العدد 151 -

م1999 السنة الثالتة عشرة شعبان 1420هـ – كانون الأول

واقع المصارف اللاربوية (1)

المنطلقات الأولى:

                بدأت الفكرة في ذهن المرحوم الدكتور أحمد عبد العزيز النجار، حينما كان في ألمانيا وتأثر بالمصارف الألمانية، وبعد عودته إلى مصر كافح بعناد لتطبيق الفكرة هناك ونجح عام 1963م في ميت غمر وأطلق على تلك التجربة (تجربة بنوك الادخار المحلية) والتي استمرت بين مد وجزر حتى 22/5/1967 حيث وضعت المصارف الربوية يدها على بنوك الادخار وأدخلت فيها الفائدة. يقول الدكتور النجار عن هذه التجرية (إنني أعترف الآن بسذاجة تصوري فلقد كان رأي القوم قد استقر على تصفيتي (…) لقد اكتفوا بأن ينهوا علاقتي بالمشروع الذي أقمته بكلمتين باردتين متغطرستين، أنهى السراج علاقتي بعملي عندما قال لي باسطاً يده قبلت استقالتك )(1).

                بعد ذلك هاجر بالفكرة إلى السودان وفشل للأسباب نفسها، ثم ظهرت تجربة بنك ناصر الاجتماعي عام 1971م وهو أول مصرف رسمي قيل عنه إنه يعد من المصارف الإسلامية. يقول الدكتور النجار عن هذه التجرية: (إن المؤسسات أو الهيئات التي تنشئها الدولة إنما تنشأ لتكون عِزَباً وغنائم وإقطاعيات لترضية المحيطين والحواشِي ومن هذا المنطلق اختير للبنك رئيس عاش ومات وهو لا يؤمن بإمكان العمل المصرفي بغير سعر الفائدة)(2) وأضاف قائلاً: (إننا باستعراضنا لهذا البنك سوف نحرص على أن يكون مركزاً على فكرته النظرية وعلى ما حال دون تحقيق هذه الفكرة فانتهى به الأمر إلى مسخ شائه يكرر، في طفولة وبلاهة، ما تقوم به الأجهزة المصرفية المجاورة العملاقة)(3).

                بعد ذلك برزت فكرة إنشاء البنك الإسلامي للتنمية وهو مصرف حكومات تساهم فيه غالبية الحكومات القائمة في العالم الإسلامي. وشارك الدكتور النجار في مراحل التأسيس وحضر المؤتمرات الممهدة له وقد تحدث عن المؤتمر المنعقد في 17 محرم 1394هـ/ 3 آذار 1972م تحت عنوان (البنك الإسلامي للتنمية في متاهة المناورات السياسية) قائلاً: «لم نكن نعي أو ندرك أن المصالح العليا للأمة الإسلامية شيء، ولعبة السياسة ومناوراتها وجيوبها وتكتلاتها غير المرئية شيء آخر. دخلنا المؤتمر بكل الأمل والثقة في رموز وممثلي الأمة الإسلامية وعشنا جلسات المؤتمر فخرجنا مثقلين بأغلال من الأسى والحزن … سوف يرى القارئ كيف يناور السياسيون وكيف يئدون الموضوعية وكيف يلفون ويدورون في إطار جيوب وتكتلات وتربيطات تخضع للسياسة وللعلاقات قبل وفوق خضوعها للمصلحة العامة لعموم الأمة الإسلامية»(4) ويضيف: «كنا نحسب أن المشاعر الصادقة لخدمة الأمة الإسلامية، وتأكيد هوية متميزة لها في مجال المال والاقتصاد والأخذ بأسباب القوة في المجال الاقتصادي، موجودة لدى الجميع كما هي موجودة لدينا ومن منطلق هذا التصور حرصنا بسذاجة على أن نمعن في شرح وتوضيح الآثار السياسية والاجتماعية والاقتصادية لإقامة صرح مالي إسلامي يشكل من الناحية العملية بداية الطريق لزحف الأمة الإسلامية مرة أخرى نحو هامة التاريخ»(5). وتم افتتاح بنك التنمية الإسلامي رسمياً عام 1975م.

                ومن الجدير بالذكر أن بنك التنمية الإسلامي يقرض بفائدة تتراوح بين 4% و6%.

                وبعد مرور ستة أشهر على توقيع اتفاقية إنشاء البنك الإسلامي للتنمية صدر مرسوم في دبي بإنشاء بنك دبي الإسلامي وذلك في عام 1975م، وفي عام 1976م تم افتتاح بيت التمويل الكويتي، وفي عام 1977م تم افتتاح بنك فيصل الإسلامي المصري، ثم بنك فيصل الإسلامي السوداني، ثم انطلقت المسيرة في تأسيس المزيد من المصارف والفروع حتى بلغ تعدادها العشرات، هذا عدا عن الفروع للمعاملات الإسلامية التي افتتحتها المصارف الربوية في مصر والأردن وفي أميركا مثل (سيتي بنك).

                يقول الدكتور أحمد عبد العزيز النجار: (إن دار المال الإسلامي استطاعت أن تجذب في طليعة مؤسسيها عدداً من رؤساء دول وحكام من بينهم رئيس دولة الإمارات العربية وحاكم عجمان ورئيس جمهورية باكستان وأمير دولة البحرين ورئيس جمهورية السودان ورئيس جمهورية غينيا ورئيس وزراء ماليزيا وعدداً آخر من الصف الأول من الأمراء في السعودية والكويت وقطر، وإن كانت نسبة كبيرة من هؤلاء قدحوا في دار المال فيما بعد وانسحبوا منها بل وهاجموا أسلوب عملها)(6).

انتقادات أحد أبرز المؤسسين:

                لقد تعمدتُ في هذه الكلمة الاستعانة بأقوال الدكتور أحمد عبد العزيز النجار، لأنه كان أول من أطلق الفكرة ومن أوائل من ساهم في تأسيس هذه المصارف، وكذلك الحال بالنسبة للدكتور جمال الدين عطية الذي ساهم في الإعداد لفكرة المصارف اللاربوية منذ عام 1967م في كل من الكويت ودبي والسودان وقطر ولوكسمبرج والدانمارك. وبعد مرور سنوات على عمل هذه المصارف ألف الدكتور جمال الدين عطية كتاباً عام 1977 من ضمن سلسلة كتب مجلة الأمة تحت عنوان (البنوك الإسلامية بين الحرية والتنظيم)، ضمنه كل الثغرات والمخالفات التي اقترفتها هذه المصارف، أما الدكتور النجار فقد ألف كتاباً بعنوان (حركة البنوك الإسلامية: حقائق الأصل وأوهام الصورة) صدر عام 1993م يتضمن معاناته في رحلته الطويلة مع هذه المصارف، وكان الدكتور النجار يُـلَـقّـب بأبي البنوك الإسلامية فماذا يقول هذا الأب عن أبنائه؟

                يقول الدكتور النجار: البنوك الإسلامية بالنسبة لي هي قطعة مني وهي تاريخي كله، ارتدت طريقها في فجر الستينيات، وقدمت نموذجها الأول الذي اقتنعت به وما زلت وتعرضت من أجلها للهجرة من البلد وإلى ما هو أكثر من ذلك، وناضلت من أجل إقامتها في السودان، ثم تحملت مخاض ولادة البنك الإسلامي للتنمية، إبان عملي بأمانة منظمة المؤتمر الإسلامي في جدة، وجاهدت لإنشاء أول بنك حكومي إسلامي في مصر (بنك ناصر الاجتماعي)، ولا يكاد يكون هنالك بنك إسلامي أقيم حتى منتصف الثمانينيات إلا وكنت من جنود التأسيس فيه، إما بالدعوة له، أو بالسعي إلى إقناع المسؤولين، أو بتقديم المشورة في خطوات الإنشاء، أو بتعبئة الرأي وحشد التأييد، أو بتجميع المؤسسين أو بالاشتراك في مجلس الإدارة، أو بالإسهام في جهود انتقاء العاملين وتدريبهم. هذا فضلاً عن الكتابة المبكرة عن الاقتصاد الإسلامي، وفكرة البنوك الإسلامية، وشرح فلسفتها، وتأصيل نظريتها، وتوضيح مهمتها ووظيفتها، والدفاع عن قضيتها فوق كل منبر، وفي قلب كل منتدى …

                «لقد أحببت أن أقول ذلك منذ البداية بكل الوضوح، حتى أُغلق الأبواب أمام أية مزايدات رديئة أو نفاق بارد، عندما أتحدث بالصراحة الواجبة عن مفارقات التطبيق في مجالات التشغيل وفي نطاق الممارسة.

                (هناك حملة على البنوك الإسلامية وهناك تشويه متعمد، وهناك كذب واختلاق، وهناك كيد وافتراء، كل هذا صحيح ومشهود. ولكن هناك أيضاً أخطاء وانتهاكات، مصدرها بالدرجة الأولى عدم الالتزام الواجب من جانب تلك البنوك والعاملين فيها بمقتضى الأسس التي تقوم عليها نظرية البنك الإسلامي. فالحاصل أن هناك عديداً من العمليات والممارسات لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالعملية التنموية أو العملية الإنتاجية: مثل التعامل في العملات الأجنبية مبيعاً وشراءً وهو ما أدى إلى إهدار عشرات لملايين من الدولارات، ومثل التجارة في الذهب والمعادن النفيسة والمضاربة بها. وقد خسرت دار المال الإسلامي عشرات الملايين من الدولارات من جراء المضاربة على الذهب، وواجه بيت التمويل الكويتي خسارة مماثلة بسبب مضاربته على الفضة)(7).

                ويتابع الدكتور النجار قائلاً: كل أصحاب البنوك الإسلامية هم واحد من اثنين:

                1ـ إما رجل أعمال شغله الأساسي هو الربح، فهو ليس صاحب قضية، وقد شكل الإقبال الكبير من قبل الجماهير على التعامل مع المؤسسات المالية الإسلامية، فرصة نادرة لا تغيب عن حسّ رجل الأعمال ولا يجيز لنفسه أن يفرّط فيها.

                2ـ وإما رجل أو مجموعة من الرجال ليسوا رجال أعمال ولا هم مؤهلين لذلك لا بالطبيعة ولا بالتعليم. أفضل ما يمكن أن يقال فيهم أنهم بعاطفة إسلامية دافقة، سلكوا طريق إقامة المؤسسات المالية الإسلامية كعملية تعبدية تلقائية، وليس كإجراء مخطط اتقاءً للعقوبة المغلَّـظة التي وردت في الكتاب والسنة للذين يأكلون الربا. وقد ترتب على ذلك كل ما يخطر على البال من أسباب الخروج عن الالتزام وانتهاك الوظيفة (8).

                ويضيف النجار (منذ بدأت التجارب المصرفية الإسلامية عَـمَـلَـها، والخللُ واقعٌ في الأداء، والمفارقاتُ قائمةٌ بين النظرية والتطبيق. وذلك هو المعنى الذي أقصُـدُه حين أقول وأكرر القول بأنَّ البنوكَ الإسلاميةَ لم تبدأ بعد)(9).

                ويضيف: (في المؤتمر الإسلامي الذي عقدته رابطة العالم الإسلامي في تشرين الأول 1987م كنتُ قد وصلتُ إلى مرحلةِ اقتناعٍ باستحالة تصحيح مسار المؤسسات الماليةِ الإسلامية القائمة، فأعلنتُ في المؤتمر بكل صراحة أن هناك خللاً وقع. خلل في الالتزام بأساسيات النموذج الاقتصادي الإسلامي، وخللٌ في فهم المقاصد والغايات، وخلل بالتبعية في آلية وإجراءات التطبيق، لم أصل حتى الآن إلى نتيجة، ولم يصل صوتي بعد إلى الآذان الساهمة، والمشاعر المخدرة، ولكن أياً ما كان الأمر، فلن يسكت لي صوت ولن يغمد لي قلم، وسأظل أهتف بالحق وأشْـغَـبُ به حتى يصح الصحيح بإذن الله)(10).

                يتابع الدكتور النجار قائلاً: (إن البنوك الإسلامية، في الوقت الذي تمثل فيه مشروعات اقتصادية وتنموية، تعبر عن عقيدة ووجدان الأمة الإسلامية باستنادها إلى الإسلام، فإن لها بعدها السياسي شئنا أم أبينا باعتبار أنها وسيلة من وسائل التغيير وصياغة الواقع على نحو جديد، وأؤكد عن يقين ومعرفة أن ذلك البعد السياسي غير مقصود على الإطلاق من مؤسسي البنوك الإسلامية. وآية ذلك أن نشأة البنوك الإسلامية لم تكن إجراءً مخططاً ومنظماً، وإنما كان إما مشروعاً تجارياً ناجحاً عند البعض، أو فراراً من الربا والتعامل به عند البعض الآخر، ولو أن الأمر كان يمضي في تخطيط مرسوم، ما كان له أن يمضي على هذا النحو. ومن شواهد ذلك وأدلة النفي عندي ما نشرته الصحف يوماً عن الدعوة التي وُجهت لإنشاء بنك إسلامي خارج البلاد الإسلامية وأُدرجت كافة أسماء الرموز الحركية الإسلامية في مقدمة مؤسسيه، فلو كان الداعون إلى إنشاء البنك يقصدون أهدافاً سياسية من وراء البنوك الإسلامية لما فعلوا ذلك، لأنه كان بمثابة بيان مُـشْـهَـر عن اجتماع قوة المال لديهم مع قاعدة الحركة الإسلامية، ومن المستبعد أن نقول إن صدور مثل هذا الإعلان كان غفلة منهم بحكم ثقافتهم وتمرسهم، ولو جاز أن يكون غفلة فإنه في هذه الحالة يكون مدعاة لطمانة أهل الشأن وإزالة مخاوفهم وتبديد هواجسهم، لأنه يوم أن يكون أصحاب المقاصد السياسية بهذه الغفلة فإنهم لا يخيفون)(11)

 

المصادر والمراجع:

(1)    النجار، د. أحمد عبد العزيز، حركة البنوك الإسلامية (حقائق الأصل وأوهام الصورة)، شركة سبرينت، القاهرة، ط1، 1414هـ/ 1993م، ص103.

(2)          المرجع نفسه، ص114.

(3)          المرجع نفسه، ص107.

(4)          المرجع نفسه، ص169.

(5)          المرجع نفسه، ص179.

(6)          المرجع نفسه، ص567.

(7)          المرجع نفسه، ص587، 588.

(8)          المرجع نفسه، ص593.

(9)          المرجع نفسه، ص595.

(10)   المرجع نفسه، ص597.

(11)   المرجع نفسه، ص598.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *