الدولةُ المدنية أساسُها شرك ٌ بالله العظيم ومآل أصحابها الخزي
2011/11/06م
المقالات
1,831 زيارة
الدولةُ المدنية أساسُها شرك ٌ بالله العظيم
ومآل أصحابها الخزي
صالح م. عبد الرحيم – الجزائر
يُروِّج اليومَ كثيرٌ ممن برزت أسماؤُهم في الساحة السياسيةِ والإعلامية لما يسمُّونه الدولة المدنية، وذلك على خلفية ما يحدث في البلاد العربية هذه الأيام من حراكٍ سياسي من أجل التغيير. وبالرغم من أن الناسَ لم يسمعوا في بلاد الإسلامِ بهذا المصطَلحِ إلا حديثاً، إلا أن هذا اللفظ ُ بات – بالمعنى الذي يريده أصحابـُه – يتردد في الأوساط الإعلامية والمنابرِ السياسية كخلاصةِ أو مُجملِ ما تريده الشعوبُ المنتفِضة. رأينا هذا وسمعناه في تونس ومصرَ واليمن، بل وفي كل البلاد المنتفِضة شعوبُـها دون استثناء، كما شاهدْناه مؤخراً في ليبيا وسوريا وغيرهما…
إلا أن واضعيه كانوا يعلمون حساسيةَ المسلمين من العلمانية، لذا لم يستخدموا مصطلحَ العلمانية لوصفِ الدولة التي ينبغي أن يطالب بها الناس. ولهذا زيَّنوه وجمَّلوه لخداع الناسِ على أنه يعني دولة ًعصرية ً ذات مؤسساتٍ حديثة متطورةٍ أساسُها المواطنة، يتساوى فيها المواطنون أمام القانون الذي يختارونه دون تمييز في العِرق أو اللون أو الدين، وأنها دولة ُحريةٍ وعدالةٍ لا مكان للقمع أو لقانون الطوارئِ أو لِمثله فيها، وأنه لا يَفرضُ شخصٌ أو حزبٌ فيها رأيه على غيره، وأنه فيه يجب احترامُ الآخر، فصناديق الاقتراع هي الحَكَمُ بين جميع الناس،.. وأصبحوا يتغنّون بهذا المصطلح. وإمعاناً في الخداع صار يُروَّج لهذه الدولة على أنها في بلاد المسلمين لا تصطدم مع عقائد الناس وعقيدةِ المسلمين خاصة، وذلك لأنها دولة مدنية ٌ ذاتُ مرجعية إسلامية !! فماذا يجب يا ترى أن يكون موقفُ المسلمين من هذا المصطلح، ومما يعنيه حقيقة ً في الواقع؟
يُروج هؤلاء لما يسمونه الدولة المدنية، التي في نظرهم هي تلك الدولة التي تتحققُ فيها كما أسلفنا الحرياتُ والعدالة ُو الديمقراطية، على اعتبار أن هذه الثلاثة قيمٌ عالمية تنشُدُها المجتمعات الإنسانيةُ في كل زمان ومكان، تماماً كما لا يستغني الإنسانُ، في أي ظرفٍ وحيثما وُجد، عن الماء والهواء وضوء الشمس. وإذا قال أحد ٌ لا للديمقراطية، فكأنما رفضَ ضوءَ الشمسِ أن يدخل من النافذة إلى غرفته! أو رد في يوم ذي حرٍّ شديد الماءَ الباردَ، وعُدَّ عند العقلاء من دون شك مجنوناً أو مخبولاً!
وسنورد بعون الله فيما يلي مسائلَ ثلاث لا بد أن تكون لدى المسلمين معلومةً، تُمكِّنهم من الوقوف بالقوة اللازمة في وجه ما يَجْهَد الغربُ الاستعماري الحاقدُ عدوُّ الإسلام والمسلمين لتسويقه في البلاد الإسلاميةِ من بضاعة مسمومةٍ كَسَدتْ عنده، بعدما أَنْتَجتْ في عقر دارها – في شتى ميادين الحياةِ – كلَّ أصناف التعاسةِ والانحدار والشقاء. فهل من معتبر؟
نعم أفلسَ الغربُ حضارياً، بينما يلهثُ وراءه المضبُوعون في بلاد الإسلام مُقْتَفين أثرَ قدميه الوَسِخَتين. نعم هوى الغربُ فكرياً وسياسياً في واد سحيقٍ من الضلال، وهو الآن يسعى للمتاجرة بسُمومِه في بلاد المسلمين بواسطة سماسرة من المسلمين أنفسِهم، بينما يقومُ أهل الزيغ والأهواء والأغراضِ منهم ومن غيرهم بدورِ الإشهارِ للسُّم على أنه العسل، وأنه مَكْمَنُ الشفاءِ من جميع الأسقامِ والأدواءِ.
وقبل البدء في إيضاح وبَلورةِ هذه الأمور الثلاثة نشير إلى أنه لا كلام لنا في هذا البيان مع من لا يعتقد ويؤمنُ بأن القرآن كلامُ الله. وذلك لأن ما جاء به محمد ﷺ وحيٌ مُعجِزٌ نازلٌ من عند الله ثابتٌ عند أهل الملَّة بالبرهان القاطع من جهة العقل، كما هو ثابت قبله بالعقل كذلك وجودُ خالقِ السماوات والأرضِ وبعدَه نبوةُ ورسالةُ محمد ﷺ:
– المسألة الأولى هي: القولُ بأن الدولة َ المدنية َ خالية (في الأساس الذي تقوم عليه) من الأيديولوجيا، كما يُسَوِّقُـها أصحابـُها ويزعمُ المضبُوعون.
والحقيقة هي أنه لا دولةَ مطلقاً بدون أفكار تعتنقُها مجموعةٌ بشرية، أياً كانت هذه الأفكار، سواء أكانت صحيحةً أم مغلوطة (في الأساس للعقل أن يحكم على مدى صحتها)، وسواء أكانت أساسيةً تُجيب عن مصدر الكون والإنسانِ والحياةِ أم كانت غيَر ذلك. فواقعُ الدولة المدنيةِ أنها ليست من قبيل المدنية العامة، والأمور العلمية أو التقنية العالميةِ التي يَجْدُر بالمسلمين أخذُها واقتناؤُها أنَّى وجدت، سواء أجاءت من اليابان أم الصين أم أوروبا، ولا هي من قبيل ضوء الشمسِ الذي ينبغي أن تُفتحَ له النوافذُ والأبوابُ. فالدولةُ المدنيةُ هي شكلُ الدولة عند الغربيين خاصة الذين توافقوا وقرروا جماعياً أن لا لزومَ للبتِّ في مسألة وجودِ الخالق، وكذلك في المسائل التي تنجرُّ عنها كالحياة بعد الموت مثلاً، وغيرِ ذلك، لِما حصل عندهم من صعوبة التوفيق بين دينهم والعقل، ولم يكن هذا يوماً إشكالاً في الإسلام البتة. وهذا التوافق وهذا القرارُ في حقيقة الأمرِ شكل عقيدتهم وأيديولوجيتهم. فنتج طبيعياً بعد ذلك ألا يكون لمسألة وجودِ الخالق عندهم دور في الشأن العام لأنهم اتفقوا في النهاية على إهمال هذه المسألة العظيمة، وهذا هو الضلال المبين الذي هم فيه. كما نتج طبيعياً أنْ لجؤوا في دُوَلِهم واحتكموا إلى عقولِ البشرِ في التشريع للحياة العامة، وهذا في الأساس هو مبنى الديمقراطيةِ التي هي نظامُ الحكم عند أهل هذا النوع من الضلال والشرك. ثم نقل الكفارُ هذا الكلامَ إلى بلاد الإسلام، وظنَّ المضبُوعون عندنا أن عدمَ البت في مسألة الخالق على مستوى الدولة، ليس بحد ذاته عقيدةً، لأن العقيدة شأنٌ فردي ينطبقُ على نعْتِ الفردِ لا على هوية الدولة، وفي النهاية سوف يكون لونُ المجتمعِ في الدولة المدنيةِ المنشودة بحسب الأغلبية العددية، وبالتالي قد يناسبهم في هذا العصر الذي هيمنَ فيه الغرب، أن يُبْعَدَ الوصفُ العقائدي عن الدولة ولو مرحلياً، واختاروا لهذه الدولة اسمَ الدولة المدنية. ومن هنا لم يعودوا يطالبون بتطبيق الشريعة في المجتمعات في البلاد الإسلامية ومنها العربية، وإنما بالحرية وبالدولة المدنية أولاً. وهذه خدعة!
ثم إن المضبُوعين المنادين بالدولة المدنية قد ساوَوْا بين الإسلام العدلِ الذي أساسُه عقيدةٌ روحية سياسيةٌ تتفقُ مع العقل وتوافقُ الفطرةَ، وبين ظلمِ واستبدادِ الكنيسة باسم الدين الزائفِ في العصور الوسطى في أوروبا، وصاروا على هذا الأساس يَخْلطون بينهما ويطالبون الناسَ بأن لا يبتغوا دولةً دينيةً، بمعنى أنهم يريدون دولة لا دينية، لا يكون فيها أيُّ دين حاكماً. والمقصودُ في بلاد المسلمين طبعاً هو الإسلامُ، وذلك يعني فصلَ الدين عن السياسة، فلا دينَ في السياسة ولا سياسةَ في الدين. وهدفُ الكافر المستعمر من ذلك ظاهرٌ غيرُ خفي، وهو أن لا يتدخلَ الإسلامُ في السياسة أي في الشأن العام، وبالتالي أن لا يصلَ الإسلامُ – الذي هو دين منه الدولة – إلى الحكم. والذي يعنيه ذلك حقيقةً إنما هو إبعاد الإسلامِ الذي هو لدى المسلمين مصدرُ القوة الوحيد في صراع الحياةِ الدولية. وهو ما يعني في النهايةِ تحييدَ كل المسلمين في العالم قولاً واحداً، بحيث لا يصير لهم أيُّ وجودٍ مطلقاً على المستوى الدولي. فهل يرضى بذلك المسلمون؟؟؟
وهي في نظرهم تلك الدولةُ التي تقفُ على مسافة واحدةٍ من جميع المللِ والأديان والمعتقداتِ والأيديولوجيات (حقاًّ كانت أم باطلاً)، وتكون بالتالي مخرجاً «إنسانياً» للجميع من أجل التعايش وتفادي الصدام في الوطن الواحد. وهي الدولة العصريةُ ودولة الحداثةِ التي لا لونَ لها ولا للمجتمع فيها إلا بحسبِ الأغلبية بزعمهم. وأصلُ البلاء عند هؤلاء إنما هو مرض في قلوبهم وفي نظرتهم الخاطئة للمجتمع نتيجةَ الغزو الفكريِّ الذي عشعشَ في أذهانهم وفي أساساتِ الفكر والعقلِ عندهم، ,صاروا بموقفهم هذا يقفون بين الحق والباطل، وصاروا لا يرون غضاضةً في ألاَّ يُقَرَّرَ على مستوى الدولة والمجتمع وجودُ الله (و ما يَستلزمه ذلك من مواقف تجاه ربِّ العالمين) من عدمه، ولا يرون غضاضةً في أن يُتركَ ذلك للفرد، بمعنى أن يَدْخُلَ في العقائدِ ويخرجَ منها وقتَما يشاء، أو ينسلخ منها كلياً كيفَما يشاء، منعكساً ذلك على سلوكه ضمنَ قاعدةِ حقوق الفردِ وواجباتهِ في إطار ما يسمونه الحريات العامة. ولو كان منهجَهم الأخذُ من كتاب الله لوجدوا أن الإسلامَ يقوم في جوهره على أن تخضعَ الحياةُ العامة في المجتمع كافةً لشريعة الإله الواحدِ الأحدِ ولو كره الكافرون، وهذا هو ما جاءت به الرسلُ من عند الله جميعاً. ولو كانوا يُبصرون لأبصروا أن دولَ الغرب قاطبةً إنما تحمل أيديولوجيا ووجهةَ نظرٍ في الحياة هي هذا النوع من الشرك بلغة القرآن المتمثِّلِ في فصلِ الدين عن الحياة المعتَنَقِ في دوَلِ الغرب كلها، والمتمثل في تركِ تنظيم الشأنِ العام لأهواء البشر في البرلمانات، ولأَبصروا أنْ لا مجالَ لمقارنة الإسلامِ – الذي هو الحق – بالدين عندهم. فليعلم المسلمون أنهم بقولهم هذا (الدولة المدنية) إنما يَدْعون لِعكس ما تفرضُه العقيدةُ الإسلاميةُ على أهلها، وليعلموا أن هذا الذي يبيعونهُ للمسلمين يتناقض بالجملة وبالتفصيل مع ما أُنزل إليهم من ذكرٍ حكيم. يقول ربُّ العزة: ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ).
ويقولُ الله تعالى: ( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ). ولينظر المسلمون كيف انقلب عند المشركين العقلُ جنوناً، فقال المكذبون لمحمد ﷺ في هذه الآية استهزاءً: يا أيها الذي نُزِّل عليه الذكرُ أي القرآنُ إنك لذاهبُ العقلِ! والله تعالى يقول: ( لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ). فمَنِ العاقل ومن المجنون؟ والجواب الصحيحُ أن العاقلَ هو فقط من آمن بالله رباًّ وإلهاً. وذلك مدارُ عقيدة التوحيد في جميع الأزمان إلى قيام الساعة، وهذا يقتضي الأخذَ لتسيير الحياة في المجتمع من كتاب الله وما دل عليه الكتابُ دون سواه، وهو ما يعبر عنه علماء المسلمين بوجوب تحكيمِ الشريعةِ التي أُنزلت على محمد ﷺ وحدها، وهو من مقتَضَياتِ الإيمان. فَلْيكنْ ذلك واضحاً.
كما يقتضي أن تكون للدولة فكرة سياسية تعتنقُها وتقوم بالرعاية داخلياً وخارجياً على أساسها، ولن يصح ذلك إلا أن يكون هذا الأساس هو الإسلام عقيدةً ونظاماً. وبهذا يتضح البونُ الشاسع بين الدولة المدنيةِ التي رضي بها المضبوعون، ويقبل أو بالأحرى يأذن بها الغربُ للمسلمين، وبين الدولة الإسلامية أي الخلافة، التي تنكَّرَ لها بلسان الحالِ المضبوعون ويحاربُها الغربُ بكل ضراوةٍ وشراسةِ وقوة.
– المسألة الثانية ( هي في غاية الخطورة) هي: حقيقة ُ أن الدولة َالمدنية تقتضي أن يُعادَ النظرُ في هوية المسلمين، لا بل في العقيدة الإسلامية ذاتِها.
ذلك أن الدولة المدنيةَ التي ارتضاها المضبوعون هي دولةٌ يتم فيها تحييدُ الدين أياًّ كان، ولا شك أن الإسلامَ – الذي هو الدين الحق – سيكون من ضمن ما اتُّفق على تحييده وإبعادِه عن الحياة المجتمعية، بل هو بالذات المقصودُ في البلاد الإسلامية ومنها العربية بهذه الخدعة الغربية. ثم إن هنالك وجهاً آخرَ غاية في القبح للدولة المدنية التي قَبِل بها أصحابُ منهج الاعتدالِ السقيم وهو أن الدولة المدنيةَ هي في حقيقتها دولة علمانية، إلا أنهم قالوا إن للعلمانيةِ أشكالاً متعددة، منها العلمانية التي تحارب الدين كتلك التي اعتنقتْها وطبقتْها فرنسا. وذلك أن الناس في فرنسا عندما ثاروا وحُسِمَ الأمرُ في النهاية لصالح الفصل بين الدين المتمثل في الكنيسة ورجالها وبين السياسة والدولة، إنما ثاروا ضدَّ سلطةِ الكنيسة التي كانت وقتئذٍ مطيةً لرجال الحكم والملوك، وكانت تقف إلى جانب رجالِ الإقطاع وكبارِ الملاك، على حساب طبقاتِ الشعبِ المسحوق، ولهذا حوربت الكنيسةُ وقتَها بكل ضراوةٍ ومعها كلُّ مَنْ يُمثِّل الدينَ في المجتمع. ولكنَّ أصحاب الدولةِ المدنيةِ المنشودةِ اليومَ يتلاعبون ليقولوا إن هنالك شكلاً آخر ومفهوماً آخر للعلمانيةِ لا يصطدم مع الدين، وإنما تكون الدولةُ بناءً عليه في موقفٍ محايدٍ من جميع المللِ والأديان والأيديولوجيات والعقائد، بغض النظر عن الحق والباطلِ فيها، وبغض النظر عن الصوابِ والخطأِ. ونحن نقول: يُفهم من هذا أن الدولةَ في هذه الحالة لا تُحِقُّ حقاًّ ولا تُبطل باطلاً، فكأنما هي هيكل شفاف، إذ تلتزم موقفَ الحياد من جميع الأفكارِ والمعتقداتِ، ولا تبحث مطلقاً فيما ينبغي أن يكون عليه المجتمعُ لا على صعيد الأفكار والعقائدِ، ولا على صعيد النظم والأحكام، بل تتركُ الجميعَ في فضاء واسعٍ من الحريات المطلقة في الفكر والسلوك. وإذا ما طُرح السؤال: وماذا تُطبق الدولة من قوانينَ لضبط الأمور في المجتمع إذاً؟ يكون الجواب حتماً عندهم: ما يريده الناسُ بالأكثرية بغض النظر عن كونه حقاًّ أو باطلاً. ومن هذه الزاوية يتضح أن الدولةَ المدنيةَ تنطق بلسان الحال بأنه لا يهمُّ إن كانت العقيدة الإسلاميةُ حقاًّ أم باطلاً، كما أن المجتمعَ فيها ينطقُ – فيما يعيشه الناسُ من علاقاتٍ وَفق مفاهيمَ وأنظمةٍ تَضْبطُهُ – بأنه لم يتقرر بعدُ (و لا يهم أن يتقرَّرَ) إن كان الإسلامُ عقيدةً ونظاماً (أو غيرُه) حقاًّ أو باطلاً، صحيحاً أو خاطئاً. وهذا يعني أن الدولة المدنيةَ تهدف إلى أن تقيم للمسلمين مجتمعاً في بلادهم يصرخ الواقع فيه بأنه ينبغي أن يُعاد النظر في كل حين في مدى صحة عقيدةِ الإسلام وشريعتِه.
قال الإعلامُ الموجهُ كذباً: إن المنتفضين في الساحات والميادين كما ثاروا من أجل إزاحة الحاكم الظالم المستبد، وإزالة الظلمِ الاقتصادي والاجتماعي – وهو المُشتركُ بين جميع فئات الشعب بكل أطيافه الأيديولوجية والسياسية – ولم يكن منطلقُهم الإسلام ولا غيره، أي كما أنَّه لا لونَ لانتفاضتهم، فكذلك ينبغي أن تكون دولتُهم بعد الانتفاضة لا لونَ لها. ولسوف يُقرر الشعبُ في كل بلد بعد نجاح الثورة والانتفاضةِ – أَيْ بعد ذهابِ الطاغية المستبد – أيَّ المسالك يسلكُ بكل حريةٍ وديمقراطية. ولا شك أن هذه خدعةٌ أخرى انطلت وللأسف على شريحة واسعةٍ من المسلمين. وهذا هو معنى أن يُعادَ النظرُ مجتمعياً في الإسلام وفي هويةِ وعقيدةِ المسلمين بعد ذهاب الدكتاتورية، حيث يُخلى بين الناس وبين ما يريدون، فَيَطْفو الإسلامُ إلى السطح طبيعياً على حد زعمهم إن كانوا هم الأكثر عدداً، آملين أن يُسْعِفَهم كونُ معظم الناس في بلاد المسلمين مسلمين. وهذا وَهْم. إذْ يَرِدُ السؤال: هل سيترك الكفارُ المسلمين وشأنهم لتَتَحقَّقَ لهم مثلُ هذه الدولةِ المدنية العلمانية الديمقراطية التي بِحكم الأغلبية سوف يُقرِّرُ المسلمون فيها بمحض إرادتهم أن يعيشوا بالإسلام الذي يختارونه بالاقتراع كونهم مسلمين؟ يقول رب العزة مفنِّداً هذا الزعم: ( وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
والجواب كذلك على السؤال هو أن هذا أيضاً خدعة ووهمٌ مضاعَفٌ، إذ حتى ولو – بِحكم الأغلبية في بلادهم – تَحَقَّقَ لهم على هذا النحو ما أرادوا، فلن يكون هذا من الإسلام في شيء، ولن يكون هذا هو الإسلام الذي جاء به محمد رسولُ الله ﷺ، وإنما يكون “إسلاماً ليبرالياً” مدجناً متوافقاً ومتصالحاً مع الغرب العلماني الكافر ضمن الدولة الوطنية القُطرية الضعيفة تحت مظلة الأمم المتحدة وفي حماية الغرب، وهذا ليس هو الإسلام ولا الأمانُ.
وحتى في هذه الحالة – وهي دون شك حالةٌ من الانبطاح يفرح ويبتهج لها الغرب كثيراً، إذ سيكون هو الضابطُ والمشرفُ عن قربٍ على حالة التحولِ خلال الانتفاضة، ويكون أيضاً بعد ذلك هو المشرف على شؤون هذه الأقطار داخلياً وخارجياً تحت قيادته الفكريةِ والسياسية – نقول: حتى في هذه الحالة، لن يَأْمَنَ الغربُ أن ينبثق تحت سمعه وبصره من هذه الكيانات الهزيلة المدجَّنة مَنْ سَيَنهضُ من جديد لتصحيح الأوضاع. وإنما رِبْحاً للوقت فإن الغربَ بشَقَّيْه (أوروبا وأميركا) يقيم جسوراً مع من يسميهم “الإسلاميين المعتدلين” أي المضبوعين من المسلمين، من أجل تسويق إسلامٍ على الطراز الغربي يأمل من ورائه أن يَصرفَ الأمةَ عن قضيتها ولو إلى حين.
جاء على لسان فاروق تيفور نائب المراقب العام لإخوان سوريا في برنامج «في العمق» مع صحفي الجزيرة علي الظفير في يوم 12/09/2011م: إنَّ الدولةَ في الإسلام مدنيةٌ وإنه إذا ما أفرزت الصناديقُ أحدَ (الإخوة العلويين) أو (الإخوة المسيحيين) (غير المسلم) حاكماً على سوريا، نعمْ فإننا سوف نقبل، وهذا من مقتضيات الدولة المدنية. وحتى الأممِ المتحدة قال عنها أيضاً أنها في بعض مرجعياتها تأخذ من الشريعة الإسلامية!! فهل هذا ما يرضي الله سبحانه؟! هل هذا ما يرضي رسول الله ﷺ؟! هل هذا الإسلام الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى للمسلمين حين قال: ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )؟!
– المسألة الثالثة وفيها أمران: أحدهما قولهم: نعمْ إن غاية الشعوبِ المنتفضَة يجب أن تكون الدولة المدنية، ولكن هي عندنا نحنُ – بوصفنا مسلمين – دولة ٌمدنية ٌ ذاتُ مرجعية إسلامية! أما الثاني فـقولُهم: إن شكلَ الدولةِ في الإسلام هو الدولة المدنية.
وهذان قولان مختلفان، والثاني أخطر من الأول. فهل يصح هذا الكلام؟ وماذا يعني هذا القول بالضبط؟ والجواب هو أن القول الأول خدعةٌ وتضليل. والصواب هو أن هذا الكلام لا يصح أبداً، وذلك لأن الدولةَ المدنيةَ الديمقراطية انبثقت – ابتداءً – من مرجعيةٍ عقائديةٍ هي إبعادُ الدين عن حياة الناس، سواء اعتُرفَ به أم أُنكرَ، وهي فكرةٌ أساسيةٌ في الحياة ظاهرةُ البطلانِ من جهة العقل، ولن تعنيَ هذه العبارةُ بالتالي (أي قولهم مدنية أو علمانية ذات مرجعية إسلامية) سِوى الدولة العلمانية التي تقزِّمُ وتهمشُ الإسلامَ وتجعل منه صورةً هامدةً جامدةً في الخلف، كما كان دائماً يُقْسِمُ عدوُّ الله وخائنُ الأمةِ حاكمُ مصرَ العميلُ مبارك على احترام الإسلام وأنه دينُ الدولة واضعاً يدَه على المصحف الشريف، ثم ينطلق بعد ذلك كالسهم على درب الخيانة والحرب على الله ورسوله والمؤمنين، حتى أخزاه الله على الملأ هو وأمثاله. والدور آتٍ لا محالةَ على كل حكام الجور والخزيِ والهوان في جميع أقطار البلاد الإسلامية.
أما القول الثاني الذي مفاده أنَّ الدولةَ الإسلامية هي الدولة المدنية أو بعبارة أدق أنَّ شكل الدولة في الإسلام هو الدولة المدنية، فهو افتراء على الله وعلى رسوله وعلى الإسلام، وهو من أشنع ما يمكن أن يُقدمَ عليه جاهلٌ مغرضٌ أو منافقٌ طامعٌ في دنيا مقابلَ أن يتقول على الإسلام ليُضلَّ الناس بغير علم. ثم إنهم زيادةً في الافتراء قالوا: إنه إذا ما جرى التدقيقُ في نصوص الإسلام – الذي لم يَرِدْ فيه شكلٌ محدد للدولة ولا شكلُ مفصلٌ لنظام الحكم – فإننا نجد أن الدولة في الإسلام هي دولة مدنية، ثم صاروا يجتهدون لاستنباطها من النصوص ومن السيرة ومن التاريخ. وكذبوا! والحقيقةُ أن الكافر المستعمر يعلمُ في الحقيقة ما بِجُعْبةِ أصحابِ منهج الاعتدال الزائف من قدراتٍ عجيبةٍ على المراوغةِ والتلاعب، فعَمَدَ إلى دغدغة أطماعهم في المناصب والمنافع والمواقع، وعمدَ إلى الإيحاء لهم بأنْ قدْ جاء دورُهم! فطمعوا واستعدوا وزادت جُرأتهم على درب استجداء الغرب في إظهار ما يُضمرون من مقدرةٍ خارقة على «التدقيق» في النصوص والتلفيق، حتى وصلوا إلى القول صراحةً بأن الإسلامَ في حقيقته هو الديمقراطية، وهذا هو أقصى درجاتِ «الاجتهاد» عندهم! كما قال رجب طيب أردوغان العلماني أثناء زيارته لتونس يوم 14/09/2011م حين ذَكر علاقةَ الإسلام بالدولة الحديثة مُطَمْئِناً للساحة السياسية هناك، في إشارةٍ إلى تخوف التيارات الليبرالية من حزب النهضة التونسي: «إنه لا تَعارُضَ بين الإسلام والديمقراطية، وبوُسعِ المسلمِ أن يُديرَ دولةً حديثةً بكل نجاح» (كما نجح هو في إدارة تركيا في كنف العمالة لأميركا بالعلمانية النتنة وبالعباءة الإسلامية الخادعة وبالعثمانية الزائفة!). وكذلك فعل عندما زار مصر مؤخراً.
يبقى أن التحدي الأكبرَ أمام المسلمين اليومَ إنما هو في كشف أساليبِ وألاعيبِ الغرب العدو الحاقد، بما يضمن أن يُوَجَّهَ تحركُ الأمةِ نحو ما يُحقق لها حقيقةً ما تصبو إليه من العزة والرفعة، ولن يكون ذلك إلا بدولةٍ إسلامية هي الخلافة الراشدة على منهاج النبوة. ثم إن ما يجب أن يُذكَّر به هؤلاء هو أن العزةَ والتحررَ يستحيل أن يتحققا بغير دولةٍ تعتنق عقيدة (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وأن المنطلقَ من أجل النهوض والتحرر لا يمكن إلا أن يكون الإسلام بشكلٍ واضح لا لُبس فيه، وأن هذا المنطلقَ هو الذي يحدد المسارَ ابتداءً كما يحدد النتائجَ انتهاءً، بناء على نصر الله الذي ينصر به من يشاء من عباده، وهو العزيز الحكيم الذي يقول وقوله الحق:( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ )، والذي يقول في محكم التنزيل:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ). صدق الله العظيم.
2011-11-06