العدد 301 -

العدد 301 – السنة السادسة والعشرون، صفر 1433هـ، الموافق كانون الثاني 2012م

مع القرآن الكريم

مع القرآن الكريم

 

(إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه

عطاء بن خليل أبو الرشته

أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:

من هذه الآيات يتبين ما يلي:

  1. إن قوله سبحانه (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي ) فيه دلالة – حسب لغة العرب – على أنه جواب لسائل، فقد روي أن الكفار قالوا: أما يستحي رب محمّد أن يضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت؟ بعد أن ضرب الله مثلاً لمن يعبدونهم من دون الله ويتخذونهم أنداداً (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) الحج/آية73 ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت/آية41. بعدها قال الكفار ذلك القول، فأنزل الله سبحانه( إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) على سـبـيل المقابلة وإطـبـاق الجـواب على السؤال، وهو فنّ من كلام العرب بديع. وهنا يكون المعنى الراجح ( لَا يَسْتَحْيِي ) – وهو من المتشابه – أي لا يترك الله ضرب هذه الأمثال خشية قولكم المذكور لأن هذه الأمثال هي الحق فيما ضربت له، وحيث إن التمثيل إنما يصار له لتوضيح المعنى، فإن كان المتمَثَّلُ له عظيماً كان المتمَثَّلُ به كذلك، وإن كان المتمثَّل له حقيراً  كان المتمثَّل به كذلك. ولأن حال الآلهة التي جعلها الكفار أنداداً لله هي حال حقـيرة، لذلك كان المتمَـثَّل لها في سورة الحج والعنكبوت كذلك. وهذه الآية بهذا المعنى يتناسب موضعها هنا مع ذكر الله سبحانه في الآيات قبلها ( فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) ).

  2. (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) أي فوقها بالمعنى الذي ضربت فيه مثلاً وهو القلة والحقارة، فيكون المعنى بعوضة فما دونها كما ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم جناح البعوضة للدنيا: «لو كانت الدنيا عند الله تعدل جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء» تحقيراً لقيمة الدنيا بالنسبة لنعيم الآخرة عند الله.

  3. (فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا ).

إنَّ ( أَمَّا ) هنا حرف فيه معنى الشرط، ولذا كان الجواب بالفاء، وفائدته في الكلام التوكيد كما قال سيبويه في معنى “أما زيد فذاهب” أي مهما يكن من شيء فزيد ذاهب، وعلى هذا يكون المعنى هنا أنه مهما كان المثل فإن المؤمنين يصدقون به ويطمئنون إليه، وأما الذين كفروا فإنهم سيسخرون منه من باب المكابرة والمعاندة للحق مهما كان المثل.

والوقوف هنا تامّ بعد ( مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا ) لأنه لو وُصل لكان ما بعده صفة له وهو ليس كذلك، فليس المثل هو الذي يضلّ ويهدي بذاته بل هذا بيان وتفسير للجملتين المصدَّرتين بأما، أي أن هذا المثل يهتدي به فريق ( فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا ) ويضل به فريق ( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ) ولهذا فلا محلّ لها من الإعراب لأنها جملة تفسيرية أي ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ﮟ ).

  1. إن الفاسقين هم الذين يضلون بالأمثال التي يضربها الله سبحانه، والفسق هو الخروج عن الأصل كخروج الطير من البيضة بعد أن يكسرها. فالخروج عن أحكام الشرع هو الفسق، وقد بيّن الله صفتين من صفات الفاسقين: نقض عهود الله، وقطع ما أمر الله به أن يوصل.

أما الأول فالنقض هو الحلّ بعد الإبرام والفسخ بعد الالتزام، وهو عامّ في كلّ عهد من عهود الله. وقد ذكر الله في الكتاب عهوداً على خلقه وألزمهم تنفيذها وعدم نقضها ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) الأعراف/آية172 أخذه على جميع ذرية آدم – عليه السلام – بأن يقروا بربوبيته سـبحـانه، ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا  ) الأحزاب/آية7 عهد على الأنبياء أن يبلغوا الرسالة ويقيموا الدين ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ  ) آل عمران/آية187 عهد خصّ به العلماء.

وأما الثاني فهو كذلك في كلّ قطع لما أمر الله به أن يوصل وهو يشمل طاعة الله ورسوله وصلة الأرحام.

وقد وصف الله هؤلاء الفسقة الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل وينقضون عهد الله بأنهم الخاسرون.

@ @ @

فائدة عن أولي الأرحام:

لقد كان العرب في الجاهلية لا يقيمون وزناً للقرابة من جهة الأم، وبخاصة من لم تكن من العصبة أو من بعض الورثة المعترف بهم على عهدهم، لأنهم كانوا يهتمون بمن تربطهم بهم علاقة تجمعهم في حالات الغزو التي كانت، وما يترتب عليها من دماء وأموال، أما القرابة من جهة الأم فلم يكونوا يعبؤون بها؛ فقد كانت النساء بشكل عام غير ذات حظ عندهم.

فلما جاء الإسلام ربط الناس معاً برباط الإسلام ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) الحجرات/آية13 وربط المرء بقرابته كلها ربطاً واضحاً بإعطاء كلّ ذي حق حقه، فبين العصبات والديات ثم الورثة وفروضهم، كذلك القرابة غير العصبات وغير الورثة وهم ما يسمون “أولي الأرحام” الذين كانوا في الجاهلية بدون اهتمام:

  • (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) الأنفال/آية75.

  • (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ) النساء/آية1.

  • «من سرّه أن يبسط عليه رزقه، وينسّأ له في أثره فليصل رحمه».

  • «الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله».

فحثّ الإسلام على صلتهم وحرّم قطعهم وشدّد في ذلك، وأولو الأرحام هم كما قلنا قرابة الرجل من غير عصبته ومن غير ورثته وهم: الخال والخالة والعمة وبنت العم وولد البنت وبنات الأخ وولد الأخت وابن الأخ لأم والعم لأم والجد لأم وما أدلى بسبب لأي واحد من هؤلاء.

وصلة الرحم المحرم فرض للأدلة السابقة.

وصلة الرحم غير المحرم مندوب وذلك لأن عدم جواز الخلوة بغير المحارم وعدم جواز اجتماع المرأة في حياتها الخاصة إلا مع محارمها يصرف الجزم عن صلة الأرحام غير المحارم في الأدلة السابقة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *