العدد 299 -

العدد 299 – السنة السادسة والعشرون، ذو الحجة 1432هـ، الموافق تشرين الثاني 2011م

حزب التحرير: ميثاق الأمّة (ميثاق الخلافة الراشدة الثانية) (1)

حزب التحرير: ميثاق الأمّة (ميثاق الخلافة الراشدة الثانية) (1)

 

يعلن اليوم في الدول العربية التي حدثت وتحدث فيها ثورات كمصر وليبيا وسوريا عن الدعوة إلى إعداد مسودات دستور أو ما يعرف بـ «الميثاق» الذي يشكل عادة مجموعة القواعد الفكرية التي تتخذ مصدراً للدستور والقوانين، وفي هذه الدعوة إعلان بفشل الدستور القديم في حل مشاكل الناس في المجتمع… ويلاحظ أن يد الغرب الي وضعت الدستور القديم تريد أن تلعب لعبتها في إجراء تغييرات شكلية لا جذرية عن طريق توجيه هذه الدول التي ما تزال قابضة على دفتها لتبنّي دستور جديد لا يختلف عن سابقه من حيث استسقائه من التوجه الفكري للغرب.

وحزب التحرير كعادته، كان سباقاً في هذا الأمر؛ إذ أصدر في 15 ربيع الآخر 1410هـ الموافق 14/11/1989م «ميثاق الأمة» وهو الذي سيكون ميثاق دولة الخلافة الراشدة الثانية إن شاء الله تعالى، ذلك المشروع العتيد الذي أصبحت الأمة تنتظر خلاصها فيه…

ونحن في مجلة الوعي رأينا أن ننشر بعض ما جاء فيه ليكون هو الخط المستقيم الذي يجب أن يقارنوا به الخطوط العوج من المسودات التي تصدر من هنا وهناك، وفي أحيان من جهات تدعي أن مشروعها إسلامي، ليتبينوا مدى بعد هؤلاء عن النبع الصافي للإسلام.

ميثاق الأمة

 

الميثاق لغة وشرعاً العهد قال تعالى: ( إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ )، وقال: (وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ)، وقال: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ )، وقال: (  وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ).

ويطلق اصطلاحاً في هذا العصر على مجموعة من القواعد يؤمن بها الشعب، ويجعلها وجهة نظره في الحياة، ويتخذها مصدراً لدستوره وقوانينه.

والشعب الذي يتخذ ميثاقاً له إنما هو الشعب الناشئ، الذي أنشأ له دولة، وبدأ حياة جديدة غير حياته التي كان يعيش عليها، كما هي الحال في الدول الأفريقية، وفي كل دولة ناشئة حديثاً وبادئة في حياة جديدة غير حياتها الأولى.

وحين انفصلت البلدان العربية عن جسم الخلافة العثمانية عند انتهاء الحرب العالمية الأولى، حاول كل قطر صار كياناً أن يضع له ميثاقاً، سمّاه الميثاق الوطني، أو الميثاق القومي. كما حصل في العراق وسورية مثلاً. أما الشعوب والأمم العريقة الوجود فلا تفكر في وضع ميثاق لها، لأنه قد تركزت عندها عقيدة سياسية معينة، وتركزت لديها قواعد معينة جعلتها وجهة نظرها في الحياة، واتخذتها مصدراً للأحكام التي تقوم مقام الدستور والقوانين، إن لم يكن لديها دستور وقوانين، واتخذتها مصدراً للدستور والقوانين، إن كان لها دستور وقوانين. وهذه القواعد محفوظة ومعروفة ومتفق عليها دون أن تكتب، ودون أن يقال عنها إنها ميثاق الأمة، أو ميثاق وطني، أو ميثاق قومي، وهذه هي الحال في جميع الدول العريقة.

والأمة الإسلامية مِن أعرق الأُمم على الأرض وعندها عقيدة سياسية، هي وحدها العقيدة الصحيحة، وتركزت في نفوسها أفكار وأحكام جعلتها وجهة نظرها في الحياة، واتخذتها مصدراً للأحكام التي تنظم الدولة وسائر العلاقات، أو ما يسمونه بالدستور والقوانين، وقد سطر ذلك كله في مصدرين عظيمين هما الكتاب والسنة. ولهذا ليست هي في حاجة إلى ميثاق يسمى ميثاق الأمة، ولا يصح أن يكون لها ميثاق وطني، أو ميثاق قومي، لأن الكتاب والسنة يوجبان عليها محاربة الرابطة الوطنية والرابطة القومية.

غير أنَّ هذه الأمة الإسلامية لما تأثرت بالأفكار الغربية، من جرّاء الغزو التبشيري والثقافي، ثم السياسي والعسكري، من الدول الغربية الكافرة لبلاد المسلمين.

ولما بعدت عن تطبيق الإسلام في الدولة والمجتمع، بعد أن قُضي على دولة الخلافة عام 1924م.

فَقَدَ الكتاب والسنة في نفوس أبنائها الصفة السياسية، والصفة التشريعية، ولم تعد العقيدة الإسلامية لديهم عقيدة سياسية.

فضعف عندهم من جراء ذلك تَصوُّر أن الإسلام عقيدة ونظام للحياة والدولة والمجتمع.

إلا أن هذه الأمة الإسلامية العريقة صحت من غفوتها، بعد المعاناة الشديدة التي لحقتها من جراء بُعدها عن الإسلام، ومن جراء سيطرة الغرب وأفكاره وأنظمته وعملائه. وبعد أن كشفت الغرب على حقيقته البشعة، وأدركت فساد أفكاره وأنظمته، وفساد الأفكار والأنظمة الاشتراكية والشيوعية، وفساد القومية والإقليمية، ومدى خطرهما عليها، وعلى كيانها كأمة.

فعادت إلى إسلامها لتجد فيه الحل لمشاكلها، وأصبح هو أملها في الخلاص، وفي إنقاذها مما تعانيه وتكابده، وأصبحت تتصور أن العقيدة الإسلامية هي عقيدة سياسية، وأن الكتاب والسنة يحويان نظاماً كاملاً للحياة والدولة والمجتمع، وأنهما لهما الصفة السياسية والصفة التشريعية. وصارت تدرك أن خلاصها وإنقاذها ونصرها لا يتم إلا بالرجوع إلى الكتاب والسنة ووضعهما موضع التطبيق والتنفيذ.

ولذلك كان الأمر الطبيعي والأمة تشعر بضرورة تغيير المجتمع الحالي، وتؤمن بالكتاب والسنة، أن يجعل الكتاب والسنة ميثاق الأمة، وأن يتخذا مصدراً للدستور والقوانين. غير أن اتخاذ الكتاب والسنة ميثاقاً للأمة لا بد أن يظهر في خطوط عريضة، تبرز فيها أفكار تحوي كيفية التطبيق في اتخاذ الكتاب والسنة ميثاقاً، وتتضمن ما يضمن سلامة السير في تعيين ماذا يعني الكتاب، وماذا تعني السنة، وتبين ما هو أسلوب فهمهما، وكيف يكونان مصدر الدستور والقوانين، وتشرح ما هي ماهيَّة الدولة التي تقوم على أساسهما، من أجل تنفيذهما، ولذلك كان لا بد من أن يكون اتخاذ الكتاب والسنة ميثاقاً مبلوراً في خطوط عريضة تعبر عن الصورة العملية لاتخاذ الميثاق، ومن هنا وجدت فكرة هذا الميثاق.

وهذه بعض الخطوط العريضة التي يتبلور فيها اتخاذ الكتاب والسنة ميثاقاً للأمة.

بسم الله الرحمن الرحيم

أحكام عامة

– لقد آمنت الأمة بالإسلام عقيدة ونظاماً، وطريقة معينة في العيش، ووجهة نظر في الحياة تعيش بحسبه، وتحيا في الدنيا من أجله، وتحمله للعالم قيادة فكرية ورسالة عالمية.

– الإسلام هو الدين السماوي الذي أنزله الله سبحانه على سيدنا محمد ﷺ لتنظيم علاقة الإنسان بربه وبنفسه وبغيره من بني الإنسان.

– الإسلام إنما يتمثل بالكتاب والسنة.

– الكتاب والسنة نزل بهما الوحي من عند الله على سيدنا محمد رسول الله ﷺ، فالكتاب جاء به الوحي لفظاً ومعنىً من عند الله، والسنة جاء بها الوحي معنىً من عند الله وعَبَّر عنها الرسول ﷺ بألفاظ من عنده.

– يجب على كل مسلم مكلّف أن يتقيد في جميع أفعاله بالأحكام الشرعية، ولا يحلّ له أن يكون فِعلٌ من أفعاله بوصفه عبداً لله على غير ما جاء في خطاب الشارع، أي على غير الحكم الشرعي لقوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)، ولقوله ﷺ: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، ولقوله تعالى:( وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا). فالتقيد بالحكم الشرعي هو من مقتضيات العقيدة الإسلامية، ولذلك قال تعالى:( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ).

– الأمة هي مجموعة من الناس تجمعها عقيدة واحدة ينبثق عنها نظامها، والأمة الإسلامية تجمعها العقيدة الإسلامية، والعقيدة الإسلامية تنبثق عنها الأحكام الشرعية، فالمسلمون أمة واحدة.

– الرابطة التي تربط المسلمين بعضهم مع بعض هي العقيدة الإسلامية، وبهذه العقيدة تحصل الأُخُوَّة الإسلامية، قال تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ )       ، وقال رسول الله ﷺ: «المسلم أخو المسلم»، فبالإيمان بالإسلام صاروا إخوة.

– الرابطة التي تربط الرعية في الدولة هي التابعية، وليس العقيدة الإسلامية، فمن يحمل التابعية يملك جميع الحقوق التي يستحقها، والواجبات التي تجب عليه، ولو كان غير مسلم، ومَن لا يحمل التابعية فليس له ما للمسلمين، وليس عليه ما عليهم، لأن الذمّي قد ضمن له الشرع ذلك. لما رُوي أن رسول الله ﷺ قال: «أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوّا العاني»، قال أبو عبيد «وكذلك أهل الذمة يُجاهد مِن دونهم، ويفك عُناتهم، فإذا استُنقِذوا رجعوا إلى ذمتهم وعهدهم أحراراً، وفي ذلك أحاديث»، ولأن المسلم الذي لا يرحل للعيش تحت سلطان المسلمين ليس له ما للمسلمين، وليس عليه ما عليهم. لما ورد في حديث سليمان بن بريدة «أدعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم انهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين» فهذا نص يشترط التحول ليكون لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، أي لتشملهم الأحكام.

– التابعية هي حمل الولاء للدولة والنظام، واتخاذ دار الإسلام تحت ظل سلطان الإسلام دارَ إقامة دائمية.

– القومية نعرة خبيثة وعنصرية مدمّرة، وقد حَرَّمها الإسلام، قال ﷺ: «إذا الرجل تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تُكنوا» وقال عن الحمية الجاهلية: «دعوها فإنها منتنة» وجاء في مسلم أن رسول الله ﷺ قال: «ومن قاتل تحت راية عُميّة يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقُتل فقَتْلَة جاهلية». والقومية حين دستها الدول الكافرة بين المسلمين مزقت شمل المسلمين إلى أقوام وأجناس، فحين تحركت في المسلمين القومية التركية، والقومية العربية، والقومية الكردية، والقومية الفارسية تصدَّع صفَ الأمة الإسلامية، فأدى ذلك إلى تفرق كلمة المسلمين، وتمزُّق دولتهم، وانفصال أقطارهم بعضها عن بعض، فكان خطرها مدمراً للأمة الإسلامية، وهادماً للدولة الإسلامية، وإذا تمكنت من المسلمين جعلتهم أمماً، وحفرت بين بلادهم خندقاً لا يمكن ردمه، ولا يتأتى أن يُعقَد فوقه جسر، وجعلت بينها حدوداً كجدار من رصاص، يجعلها بالنسبة لبعضها دار حرب، ولذلك كانت الدعوة إلى القومية إثماً كبيراً، ومنكراً فظيعاً، وكان اتخاذها رابطة إجراماً في حق المسلمين، وفي حق الإسلام، فيجب محاربة القومية، ومقاومة الدعوة لها، وجوباً كوجوب الجهاد. ومثل القومية في الإثم والشر الإقليمية والمذهبية الطائفية، فهذه كلها تؤدي إلى تفتيت الأُمة وبالتالي إضعافها، فيعامل كل من يدعو إلى القومية والإقليمية والمذهبية الطائفية معاملة المجرم الذي يستحق أقسى العقوبات.

– العالم كله من بلاد إسلامية، وبلاد غير إسلامية إما دار إسلام، وإما دار حرب وكفر، ولا ثالث لهما مطلقاً، ودار الإسلام هي البلاد التي تُحكم بسلطان الإسلام، وتُطبَّق عليها أحكامه، وأمانها بأمان المسلمين، أي بسلطانهم، وأما دار الكفر أو دار الحرب فهي البلاد التي لا تُحكَم بسلطان الإسلام، ولا تُطبَّق عليها أحكامه، أو التي أمانها بغير أمان المسلمين، أي بغير سلطانهم، لأن إضافة الدار للحرب أو للكفر، أو إضافتها للإسلام هي إضافة للحكم والسلطان، لا للسكان ولا للبلاد. بدليل أن الرسول ﷺ اعتبر ذلك في وصفه دار المهاجرين، وإعطاء مَن يأتيها أن يكون له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم مِن الأحكام، ففي حديث سليمان بن بريدة «ثم ادعهم إلى التحوّل مِن دارهم إلى دار المهاجرين» فأمَر بالتحوّل مِن بلاد ليس عليها سلطان الإسلام إلى بلاد عليها سلطان الإسلام، ثم قال بعد ذلك مباشرة «وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين». فرتب على التحوّل أحكاماً، وجعل التحوّل شرطاً ليكون لهم ما للمهاجرين، وعليهم ما عليهم، مما يدل على أن الدار إنما تُعتَبر بالسلطان والأحكام والأمان، فبحسبها تكون، فان كانت إسلامية كانت دار إسلام، وإن كانت كفراً، كانت دار كفر.

– البلاد الإسلامية هي البلاد التي حكمها المسلمون بسلطان الإسلام، وطُبِّقت عليها أحكام الإسلام، سواء أكانت لا تزال عامرة بالمسلمين كالقفقاس، أو كانت قد أُجلي عنها المسلمون واستوطنها الكفار كالأندلس المسماة بإسبانيا فكلها بلاد إسلامية ما دام قد حكمها المسلمون بسلطان الإسلام، وطُبّقت عليها أحكام الإسلام، ويترتب على ذلك أن تظل أحكام أراضيها كما كانت يوم سلطان الإسلام، إن فتحت فتحاً كانت أرضها خراجية كالأندلس، وإن اسلم أهلها عليها كانت أرضها عشرية كأندونيسيا، وكذلك كل بلاد تسكنها أكثرية إسلامية، ولو لم يسبق أن حكمها المسلمون، فهي بلاد إسلامية، لأنه قد أسلم أهلها عليها.

– الوحدة بين البلاد الإسلامية فرض على المسلمين لأن الإسلام حَرَّم تعدُّد الدولة الإسلامية، فحرّم تعدّد الخلافة، قال ﷺ: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر»، فإنه ينهى عن تقسيم الدولة إلى دولتين، إذ منازعة الخليفة اقتطاع جزء من البلاد، وإقامة خلافة ثانية فيها، وقال ﷺ: ” إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما « فإنه ينهى عن إقامة دولتين في البلاد الإسلامية، إذ مبايعة خليفتين هي إقامة دولتين، فهذه النصوص صريحة في تحريم تعدّد الدول، فإذا تعددت كان ذلك منكراً وجبت إزالته، وإزالة تعددها إنما هو توحيدها.

– الرأسمالية كالشيوعية كلّ منهما كفر، والاشتراكية بجميع أنواعها كفر، فعقيدة فصل الدين عن الدولة عقيدة كفر، وعقيدة المادية والتطور المادي عقيدة كفر، واشتراكية الدولة، والاشتراكية الزراعية وما شابهها كفر، وكما أن النصرانية دين كفر، فكذلك الرأسمالية مبدأ كفر، وكما أن اليهودية دين كفر، فكذلك الشيوعية مبدأ كفر، لأنها كلها ملل كفر، والكفر ملّة واحدة، وكذلك جميع أنواع الاشتراكية كفر.

سن الدستور والقوانين

– كلمة القانون اصطلاح، ومعناه الأمر الذي يصدره السلطان ليسير عليه الناس. وقد عُرِّف بأنه ( مجموع القواعد التي يَجبر السلطان الناس على اتباعها في علاقاتهم ) وقد أطلق على القانون الأساسي لكل دولة كلمة الدستور، وأُطلق على سائر القوانين الأخرى غير القانون الأساسي كلمة القانون. وقد عُرّف الدستور بأنه ( القانون الذي يُحدّد شكل الدولة ونظام الحكم فيها، ويُبيِّن حدود واختصاص كل سلطة فيها ). هذا ما تعنيه كلمتا الدستور والقانون، فالدستور والقانون كل منهما أمر السلطان، والمسلمون إنما هم مقيدون بأوامر الله ونواهيه، فهم مقيدون بالكتاب والسنة، والسلطان نفسه مُقيَّد بأوامر الله ونواهيه، أي بالكتاب والسنة، ومن هنا هم ليسوا بحاجة ماسة إلى دستور وقوانين، لأن الأحكام الشرعية قد بيَّنت القواعد التي يجب عليهم اتباعها في علاقاتهم، وبيّنت شكل الدولة ونظام الحكم، واختصاص كل سلطة. فدستورهم وقانونهم إنما هو الحكم الشرعي، أي خطاب الشارع، به وحده يتَقَّيدون، وبحسبه وحده يسيرون في علاقاتهم، وسائر أفعالهم وتصرفاتهم، سواءً في الدولة، أو في المجتمع. ومن هنا لم يكن للدولة الإسلامية منذ عهد الخلفاء الراشدين حتى زوال الخلافة الإسلامية أي دستور أو قانون، إلا حين سيطرت الدول الكافرة على آخر الدولة الإسلامية في آخر أيام العثمانيين، فأجبروها على سن القوانين، ثم سن دستور.

– إن الله تعالى أمر بطاعة السلطان، وتنفيذ أوامره. قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )، وقال ﷺ: «ومَن يُطع الأمير فقد أطاعني ومَن يَعصِ الأمير فقد عصاني»، غير أن طاعة السلطان مُقَيّدة بما جُعل له أن يقوم به برأيه واجتهاده، لا بكل شيء، فهو لا يُحلُّ حراماً، ولا يُحرِّم حلالاً بحجة أن الله أمر بطاعته، وإنما ينفذ أحكام الشرع على الناس، فالطاعة إنما هي طاعة الشرع وقد جعل الله له أن ينفذ أحكامه برأيه واجتهاده، فوجبت طاعته في هذا، وما عداه فالطاعة هي لله ورسوله لا للسلطان. والسلطان إنما ينفذ شرع الله، وبما أن الأحكام الشرعية اختلف الصحابة فيها، واختلف المجتهدون فيها، ففهم بعضهم من النصوص الشرعية غير ما فهمه البعض الآخر، وبذلك تعدّد فَهْم الأحكام، فإن الشارع قد جعل للخليفة أن يتبنى رأياً من هذه الآراء، ويُلزم الناس بالعمل به وتجب طاعته في هذا، وقد انعقد إجماع الصحابة على أن للخليفة أن يتبنى أحكاماً، وأنه إذا تبنى حكماً وجبت طاعته، وصار هو حكم الله في حق المسلمين جميعاً. صحيح ان طاعة الخليفة فيما تبنى مِن الأحكام واجبة، وله أن يُلزم الناس بأحكام مُعينة، ولكن القيام بذلك ليس قياماً بأمر الخليفة، وإنما هو قيام بما أمر الله، والخليفة إنما عَيَّن فهماً مُعيَّناً مِن أفهام متعددة للنص الشرعي، فالعمل إنما يكون بالحكم الشرعي لا بأمر الخليفة، بدليل أنه لو تبنى غير الحكم الشرعي لما وجبت طاعته، بل حرمت طاعته. ومن هنا لم يكن الالتزام بما تبنى الخليفة طاعة لأمر الخليفة في أمر مِن أوامره هو، وإنما هو طاعة لله فيما أمر الله، فهو قيام بما أمر الله، لا بما أمر الخليفة، ومن هنا لم يكن للسلطان أن يجبر الناس على اتباع قواعد معينة يضعها لهم، إلا في حالة واحدة هي ما جعل الله له أن يقوم به برأيه واجتهاده.

– إن عدم حاجة المسلمين لدستور وقوانين إنما هي عدم حاجة لأحكام مِن وضع البشر يأمر بها السلطان، لأن الشرع جاء بكل شيء، قال تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) فلم تبق هناك حاجة لدستور وقوانين مِن وضع البشر، ولكن ما جعل الشرع للخليفة مِن تبني أحكام معينة فيما اختلفت فيه آراء المجتهدين، وما جعله له من إلزام الناس بآراء معينة مِن آرائه هو فيما جعل له أن يقوم به برأيه واجتهاده، كأمر قيادة الجيش، ونفقات واردات بيت المال، وما شاكل ذلك، فإنه يجعل للسلطان صلاحية أن يسن دستوراً وقوانين، وأن يُجبر الناس على اتباعها، وعلى ذلك يجوز أن يكون للمسلمين دستور وقوانين مِن الأحكام الشرعية، ومما جعلته الأحكام الشرعية للخليفة أن يقوم به برأيه واجتهاد. وبالنسبة لتبني الأحكام يُنظر، فإن كان الخليفة لا يستطيع أن يقوم بأمر يتوجب عليه القيام به إلا إذا تبنى حكماً معيناً في ذلك الأمر، أو كانت وحدة الدولة، أو وحدة الحكم، أي السلطان، أو وحدة الأمة أو وحدة البلاد لا تتأتى، أو لا يُحافظ عليها إلا إذا تبنى حكماً معيناً، فإن التبني في هاتين الحالتين يكون واجباً على الخليفة، عملاً بالقاعدة الشرعية. “ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب“، وأما في غير هاتين الحالتين فإن التبني جائز، وليس بواجب. وأما بالنسبة لما جعل له أن يقوم به برأيه واجتهاده، فإن كان يمكنه أن يعطي رأيه في العمل حين لزوم القيام به، ولا ضرورة لأن يُعيَّن له أسلوباً معيناً سلفاً، فإنه في هذه الحال يجوز له أن يبيّن رأياً معيناً للقيام بذلك العمل، ويجوز أن لا يبيّن، أي يجوز له أن يَسنَّ قانوناً، ويجوز أن لا يَسنَّ، وأما إذا كان القيام بالعمل لا يتأتى إلا بوضع أساليب مدروسة ومحضرة، وإذا لم توضع تعذر القيام بالعمل، وحصلت الفوضى، فإنه حينئذٍ يجب القيام بسن القوانين ويحرم عدم سنّها، وعلى ذلك يكون سنّ قواعد معينة يجبر الناس على القيام بها واجباً في بعضها، وجائزاً في بعضها الآخر، أما جمع هذه القواعد الواجبة والجائزة في دستور واحد، وفي قانون واحد فذلك جائز، وليس بواجب، ومن هنا كان سن دستور وقوانين للمسلمين جائزاً، ولكن من الأحكام الشرعية، ومما جُعل للخليفة أن يقوم به برأيه واجتهاده.

المجتمع الإسلامي

– المجتمع الإسلامي هو المجتمع الذي تسير العلاقات فيه بالأفكار والمشاعر والأنظمة الإسلامية، أي هو مجموعة من المسلمين تكون العلاقات التي تنشأ بينهم وبين بعضهم، وبينهم وبين غيرهم مُسيَّرة بالعقيدة الإسلامية، والأحكام الشرعية، فوجود مسلمين فقط دون تحكم الأفكار والمشاعر والأنظمة الإسلامية في علاقاتهم لا يجعل المجتمع مجتمعاً إسلامياً، بل لا بد من أن تكون الأفكار والمشاعر والأنظمة التي تتحكم في علاقاتهم كذلك أفكاراً ومشاعر وأنظمة إسلامية، فكون الأفكار والمشاعر والأنظمة التي تُسيّر العلاقات إسلامية شرط أساسي ليكون المجتمع مجتمعاً إسلامياً. فلا يكفي أن يكون الناس مسلمين، بل لا بد أن تكون الأفكار والمشاعر والأنظمة إسلامية أيضاً، لأن المجتمع أناس وأفكار ومشاعر وأنظمة. ومن هنا كان المجتمع الذي يعيش فيه المسلمون اليوم في جميع أقطار العالم مجتمعاً غير إسلامي، ولو كان الناس مسلمين، لأن العلاقات لا تُسيّر جميعها بالأفكار والمشاعر والأنظمة الإسلامية، حتى البلدان التي لا تزال تفصل الخصومات في القضاء حسب الأحكام الشرعية فإنها مجتمع غير إسلامي، لأنها تُسيِّر باقي العلاقات على غير أفكار الإسلام وأحكامه، ولا بد أن تُسيّر جميع العلاقات حسب العقيدة الإسلامية والأحكام الشرعية حتى يكون المجتمع مجتمعاً إسلامياً.

– طريقة تغيير المجتمع غير الإسلامي الذي يعيش فيه المسلمون اليوم وإيجاد مجتمع إسلامي مكانه هي تغيير جميع العلاقات دفعة واحدة، أي بشكل انقلابي لا بالتدريج، أي بإلغاء جميع العلاقات الموجودة، وإيجاد علاقات إسلامية مكانها دفعة واحدة، وتبدأ مِن نظام الحكم، وتنتقل لسائر الأنظمة دفعة واحدة، فأول عمل يقام به تحطيم أجهزة الحكم القائمة تحطيماً تاماً، وإيجاد أجهزة الحكم الإسلامي مكانها، وأجهزة الحكم تُلزم الناس بأفكار الإسلام وأحكامه، وتفرض على المسلمين أن يكون المُسيِّر لهم في أعمالهم أوامر الله ونواهيه، وأن يكون مقياس الأمور كلها لديهم هو الحلال والحرام، وتسير في إحداث هذه التغيير بالتوجيه وبإيقاع الجزاء، فتذكر المسلمين بالإسلام، وتشرح للناس جميعاً أفكار الإسلام وأحكامه، وفي نفس الوقت تعاقب المخالف بالحدود والجنايات والتعزير، ولكنها تعتمد في إلزام المسلمين بالتقيّد بأفكار الإسلام وأحكامه على ما لديهم من اعتقاد، أي على الدافع الذاتي، فإن لم يوجد هذا الدافع الذاتي لجأت إلى الإلزام بالقوة وإيقاع الجزاء.

الاقتصاد

– المشكلة الاقتصادية ليست فقر البلاد، وإنما هي فقر الأفراد، وبعبارة أخرى المشكلة الاقتصادية هي توزيع الثروة، وليست إنتاج الثروة، فمشكلة فقر البلاد إذا حصلت تُحلُّ بالعمل على زيادة الإنتاج، أو بالتوسع، أو بالاندماج في بلاد أخرى، وحصولها ليس حتمياً، فقد تحصل في البلاد الفقيرة، وقد لا تحصل كالبلاد الغنية، وهي لا تتعلق بوجهة النظر في الحياة، ولا تختلف باختلاف الشعوب والأمم ولا تشكل مشاكل بين السكان. أما مشكلة فقر الأفراد فهي تحصل حتماً، لأن وجود أشخاص عاجزين، أو مصابين بمرض الكسل، أو طرأ عليهم عجز، كل ذلك ومثله حتمي الحصول في المجتمع، وكون الملكية غريزة وتسابق الناس على زيادة ملكيتهم لا يخلو منه مجتمع؛ لذلك فإن وجود الفقر في الأفراد أمر لا مناص من حصوله، وبذلك كانت مشكلة فقر الأفراد أمراً لا مناص من وقوعه، فتحتاج إلى حَلّ، ثم إن هذه المشكلة تتعلق بوجهة النظر في الحياة وتختلف باختلاف الشعوب والأمم، فأناس يرون أن الجزاء يجب أن يكون بقدر الجهد، فمن لا يُنتج كان من العدل أن يكون فقيراً، وأناس يرون أن العاجز عن الكسب ظُلْمٌ أن يُحرَم من حق العيش، فإن عجزه خلقة، أو طروء العجز عليه ليس في ملكه، وبذلك كان العدل أن يُضمَن له العيش، وأيضاً فإن التنافس في معترك الحياة على العيش والتسابق على المال أمر طبيعي، وهذا التنافس والتسابق يوجد مشاكل بين السكان لا بد من حلها، وهذا كلهُ يُري أن المشكلة التي لا بد لها من حَلّ هي مشكلة فقر الأفراد، لا فقر البلاد، ومعالجة فقر الأفراد تؤدي إلى معالجة فقر البلاد، ولهذا كانت المشكلة هي التوزيع، وليس الإنتاج.

– يجب أن يُضمَن إشباع جميع الحاجات الأساسية لجميع أفراد الرعية فرداً فرداً إشباعاً كلياً، وأن يُضمَن تمكُّن كل فرد منهم من إشباع جميع الحاجات الكمالية، وأن يُضمَن للرعية كلها الأمن والتعليم والتطبيب، وسائر الحاجات الأساسية للجماعة.

– الملكية ثلاثة أنواع هي: الملكية الفردية، والملكية العامة، وملكية الدولة. أما الملكية الفردية فهي حكم شرعي، مقدّر بالعين أو المنفعة يقتضي تمكين مَن يضاف إليه مِن انتفاعه بالشيء وأخذ العوض عنه. وأما الملكية العامة فهي إذن الشارع للجماعة بالاشتراك في الانتفاع بالعين، وأما ملكية الدولة فهي كلّ مال مصرفه موقوف على رأي رئيس الدولة واجتهاده.

– الملكية العامة ثابتة في طبيعة المال وصفته، بغض النظر عن رأي الدولة فينظر إلى واقع المال، فإن كان المال مِن مرافق الجماعة كساحات البلدة، أو من المعادن كالنفط، أو من طبيعته أن لا يملك فردياً، كان ملكاً عاماً طبيعياً، ولا تستطيع الدولة إبقاءه ملكاً فردياً، وإن لم يكن هذا المال مِن أي واحد من هذه الثلاثة بقي ملكاً فردياً، ولا يحلّ للدولة أن تملكه جبراً عن صاحبه لا ملكية عامة، ولا ملكية للدولة، وأما ملكية الدولة فإنها محصورة في المال الذي فيه حق لعامة المسلمين، وهو غير المال الذي هو ملك لعامة المسلمين، فإن كان في المال حق لعامة المسلمين كالخراج، والضرائب، والفيء كان ملكاً للدولة يجب أن تملكه، وإن لم يكن فيه حق لعامة المسلمين كان ملكاً للأفراد، ولا يَحلّ لها أن تملكه، وعلى ذلك فإن ما يُسمّى بالتأميم لا يَحِلُّ مطلقاً، لأنه يعني تحويل الملكية الفردية إلى ملكية الدولة، إذا رأت أن هناك مصلحة عامة، تقتضي ملكية هذا المال المملوك فردياً، وهذا لا يجوز، لأن الشرع حَرَّم أخذ المال تحريماً عاماً. قال عليه السلام: «لا يَحلّ لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفسه»، وحدّد ما هو ملكية عامة، وجعله في طبيعة المال، وصفته، لا برأي الدولة، وحدّد ما هو ملكية للدولة وجعله محصوراً فيما هو حق لعامة المسلمين.

– لملكية الأرض أحكام خاصة بها، وحيازة الأرض أنها للإنتاج الزراعي، واستمرار هذا الإنتاج وزيادته، فتملك الأرض كما يُملك أيّ مال بالشراء، والهبة، والإرث، وغير ذلك من أنواع الملك، وتملك علاوة على ذلك بالإحياء بأن كانت ميتة فأحياها، وبتمليك الدولة للأفراد، وهو ما يُسمَّى في الاصطلاح الشرعي ( بالإقطاع ) ومتى ملك الشخص الأرض أجبر على أن يتولى بنفسه استغلالها، إما بمباشرته هو العمل فيها، أو بتأجيره عمالاً وحيوانات وآلات حرث وغير ذلك، ولا يحلّ له أن يؤجرها للزراعة مطلقاً، وإذا أهملها ثلاث سنوات دون استغلال أُخذت منه جبراً، وأعطيت لغيره، قال ﷺ: «مَن أحيا أرضاً ميتة فهي له»، وروي أن النبي ﷺ اقطع أبا بكر وعمر أرضاً، وصح عنه ﷺ أنه قال: «من كانت له أرض فليزرعها، أو فلّيُرزِعها أخاه، ولا يكاريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى»، وروي أن عمر جعل التحجير ثلاث سنين فإن تركها حتى تمضي ثلاث سنين فأحياها غيره فهو أحق بها، وهو القائل «ليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين».

[يتبع]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *