العدد 226 -

السنة العشرون ذو القعدة 1426هـ – كانون الأول 2005م

أميركا وإعادة تأهيل العالم الإسلامي

أميركا وإعادة تأهيل العالم الإسلامي

لقد وجدت في السنوات القصيرة الأخيرة ظاهرة إغراق الساحة العالمية في المفاهيم والنظريات والفرضيات والمصطلحات مثل النظام العالمي الجديد، العولمة، وعسكرة العولمة، حرب الأيدولوجيا، الحرب على الإرهاب، الإصلاح، مشروع الشرق الأوسط الكبير، الحوار مع الإسلاميين المعتدلين، وأخيرا ظهرت نظرية الفوضى الخلاقة وترددت على ألسنة الساسة الأميركان. وستركز هذه المقالة على هذه النظرية وربطها بالحوار مع الإسلاميين المعتدلين.

=================================================================

يعتبر إدراك ومعرفة نوايا الولايات المتحدة المتمثلة بزعامة المحافظين الجدد أمراً في غاية الأهمية، خصوصاً لمن يسعون لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الخلافة التي لابد لها من أن تكون الدولة الأولى في العالم  بلا منازع، حتى يتسنى لهم الحكم على فحوى الأعمال السياسية، والقدرة على اتخاذ وصنع القرار السياسي، والتأثير في الحلبة الدولية.

وحتى نستطيع تصور ما يدور في خلج قلوب الأميركان من نوايا سيئة تجاه العالم الإسلامي، لا بد لنا من بعض التفصيل في أفكار سياسية تبلورت في عقول الساسة الأميركان، قد تترجم إلى أعمال ممنهجة ومنمطة بأساليب خبيثة قد تخفى على كثير ممن يراقبون الأحداث السياسية.

سياسة اللااستقرار (نظرية الفوضى الخلاّقة أو البنّاءة) في الشرق الأوسط:

إن سياسة اللااستقرار سياسة جديدة أصبحت تتربع على الصفحات الأولى من الأجندة الأميركية عموماً، لاسيما فيما يتعلق بالشرق الأوسط ( وقد تنتقل إلى أميركا الجنوبية) وقد بدأت هذه السياسة منذ تولي الإدارة اليمينية الحكم في أميركا (المحافظون الجدد). ولإدراك خطورة هذه السياسة وما يندرج تحتها من برامج في الفترة الحالية لابد لنا من تصور ومعرفة التالي:

لقد كانت الولاية الأولى للإدارة الأميركية تتزعم منفردة حملة القضاء على الإرهاب بعد أحداث 11/9/2000م، وضرورة تغيير بعض الأنظمة بمنطق القوة العسكرية. وبعد أربع سنوات من هذه الحملة التي انطفأت شرارتها نوعاً ما، كان لابد للولاية الثانية من أن تغير من اسم الحملة إلى حملة القضاء على الاستبداد والديكتاتورية، ونشر الديمقراطية والحرية في العالم والإصلاح، ولكنها في مضمونها تحقق نفس الأهداف وزيادة، تلك الأهداف التي كانت تراودها ومازالت على الصعيد السياسي والاقتصادي خصوصاً.

وكما أبدعت الإدارة الأميركية اللعبة في فترة الولاية الأولى بجعل العالم يقف ضد الإرهاب، كان لابد من التفنن الإبداعي في الولاية الثانية؛ لتحقيق مزيد من الأهداف والمصالح، بجعل العالم ينفر من الديكتاتورية والاستبداد التي عانت منها أوروبا وأحلت بدلاً منها الحرية والديمقراطية. فكان مصطلح الفوضى الخلاّقة الذي يعبر عن سياسة اللااستقرار.

وحتى لا نطيل، فإن المقصود من الفوضى الخلاقة أو البناءة هي تفضيل اللااستقرار على الاستقرار( الذي بات لا يلبي مطامع أميركا ونواياها في المنطقة) بدرجة معينة تقبلها الولايات المتحدة الأميركية، بحيث يتم تحريك الركود والجمود السياسي في المنطقة. وقد قدم روبرت ساتلوف (كان مستشاراً في مجلس الأمن القومي، والمدير التنفيذي “لخزان الأفكار” معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، التابع للوبي اليهودي. وجاء كثير من خبراء اللوبي اليهودي من هذه المؤسسة مثل مارتين إنديك). دراسة من حلقتين تتناول تقييم هذه السياسة بعد تداعيات اغتيال الحريري، وما هو الواجب على الإدارة الأميركية عمله في سوريا ولبنان على وجه الخصوص (يفهم من التقرير أن اغتيال الحريري فُرض على أميركا). ولأن التركيبة اللبنانية مختلفة عن سائر الدول، كان التقرير مقتصراً على سوريا ولبنان، ولكن هذا لايعني أن لا تعمم أميركا هذه النظرية على سائر الدول، وتشرع إلى إخراجها إلى حيز التطبيق مثل العراق، وهذا ما نبهت إليه كونداليزا رايس بشان العراق أنها تفضل الفوضى القليلة (ولسنا في معرض التفصيل على ما يحاك لكل دولة بحد ذاتها) ولكن ما هي الدوافع التي دفعت أميركا لتبني هذه السياسة، وما علاقتها بمشروع الشرق الأوسط الكبير؟

إنه يمكن وضع الدوافع التالية التي يراد تحقيقها من اختراع وتطبيق الفوضى الخلاّقة:

1- بقاء الوضع في العالم الإسلامي على ما هو عليه لم يعد أمرا مقبولاً في أروقة السياسة الأميركية؛ لذلك كان لابد من تغييره بشتى الأساليب والوسائل، سواء أكان عن طريق القوة الاقتصادية، أم القوة العسكرية، أم القوة الشعبية؛ ليحقق مصالح أميركا المتشعبة في المنطقة بشكل فعّال، وقد قامت أميركا بتغيير بعض الأنظمة مثل العراق وأفغانستان بالقوة العسكرية، على اعتبار أن ينتج عنه انعدام الاستقرار السياسي والاقتصادي، والدخول في حالة الفراغ السياسي المؤقت، والهدف من ذلك إيجاد بديل جديد يحمل مشاريع أميركا في المنطقة، ويكون له مد جماهيري وشعبي مستساغ.

2- ضرورة فتح قنوات مع شعوب المنطقة بشكل مباشر، وبشكل غير مباشر أي غير ملموس، من خلال تكتلات وحركات مقبولة أميركياً (بغض النظر عن منظومتها الفكرية وميولها الإسلامية) وذلك لشعور أميركا بأن الشعوب وصلت إلى حالة شديدة من الاحتقان ضد كل ما تقوم به أميركا في المنطقة وخصوصاً دعمها المطلق لكيان يهود، وضد أدواتها من الحكام العرب، وما يدلل على هذا صدور أكثر من تقرير في هذا المجال مثل التقرير الذي أصدره الخبير السياسي الأميركي إدوارد جرجيان بعنوان “دور الدبلوماسية الأميركية بمعركة كسب العقول والقلوب”، وتقرير آخر بعنوان “من الصراع إلى التعاون: كتابة فصل جديد في العلاقات الأميركية العربية” وأصدرته لجنة استشارية أشرف على عملها مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية في واشنطن، وأبرز ما يطالب التقرير به هو تقوية العلاقات التبادلية مع الشعوب العربية من خلال المنح المتبادلة، والاستثمار في جيل القيادات العربية القادم. والهدف من ذلك السيطرة على الشعوب، وجعلها أداة بيد أميركا تنفذ ما تريده، سواء بالانقلابات أم بمعارضة مشاريع لدول كبرى غير أميركا، أي جر الشعوب إلى تنفيذ مخططاتها، وبذلك تتحكم بإرادة الشعوب. فأميركا لم تعد تكتفي بالعمالة.

3- القليل من الفوضى التي يجب أن تبلغ درجتها النسبة التي ترضاها أميركا ليس أمراً سيئاً؛ لأنها ستقضي على الوضع القائم، وتكون بداية لولادة الديمقراطية في المنطقة. ولا بد من وضع الثقة بالمؤسسات النيابية، وهذا ما صرحت به وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس في مقابلة صحفية مع الواشنطن بوست في 22/4/2005م، وذلك في رد على سؤال أحد الصحفيين، فيما إذا كانت متأكدة من ايجابية النتائج المترتبة على انتقال الديمقراطية إلى المنطقة العربية؛ وذلك بقولها إن طبيعة المصالح الأميركية تقتضي تحريك الركود الذي يسود المنطقة بالقدر الذي لا يسمح بالانزواء الفوري للأنظمة الراهنة، وهذه هي لعبة الفوضى الخلاّقة، وأيضاً ما قالته في محاضرة في الجامعة الأميركية بالقاهرة “إن أميركا أخطأت على مدار ستين عاماً من الحفاظ على الاستقرار في المنطقة”.

4- جعل المنطقة تعج بتيارات فكرية متعددة ضمن إطار الديمقراطية وحقوق الإنسان (الحضارة الغربية) ومن ضمن هذه التيارات والتموجات الفكرية الإسلامُ المعتدل الذي يوافق أفكار الغرب ولا يعارضها، وقد بات ظاهراً أن الإسلام المعتدل دخل في مرحلة الغزل الأميركي، وأن الولايات المتحدة أصبحت لا تخشى ظهور الحركات الإسلامية بشكل مؤثر على الساحة السياسية والدولية، بل تحاول استغلاله.

5- تحقيق مكاسب اقتصادية مدخلها الديمقراطية.

أما عن الترابط بين الفوضى الخلاّقة وشعار القضاء على الاستبداد والديكتاتورية ونشر الديمقراطية، فإن نشر الديمقراطية يتطلب تعدد وجهات النظر المتناقضة والمختلفة، مما يدفع المنطقة إلى مزيد من التشظي والنـزاعات، ويجعل المنطقة في حالة من التوتر من خلال اللعب بورقة الحرية والإرهاب الفكري والأقليات، وهذا كله يظهر في الاستراتيجية الأميركية التي تتبعها في منطقتنا بعد توصية ريتشارد هاس(مدير التخطيط في وزارة الخارجية وسفير متجول، ويعمل كذلك مديراً لبرامج الأمن القومي ومسؤولاً رفيعاً في مجلس العلاقات الخارجية. وكان أحد الصقور المساندين لإسرائيل في إدارة بوش الأب حيث يعمل في مجلس الأمن القومي. وهو أيضا من الداعمين بشدة لشن حرب على العراق، وهو عضو في جماعة دراسات الأمن القومي بوزارة الدفاع) وذلك بما يلي:

1) سعي واشنطن لوضع “برنامج سري” لتشجيع الديمقراطية.

2) فرض الديمقراطية لن يكون بشكل ثوري ولكن بشكل تدريجي وحسب ما يناسب كل بلد.

3) تشجيع الديمقراطية سيكون بالدعم المالي الذي ستقدمه واشنطن للحكومات بهدف توسيع دائرة النمو الاقتصادي.

4) استعداد واشنطن للقبول بمعضلة الديمقراطية المتمثلة في وصول حزب إسلامي للحكم عبر الانتخابات.

5) هدف أميركا من تعزيز الديمقراطية هو الحفاظ على مصالحها الاقتصادية والخوف من انفجار متوقع في هذه البلدان “من أحزاب مخلصة”

يقول هاس: “إن الأساس المنطقي الأميركي في تشجيع الديمقراطية في العالم الإسلامي هو في نفس الوقت لمصلحتنا ولمصلحة الغير، فالمزيد من الديمقراطية في البلدان ذات الأكثرية الإسلامية هو أمر جيد للشعوب، ولكنه أيضا جيد بالنسبة للولايات المتحدة، فالبلدان المبتلاة بالجمود الاقتصادي والافتقار إلى فرص عمل، وبالأنظمة السياسية المنغلقة، وبالسكان المتكاثرين، ستكون تربة خصبة لخروج المتطرفين، فلابد من بناء الديمقراطية من الداخل دون فرضها من الخارج، وتقديم المساعدات اللازمة، وسماع شكاوى الشعوب“.

وبسبب أهمية وخطورة هذا التقرير، فإننا سنكمل مع هاس باقتباس أخر مطول، حيث يقول: “نحن ندرك تماما عندما نشجع الديمقراطية أن التحرك المفاجئ نحو الانتخابات الحرة في البلدان ذات الأكثرية الإسلامية قد يأتي بالأحزاب الإسلامية إلى الحكم، وحتى لا نترك مجالاً لسوء الفهم، فإن الولايات المتحدة لا تعارض الأحزاب المسيحية واليهودية والإسلامية في الديمقراطيات ذات الأسس العريضة، ودليل ذلك طريقة استقبالنا لنتائج الانتخابات في تركيا، وقد عبر رئيس وزراء تركيا عبدا لله غول بعد أدائه القسم «نريد أن نثبت أن الهوية الإسلامية يمكن أن تكون ديمقراطية وشفافة وتتماشى مع العالم المعاصر» إذاً فأميركا تريد أن يكون حزب العدالة والتنمية هو النموذج الذي يجب الإقتداء به.

والخلاصة:

يتضح أن أميركا تريد من الفوضى الخلاقة أو البناءة مع الديمقراطية ومشروع الشرق الأوسط الكبير أن تجعل المنطقة الواحدة في البلد الواحد مزعزعة من جميع النواحي الفكرية والاقتصادية والسياسية، من خلال أزمات توجدها هي بين الأحزاب السياسية لتحقق أهدافها ومآربها بحجة الإصلاح، والتغيير، و حرية التعبير، والتعددية، والانفتاح على العالم، حيث يلتقط هاس ذلك ويردف قائلاً” ولعل النماذج الديمقراطية التي ترسمها أميركا لكل بلد مع ما يتناسب مع احتياجاته أصبحت جاهزة (في مصر: إقامة كيان قبطي. في السعودية: تسليم المنطقة الشرقية لشركة أرامكو. ناهيك عن السودان، والجزائر، والمغرب، ولبنان، وسوريا، وفلسطين)” .

من هنا تتضح العلاقة بين سياسة الفوضى البناءة والديمقراطية، إذ بدون الديمقراطية والقضاء على الاستبداد لا يمكن جعل المنطقة مضطربة ومتوترة ومزعزعة وهشة لا تصمد أمام العواصف والرياح السياسية القادمة من الغرب، بيد أنه مع هذه الفوضى كان لابد من أن يكون هناك من يحمل مشاريع أميركا في المنطقة، بغض النظر عن علمه أو جهله بذلك، ويبدو أن هؤلاء هم الإسلاميون المعتدلون.

الحوار مع الإسلاميين

أما عن فكرة الحوار مع الإسلاميين المعتدلين، وجعل حصة لهم ومشاركة في صنع القرار السياسي للبلد، من غير أن يكون المقصود أن يستلموا الحكم، فما هي الدوافع التي دفعت الأميركان إلى التعاون مع هؤلاء الإسلاميين، وما هي مصلحتها من ذلك؟ وهل أصبح الصراع الدولي على هؤلاء الإسلاميين ممكناً؟ وهل تتعارض فكرة الفوضى الخلاّقة (اللااستقرار) مع فكرة الحوار مع الإسلام المعتدل؟

دوافع أميركا من استغلال وامتطاء الحركات(الإسلامية) المعتدلة:

الدوافع الموضوعية والذاتية:

1- فشل الأنظمة الحاكمة في إعادة العلاقة بينها وبين الشعوب بعد خروج الاستعمار الأجنبي إلى حالتها الطبيعية علاقة الراعي برعيته، مما أدى إلى انكشاف عمالة الحكام وخيانتهم ورغبة الشعوب بالتغيير.

2- انتشار الصحوة الإسلامية في أوساط المسلمين على امتداد الحقبة الزمنية الماضية، خصوصا بعد النصف الأول من القرن العشرين.

3- تنامي الحركات الإسلامية التي تطالب وتعمل على قلب الأنظمة الحاكمة بإعادة دولة الإسلام.

4- جعل الحركات الإسلامية المعتدلة تقاوم الأفكار المبدئية المطروحة وتطالب بالحل الجذري.

5- حرف رغبة التغيير الحقيقية عند الأمة الإسلامية، والقيام بعملية استباقية لإجهاض التغيير الجذري المتمثل بإعلان الخلافة الإسلامية.

6- في حال خروج من يناهض أميركا ولا يرضى بما تقوم به هذه الحركات الإسلامية المعتدلة، فإنه لن يكون سوى نائب تحت قبة البرلمان الذي ارتضته له أميركا، وقد يعد من “المتطرفين” ولكنه يبقى داخل المظلة الأميركية وهي البرلمان.

7- الضغط على كيان يهود من خلال الحركات الإسلامية المعتدلة التي تملك حصة مهمة في صنع القرار السياسي في بلد معين بمعارضة تنفيذ بعض المشاريع الاقتصادية معها.

8- تحقيق المزيد من المكاسب الاقتصادية التي لا يمكن تحقيقها إلا بمزيد من الديمقراطية.

9- إحكام القبضة والهيمنة على العالم وضمان عدم خروج السيطرة من أيديها.

لقد أدركت الولايات المتحدة بأن المعركة الأيديولوجية وحرب الأفكار لن يتم كسبها والانتصار فيها إلا إذا خاضتها عبر الحركات الإسلامية نفسها، حتى يتسنى كسب عقول المسلمين وقلوبهم؛ لأن الساسة الأميركان قد أدركوا ذلك. يقول رامسفيلد “إن الصراع الجاري في العالم الإسلامي لن يفوز في أخر المطاف إلا بأناس من قلب هذه الديانة”. إن الحركات الإسلامية المعتدلة تريد أميركا جعلهم حصان طروادة، تريد جعلهم الحصان الأيديولوجي الذي قررت أن تمتطيه لعقد صلح بين الحضارتين الغربية والإسلامية. فهذا واضح أنه مؤامرة من الخارج ستعود فائدتها إلى الخارج. والمراقب للحركات الإسلامية المعتدلة، التي أثبتت أنها أقوى في التعاطي مع الشعوب الإسلامية من الحركات العلمانية التي لم تجد لها سوقاً ولا قواعد شعبية للتحرك والاعتصام والعصيان المدني، يجد أن تلك الحركات الإسلامية تسعى لامتلاك كراسٍ جديدة في الأنظمة السياسية المختلفة.

ولكن أميركا لها شروط على من يريد من الإسلاميين المعتدلين أن تكون له حصة في صنع القرار السياسي في بلده، ومنها:

1- الديمقراطية والحرية والحوار وتبادل الآراء خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها بأي حال من الأحوال.

2- عدم استخدام العنف بأي شكل من الإشكال.

3- التداول السلمي للسلطة من خلال الانتخابات.

ودليل ذلك تأجيل الانتخابات الفلسطينية، إذ إن هذا التأجيل ليس قراراً ذاتياً صدر من محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، وإنما صدر من بوش نفسه؛ لأن محمود عباس كان يرفض التأجيل، ولكن بعد زيارته لأميركا أصدر قراراً بتأجيله، وسبب ذلك أن أميركا تعتبر حماس بمثابة حركة “إرهابية” ولا يمكن أن تندمج بالسياسة العامة إلا بعد أن تنبذ “العنف” أي الجهاد، وتلقي السلاح؛ لذلك لن تتم الانتخابات إلا بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة حتى لا يوجد مبرر لحركة حماس   للمقاومة. قال بوش في مؤتمره الصحفي مع عباس25/5/2005 في رسالة واضحة منه لحماس أنها إن أرادت المشاركة في السياسة فعليها التخلي عن السلاح، وذلك بقوله: “لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية قائمة على القانون إذا كانت هناك عصابات مسلحة تستعمل السلاح لأغراض سياسية”.

وهذه الشروط فهمت من تصريحات مسؤولين رفيعي المستوى، بأنه لابد من مشاركة الأحزاب الإسلامية والتعامل مع الأمر الواقع مثل: مادلين أولبرايت، كونداليزا رايس، رامسفيلد، ناهيك عن التقارير التي تنصح أميركا بالتعامل مع هؤلاء الإسلاميين لما فيه مصلحتها.

ومن المتوقع أن يكون لهؤلاء الإسلاميين نصيب من الدعم الأميركي وذلك على النحو التالي:

1- إزالة بعض التكتلات الإسلامية عن لائحة الحركات الإرهابية بعد أن وصمت بالإرهابية.

2- إعطاء تلك الحركات الإسلامية أكبر قدر ممكن من التغطية الإعلامية لسماع أفكارها وبرامجها السياسية( إن وجدت)

3- دعم المجتمع المدني لتمكين وتوطيد العلاقة بين الحركات الإسلامية المعتدلة المختلفة.

4- الاستعانة بالمسلمين المغتربين، واعتبارهم رأس حربة لإحياء الديمقراطية والتعددية في العالم الإسلامي؛ بسبب ما لديهم من مخزون ثقافي عالٍ عن الحضارة الغربية.

5- تشجيع إصلاح المدارس الدينية والمساجد لتكون منطلقاً للأفكار الإسلامية “المعتدلة”.

وبهذا تكون أميركا قد أوقعت الحركات الإسلامية المعتدلة في فخ لا يمكن الخروج منه، وغيرت طريقة التفكير عند الأمة الإسلامية من خلال تضليل هذه الحركات لها.

ولكن قد يطرح هنا تساؤل: إذا كانت أميركا تريد زعزعة المنطقة وجعل التوتر هو السمة البارزة فيها، فإن هذا يتعارض مع فكرة الحوار مع الإسلاميين المعتدلين، الذين بوصولهم إلى الحكم من خلال المد الجماهيري ربما سيزيد من فرض استقرار المنطقة؟ وبمعنى أخر فان نظرية الفوضى الخلاقة تتعارض مع نظرية الحوار مع الإسلاميين المعتدلين.

نقول:

1- لن تجعل أميركا كل الإسلاميين في سدة الحكم، وإنما سيكون لبعضهم حصة مؤثرة في صنع القرار السياسي، وقد يكون بعضهم في سدة الحكم.

2- تأثير الإسلاميين في (صنع القرار السياسي) لا يعني استقرار الوضع، فالبلاد لا تخلو من الحركات العلمانية ذات الميول غير الإسلامية، ناهيك عن الأقليات الطائفية والعرقية التي تعد ورقة رابحة لزعزعة الوضع كلما أرادت (كالأقباط في مصر، والنصارى في السودان..).

3- الديمقراطية كفيلة بتقسيم وتفتيت المنطقة وجعلها في دوامة أزمات ومشاكل.

4- زعزعة المنطقة ستكون حسب ما يتناسب مع كل بلد، بالإضافة إلى حجم الثقل الإسلامي المعتدل في ذلك البلد وحجم الأقليات.

ومن الجدير الانتباه إلى أن الحوار مع الإسلاميين أصبح موضع اهتمام عند الدول الفاعلة في المسرح الدولي، وقد بدا الصراع عليهم وكأنهم ثروة أو مواد خام يحتاجونها لتنفيذ مشاريعهم الاستثمارية. فهاهي أوروبا تصدر وثيقة للحوار معهم، إذ كشف مسؤول ألماني ملامح إستراتيجية أوروبية جديدة للحوار مع العالمين العربي والإسلامي، وربط الشعوب العربية بأوروبا. وهذه الاستراتيجية تعتمد على فتح قنوات الحوار المباشر مع القوى الإسلامية والمنظمات غير الحكومية، وتركز على مخاطبة أجيال الشباب‏.

وهكذا نستطيع الربط بين امتداد السياسة الأميركية في الولاية الأولى والثانية، والربط بين الحرب على الإرهاب و الفوضى الخلاقة والحوار مع الإسلاميين المعتدلين. وحتى نحكم الربط، لا بد لنا من بعض الفواصل التي تربط وتوضح الامتداد السياسي لأميركا.

 كان معنى الحرب على الإرهاب في مفهوم الساسة الأميركان، وحتى عند مجموع الأمة الإسلامية، تعني الحرب على الإسلام، وما قول بوش “إنها حرب صليبية” إلا دليل على ذلك، وهي في حقيقتها ليست زلة لسان عند من يعي حقد الكفار والصليبيين على الإسلام وأهله، ولكن ما هي نتائج هذه الحرب؟

1- الإطاحة ببعض الأنظمة من خلال القوة العسكرية للخروج من أزمة اقتصادية بلغت أوجها، فالحرب هي المخرج المفضل والسريع الوحيد من الأزمات الاقتصادية التي تؤدي إلى الانتعاش الاقتصادي، وما سينتج عنه من زعزعة الأوضاع في (العراق، أفغانستان) وهذا ما تسير عليه أميركا في الولاية الثانية ولكن بأساليب مختلفة.

2- إحكام القبضة والهيمنة على العالم بوجودها العسكري المباشر في المنطقة، ومنع قيام تحركات إسلامية مخلصة.

3- جعل شعوب المنطقة تميل إلى الإسلام (الذي تريده أميركا) من خلال تكتلات معينة تستثمرها أميركا في الولاية الثانية من خلال الحوار مع الإسلاميين المعتدلين.

وبذلك تكون أميركا قد أحكمت قبضتها على (الأنظمة العميلة )، وعلى التحركات والتفاعلات التي تحصل لدى الشعوب، وعلى التنظيمات والأحزاب.

إن جملة هذه التغيرات يمكنها أن تضع مشاريع الإصلاح الأميركي في مكانها المناسب لها. فالانتخابات البلدية والتشريعية والرئاسية، ووجود ضغوطات خارجية، فإنها كلها بأنواعها ما هي إلا مشروع أميركي، ويأتي ضمن خطة أميركية لوضع الشعوب على السكة الأميركية المقررة سلفاً. فالانتخابات الفلسطينية، والعراقية، والسعودية البلدية، وغيرها، كلها تأتي لتندرج في هذا المخطط؛ لذلك لا بد من الحذر الحذر في السير في هذه المؤامرات الخبيثة والمهلكة.

هذا ما تريده أميركا من إعادة تأهيل العالم الإسلامي حسب رؤيتها، ولكن ماذا إذا تم أعادة تأهيل العالم الإسلامي إلى أمر أخر وهو قيادة العالم من خلال دولة الخلافة الإسلامية، بعد قلب بعض أنظمة الحكم المتهاوية والساقطة وتوحيد الأمة الإسلامية تحت راية خليفة واحد، نسأل الله أن يعجل بقيامها.

أبو سعدي ـ فلسطين الأسيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *