق، وأمام القضاء، وأمام الدولة، ومع الناس الآخرين الذين يعيشون معهم في المجتمع. ولا توجد مجموعة كثيرة العدد تشرع حسب مصالحها وأهوائها، وتتحكم في المجموعات البشرية الأقل عدداً وتحكمها حسب تشريعاتها؛ ولهذا لا يوجد في الإسلام وفي نظام حكمه مفهوم الأكثرية ومفهوم الأقلية. فالحاكمية لله الذي هو رب العالمين؛ قال تعالى: ] إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [ [يوسف 40] والسيادة لشرع الله الذي هو فوق الجميع؛ قال تعالى: ] فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [ [النساء 65] والسلطان للأمة، فهي التي تنتخب خليفتها وتعقد له البيعة ليحكمها بشرع الله، وهي التي تحاسبه وتقومه؛ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء. قالوا فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: فو ببيعة الأول فالأول، فإن الله ســائلهم عمــا اســـترعاهم» (رواه مسلم)، وهـذا الخليفة ليس من الأكثرية ولا من الأقلية، وإنما هو الشخص الذي تتوفر فيه الشروط الشرعية ويرتضيه الناس من أي عرق أو قوم أو مذهب كان. وأوجب محاسبته على أي ظلم يحدث لأي فرد من أفراد الرعية، أو أي فساد يظهر بين رعايا الدولة، أو أي تقصير في حق أي شخص يحمل تابعية الدولة.

نظرة الإسلام لمفهوم الأقلية

وأما نظرة الإسلام لمفهوم الأقلية الذي يعني المجموعات البشرية ذات العدد الأقل، والتي لها فوارق في اللغة والدين والعرق، وفي العادات والتقاليد؛ فإن الإسلام يرفضه جملة وتفصيلاً. ففي الإسلام يسمح لكل اللغات ولا تمنع أية لغة أبداً، يسمح لأهلها أن يتكلموا ويقرأوا ويكتبوا وينشروا بها فيتكلم بها أهلها ويقرؤون ويكتبون وينشرون بها ما أرادوا، ولكن بدون أن يثيروا نزعات قومية. وقد قال تعالى: ] وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [ [الروم 22] والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يمنع أية لغة في الدولة الإسلامية، وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده. ولكن كانت لغة الدولة الرسمية هي لغة دين الله الإسلام لغة القرآن الكريم والسنة الشــريفة. ولم يفرق الإســلام بين ألوان البشر ولا بين أعراقهم وأقوامهم وقبائلهم. قال تعالى: ] يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [ [الحجرات 13] وأما العادات والتقاليد، فإن كانت لا تخالف الشرع فهي مسموح بها، وإذا خالفت الشرع فهي ممنوعة. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (رواه البخاري ومسلم وأبو داود). والعادات والتقاليد هي عبارة عن أعمال؛ إما أن تكون مما أجازها الشرع فهي مباحة لكل قوم، وإما أن تكون مما لم يجزها الشرع فهي على كل الشعوب. وأما  مسألة قلة عدد قوم؛ فهذه لا تلعب دوراً في الدولة أو في المجتمع؛ فلا يستضعف إنسان، أو يحقر، أو يهان، أو تهضم حقوقه؛ لأن عدد قومه قليل، فهذه المسألة غير واردة في الإسلام قطعاً، وإنما ترد في الأنظمة الجاهلية، مثلها مثل ما يرد في تلك الأنظمة من تمايز ومفارقة ومعاداة بسبب اختلاف اللون أو اللغة أو القوم والقبيلة والعشيرة والعادات والتقاليد. ولهذا لم تستطع تلك الأنظمة حل هذه المعضلة فوضعت قانون البتر، أي فصل كل أقلية عن الأخرى. قال رئيس الدولة الإسلامية والخليفة الراشدي الأول أبو بكر الصديق، رضي الله عنه،: «إن القوي فيكم عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه، وإن الضعيف فيكم عندي قوي حتى آخذ له حقه».

وأما مسألة أصحاب الديانات الأخرى، أي غير المسلمين، فهم متساوون في الحقوق مثل المسلمين، ولا يجوز إيذاؤهم، والذي يؤذيهم يعاقب حسب جرمه، إن قتل أحد أحدهم يقتل به، وإن سرق أموالهم تقطع يده، وإن زنى بإحدى نسائهم يجلد إن كان أعزباً، ويرجم إن كان متزوجاً وإلى غير ذلك من العقوبات. فهم من رعايا الدولة يحملون التابعية لها. وقد سموا أهل الذمة، أي أهل العهد؛ لأننا نعطيهم عهداً أي أماناً بأن نحميهم ونذود عنهم ونحفظ لهم أعراضهم وأموالهم وأنفسهم، ولا نكرههم على ترك أديانهم، ونتسامح معهم في معتقداتهم وعبادتهم وزواجهم وطلاقهم ومطعوماتهم  وملابسهم ضمن النظام العام. وأما في المعاملات والعقوبات فتطبق عليهم كما تطبق على المسلمين سواء بسواء. فهم يحملون التابعية مثل المسلمين. فلا يطلق عليهم أقلية دينية قطعاً، وإنما هم  حاملو تابعية الدولة الإسلامية مثل المسلمين. وتسميتهم بأهل الذمة ليس تحقيراً لهم، بل هو فخر لهم، لأنهم في ذمة المسلمين محميون ومحفوظون. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من آذى ذمياً فقد أخفر ذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة» (رواه الترمذي).

وأما الاختلاف الثقافي؛ الذي يقصدون به اختلاف الدين، واللغة، والعادات، والتقاليد، والأعراف. وهذا كنا قد بحثناه من قبل، فعند الغربيين تعريفات متعددة لمعنى الثقافة. فنأخذ تعريف أحد الغربيين كالتالي: «الثقافة هي ذلك المركب الكلي الذي يشتمل على المعرفة والمعتقد والفن والأدب والقانون والعرف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع1».

ولكن لدى المسلمين تعريفاً للثقافة أصح وأدق، وهو على الشكل التالي: «هي المعارف التي كانت العقيدة الإسلامية سبباً في بحثها، سواء أكانت هذه المعارف تتضمن العقيدة الإسلامية وتبحثها مثل علم التوحيد، أم كانت مبنية على العقيدة الإسلامية مثل الفقه والتفسير والحديث، أم كان يقتضيها فهم ما ينبثق عن العقيدة الإسلامية من الأحكام، مثل المعارف التي يوجبها الاجتهاد في الإسلام، كعلوم اللغة ومصطلح الحديث وعلم الأصول2».

خاتمة

وانطلاقاً من هذا، فإن ثقافة المسلمين واحدة، وتنسب للأمة الإسلامية فقط، ولا تنسب  للعرب أو للترك أو لغيرهم من الشعوب الإسلامية، بل تنسب لهم جميعاً باسم أمتهم الواحدة. فهم أمة واحدة من دون الناس كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وأهل الذمة هم من رعايا الدولة وحاملي تابعيتها، لهم نفس الحقوق التي يتمتع بها المسلمون. ومسؤولية حمايتهم تقع على الدولة الإسلامية، ولا يسمح بتدخل الدول الأجنبية في شؤونهم بأي شكل من الأشكال. ولهذا لا يرد موضوع الأقليات ولا مفهومه عند المسلمين. وليس هو موضوع بحث لديهم أو في دولتهم الإسلامية؛ لأنه لا يوجد له واقع فيها أو في دينها. فهو من إفرازات الفكر الغربي ودوله الاستعمارية. والغاية منه تجزئة بلاد المسلمين، وتجزئة الأمة الإسلامية، واستعمارها، والحيلولة دون نهضتها.

[انتهـى]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- إدوارد تايلور، من كتابه «الثقافة البدائية» الصادر عام 1881م.

2- تقي الدين النبهاني، من كتابه «الشخصية الإسلامية» الجزء الأول، منشورات دار الأمة – بيروت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *