العدد 230 -

السنة العشرون ربيع الأول 1427هـ – نيسان 2006م

الأعمال الفكرية والأعمال المادية في سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)

الأعمال الفكرية والأعمال المادية

في سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)

ليس غريباً وأسلوباً جديداً في الصد عن سبيل الله الاستهزاء بحمَلة الدعوة الإسلامية لاستئناف الحياة الإسلامية بطريقة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأعمال الفكرية التي تقوم على الإقناع وبيان الحجج، والتنكر لهم  بحجة عدم قيامهم بأعمال مادية من استخدام للقوة وعمل أشياء محسوسة ملموسة تطلب منهم وليست من طريقتهم، وذلك إما لحرفهم عن طريقتهم أو التقليل من شأن دعوتهم التي تقوم على الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة، وذلك بعد عجز خصومهم عن دحضها والطعن فيها لوضوحها وقوتها.

=================================================================

لقد استخدم هذا الأسلوب خصوم رسول  الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك أنهم لما عجزوا عن معارضة القرآن ولم يرضوا به معجزة، اجتمعوا عند ظهر الكعبة فكلموا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخاصموه وطلبوا منه أشياء ليست من طريقته ولا من دعوته حتى يعذروا فيه، فأجابهم إنما أنا بشر لا أقدر على شيء مما سألتموني، وليس لي أن أتخير على ربي، ولم تكن الرسل قبلي يأتون أممهم بكل ما يريدونه ويبغونه، وسبيلي سبيلهم، وكانوا يقتصرون على ما آتاهم الله من آياته الدالة على صحة نبوتهم، فإذا أقاموا عليهم الحجة لم يجب لقومهم أن يقترحوا غيرها، فبعد ذلك قام عنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقام معه عبد الله ابن أبي أمية، وهو ابن عمته وهو لعاتكة بنت عبد المطلب، فقال له: «يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منـزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنـزلتك من الله فلم تفعل، ثم سألوك أن تجعل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل، أو كما قال له، فوالله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ إلي سلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها، ثم تأتي معك بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك» (تفسير القرطبي ج: 10 ص: 328).

وفي ظل الحملة الشرسة التي تشن على العاملين لإقامة الخلافة الإسلامية متأسين برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، تارةً بمحاولة إلصاق التهم بهم بالقيام بأعمال مادية، وتارةً بالاستهزاء بهم والإنكار عليهم عدم قيامهم بأعمال مادية ليست من طريقتهم، لا بد من بيان الأمور التالية:

 أولاً: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خير قدوة لنا يقتدى به في أفعاله التي ليست خاصة به، وخير أسوة يتأسى به في جميع أحواله، لابد من السير على طريقته وسنته ومنهاجه؛ لأنه على حق ويقين، ومنها طريقته في العمل لإقامة الدولة الإسلامية، قال تعالى: ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) [يوسف 108]، وقال تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) [الأحزاب 21].

ومن الواضح في سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه -فوق كونه رسولاً- قد مر في فترتين، فترة كان فيها (صلى الله عليه وآله وسلم) أميراً لكتلة سياسية تعمل للتغيير وإقامة دولة إسلامية، أي أنه يمثل حزباً. ففي هذه الفترة كانت أعمال كتلته (صلى الله عليه وآله وسلم) تقتصر على الأعمال الفكرية: من تثقيف بأفكار الإسلام، وإقناع الناس بها، وإقامة الحجة عليهم بأن المبدأ الذي جاء به هو وحده الذي يصلح لقيادة البشرية نحو السعادة وعز الدنيا ونعيم الآخرة، وأن ما عداه هو الباطل الذي يقود الناس إلى شقاء الدنيا والآخرة، وبيان زيف السياسيين ودجلهم وكشف مؤامراتهم، وإقناع أهل القوة والمنعة والتأثير والنصرة أن تكون نصرتهم وقوتهم ومنعتهم وتأثيرهم من أجل إعزاز دين الله وليس من أجل الباطل، وكان سلاحهم الوحيد هو قوة أدلتهم وظهورها على كل الحجج، ورغم أنهم كانوا مستضعفين لا قوة مادية لهم كانوا عزيزين بقوة إيمانهم، واثقين بنصر الله لهم، متوكلين على ربهم. ورغم أنهم كانوا يعذبون ويستضعفون ويظلمون ويفتنون عن دينهم مما يملي عليهم من ناحية عاطفية رد الظلم عن أنفسهم وقتال أعدائهم بأي وسيلة كانت، فإنهم لم يقوموا ككتلة بأي عمل مادي أو قتال، وإنما ساروا على طريقهم كما أمر الله. وفترة كان فيها (صلى الله عليه وآله وسلم) رئيساً للدولة الإسلامية أي أنه حاكماً يمثل دولة، وفي هذه الفترة قام بالأعمال المادية من قتال للأعداء ورعاية للشؤون بجانب الأعمال الفكرية، رغم أنهم كانوا قد صاروا آمنين غير مضطهدين، والناحية العاطفية تملي عليهم عدم القتال للتفرغ لبناء مجتمعهم ودولتهم. وكانت نقطة التحول بين الفترتين هي حصوله (صلى الله عليه وآله وسلم) على النصرة لدين الله ببيعة العقبة الثانية وإقامة الدولة في المدينة،  قال ابن اسحاق: «ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العقبة من أوسط أيام التشريق حين أراد من كرامته والنصر لنبيه وإعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وأهله» (السيرة النبوية ج: 2 ص: 287، تاريخ الطبري ج: 1 ص: 561)، وعن محمد بن إسحاق المطلبي «وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحلل له الدماء، إنما يؤمر بالدعاء الى الله والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل. وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم من بلادهم، فهم بين مفتون في دينه، ومعذب في أيديهم، وهارب في البلاد فراراً منهم، ومنهم من بأرض الحبشة، ومنهم من بالمدينة، وفي كل وجه.  فلما عتت قريش على الله عز وجل، وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة، وكذبوا نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعذبوا ونفوا من عبده ووحده وصدق نبيه واعتصم بدينه؛ أذن الله عز وجل لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في القتال والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم»، (السيرة النبوية ج: 2 ص: 313، تفسير القرطبي ج: 12 ص: 69)، و قال ابن اسحاق «وكانت لبيعة الحرب، حين أذن الله لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في القتال، شروطاً سوى شرطه عليهم في العقبة الأولى، كانت الأولى على بيعة النساء وذلك أن الله تعالى لم يكن أذن لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحرب، فلما أذن الله له فيها وبايعهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في العقبة الأخيرة على حرب الأحمر والأسود أخذ لنفسه، واشترط على القوم لربه، وجعل لهم على الوفاء بذلك الجنة» (السيرة النبوية ج: 2 ص: 302)، وعن  عبادة بن الصامت، وكان أحد النقباء، قال: «بايعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيعة الحرب» (مسند أحمد ج: 5 ص: 316، فتح الباري ج: 1 ص: 67)،  وعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال «لما أخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكن. فأنزل الله تعالى: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) [الحج 39] قال: وهي أول آية نزلت في القتال» (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، الحاكم والترمذي)، وعن ابن عباس (رضي الله عنهما) «أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا نبي الله، كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فقال: «أني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم» فلما حوله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله تبارك وتعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ ) [النساء 77]» (الحاكم). وعن قتادة: «قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ) فقرأ حتى بلغ: ( إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ) قال: كان أناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو يومئذ بمكة قبل الهجرة، تسرعوا إلى القتال، فقالوا لنبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ذرنا نتخذ معاول فنقاتل بها المشركين بمكة، فنهاهم نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك، قال: «لم أؤمر بذلك» فلما كانت الهجرة وأمر بالقتال كره القوم ذلك، فصنعوا فيه ما تسمعون، فقال الله تبارك وتعالى: ( قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا )» (تفسير الطبري ج: 5 ص: 71)، وفي تفسير «قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) [الحج 38]، روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة، وآذاهم الكفار، وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار، ويغتال ويغدر ويحتال، فنـزلت هذه الآية إلى قوله: ( كَفُورٍ ) فوعد فيها سبحانه بالمدافعة، ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر» (تفسير القرطبي ج: 12 ص: 67)

ثانياً: إن ذم الأفعال ومدحها والحكم على أفضليتها واتباعها يجب أن يكون بمقياس الشرع وبالدليل الشرعي، وليس بالأهواء والميول والشعارات، فيجب اتقاء الله في أوامره ونواهيه وعدم تضييعها، قال تعالى: ( وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) [الحشر 7]، وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  قال: «دعوني ما تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» متفق عليه.

ولمعرفة الحكم الشرعي في الأقوال لابد من معرفة واقعها، فالأقوال من الأفعال، فهي ليست جميعاً متساوية، وإنما كل قول له حكم شرعي معين، فمن الأقوال ما هو فرض، ومنها المندوب، ومنها المحرم، ومنها المكروه، ومنها المباح. فمن الخطأ ذم الأقوال لمجرد أنها أقوال؛ لأن في ذلك مساواة بين الحق والباطل وبين الطيب والخبيث، يقول عز وجل: ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ @ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) [فصلت 33-34]، فهناك من القول ما هو إثم وباطل كالتكذيب بدين الله الذي ابتعث به رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصد الناس عنه وعن كل ما أمر الله عز وجل به، وتحقير أحكام الإسلام والتقليل من شأنها، والاستهزاء بدين الله وأنبياء الله، ومعاداة الدعاة الى الله وإثارة الشبهات حولهم، والدعوة إلى موالاة أعداء الله والدفاع عنهم وستر عيوبهم، قال تعالى: ( šcr߉ƒÌãƒ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ @ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) [التوبة 32-33]، وكذلك قول الزور، وهو ما عدا الحق من دعوة أو مؤازرة لعلمانية، أو اشتراكية، أو ديمقراطية، أو وطنية، أو قومية، أو حريات، أو وحدة أديان، أو غير ذلك من أفكار مخالفة للإسلام، قال تعالى: ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) [الحج 30]، وهذا النوع من القول مذموم يجب التصدي له وبيان انحطاطه وزيفه ووجوب الابتعاد عنه مهما كان مصدره؛ لأنه يقود إلى النار، قال تعالى: ( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ) [النساء 108]، وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوى بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب» (متفق عليه).

وهناك من الأقوال ما هو قول حق وهدى كالدعوة إلى الله، وتحكيم شرعه، والتزام أحكامه، وبيانها وتوضيحها للناس، وإظهار حججها، ونصح المسلمين ومحاسبة أمرائهم، وكشف الباطل وأهله و مؤامراتهم ودجلهم ودحض حججهم وبيان زيفهم، فهذا القول من أفضل الأعمال، ويجب الصدع به ومؤازرة ومساندة من يقولون به، ويحرم ذمه والتقليل من شأنه أو من شأن من يقولون به والاستهزاء بهم لصرف الناس عنه، قال تعالى: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ) [الأحزاب 70]، وقال تعالى: ( يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ) [طه 109]، وقال تعالى: ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) [فصلت 33]، وقال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ @ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ @ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ) [فصلت 30-32]، وروي عن أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) أنه قال: «ثم استقاموا لم يشركوا بالله شيئا»، وروى عنه الأسود بن هلال أنه قال لأصحابه: «ما تقولون في هاتين الآيتين: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) ( وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ) [الأنعام 82] فقالوا: استقاموا فلم يذنبوا ولم يلبسوا إيمانهم بخطيئة، فقال أبو بكر: لقد حملتموها على غير المحمل، قالوا ربنا الله ثم استقاموا، فلم يلتفتوا إلى إله غيره، ولم يلبسوا إيمانهم بشرك، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون» وروي عن عمر (رضي الله عنه) أنه قال على المنبر وهو يخطب: «( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا )، فقال: استقاموا والله على الطريقة لطاعته، ثم لم يروغوا روغان الثعالب» (تفسير القرطبي ج: 15 ص: 358)، وقال تعالى: ( وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ) [الحج 24] وروي أنه جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أي الجهاد أفضل؟ قال: «كلمة حق  عند إمام جائر» (إسناده صحيح   الأحاديث المختارة ج: 8 ص: 110)،  وعن جابر (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» (الحاكم)، وعن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات» (صحيح البخاري).

ثالثاً: إن من الإثم والمنكر تحميل آيات الله على غير محملها ورمي حملة الدعوة الإسلامية -الذين يقومون بأفضل الأعمال، كما بينها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)، بعملهم لاستئناف الحياة الإسلامية والنهوض بالأمة سائرين على طريقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)- بأنهم ممقوتون لأنهم  يقولون مالا يفعلون، فتفسير قوله تعالى: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ @ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) [الصف 2-3] كما ورد في كتب التفسير: استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير مالا يفعله، أما في الماضي فيكون كذباً، وأما في المستقبل فيكون خلفاً، وكلاهما مذموم وتأول. ونقل عن سفيان بن عُيَيْنَة في قوله تعالى: ( لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ) أي لم تقولون ما ليس الأمر فيه إليكم فلا تدرون هل تفعلون أو لا تفعلون، (تفسير القرطبي ج: 18 ص: 80).

فلا تنطبق هذه ولا بأي وجه من الوجوه على من يقومون بالأعمال الفكرية ولا يقومون بالأعمال المادية تأسياً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وبعد هذا البيان لا بد للمسلم أن يسير على طريقة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في عمله لإقامة الدولة الإسلامية، وأن يفكر في كل كلمة  يقولها، ويقيسها بمقياس الشرع قبل أن يقولها، فإن كانت خيراً فليصدع بها ولا يخشَ في الله لومة لائم، وإن كانت شراً فليمسك عنها ولا يجرَّنّه إليها قائم . فعن عَلْقَمَةَ بن وَقَاصٍ قال: مر به رجل من أهل المدينة له شرف وهو جالس بسوق المدينة، فقال علقمة: يا فلان، إن لك حرمة، وإن لك حقاً، وإني قد رأيتك تدخل على هؤلاء الأمراء فتكلم عندهم، وإني سمعت بلال بن الحارث المزني صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة  من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة»، قال علقمة: انظر، ويحك ماذا تقول وماذا تكلم به؟ فرب كلام قد منعني ما سمعته من بلال بن الحارث، (صحيح ابن حبان).

عماد عبد الفتاح الحسنات ـ القدس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *