الاسـتدلال بالمصـلحـة (2)
1999/12/05م
المقالات
2,511 زيارة
بقلم: محمود عبد الكريم حسن
3 ـ المرسل:
وهو وصف مناسب ليس معتبراً ولا ملغىً. وهو بحرفية هذا التعريف لم يقل به أحد، بل هو مردود بالاتفاق، وكل من تحدث، من الأئمة، عن المرسل بهذا المعنى ردَّه. والذين أجازوا إعمال المرسل لم يقصدوا أنه ليس معتبراً بإطلاق. وإنما قصدوا أنه لم يشهد له حكم بعينه، ولكن شهد حكم لجنسه، أو شهدت أحكام لجنسه. فالمرسل عند القائلين به هو من قبيل المعتبر الذي لم يشهد له أي لعينه حكم معين.
قال فخر الدين الرازي في المحصول (وهو من القائلين بالمصالح المرسلة): «المناسب الذي لا يلائم ولا يشهد له أصل معين فهذا مردود بالإجماع. ومثاله حرمان القاتل من الميراث معارضةً له بنقيض قصده لو قدَّرنا أنه لم يرد فيه نص» [المحصول ج5/ ص167] فالمعاملة بنقيض المقصود وصف مناسب عقلاً، وعلى فرض عدم وجود نص «القاتل لا يرث» يكون هذا المعنى المناسب مردوداً بالإجماع، وهذا يؤكد أن القائلين بالمصالح المرسلة لا يقصدون المرسلة بإطلاق من غير وجود أصل أو حكم يشهد لها. ويقول أيضاً (أي الرازي): «مناسب ملائم لا يشهد له أصل بالاعتبار، يعني أنه اعتُبِرَ جنسه في جنسه لكن لم يوجد له أصل يدل على اعتبار نوعه في نوعه وهذا هو المصالح المرسلة» [المحصول ج5/ ص167]. فتعريفه هنا أن المصالح المرسلة هي ما لم يشهد لنوعه أصل بالاعتبار ولكنه ملائم، وفسر كلامه بأنه اعتبر جنسه في جنسه. ويأتي بمثال فيقول: «مثال تأثير الجنس في الجنس تعليل الأحكام بالحِكَم التي لا تشهد لها أصول معينة مثل أن عليّـاً رضي الله عنه أقام الشرب مقام القذف إقامةً لمظنة الشيء مقامه، قياساً على إقامة الخلوة بالمرأة مقام وطئها في الحرمة» [المحصول ج5/ ص164] وعلى ذلك فالمرسل عند من يأخذ به هو أحد أقسام المعتبر. إذ المعتبر قد يكون شهد له حكم معروف كوصف الإسكار شهد له حكم محدد وهو تحريم الخمر. وقد يكون لم يشهد له حكم معين وإنما شهد حكم أو أحكام لجنسه كما في المثال أعلاه. حيث قرأ الرازي في حكم إقامة الخلوة مقام الوطء، معنىً عاماً وهو إقامة مظنة الشيء مقام الشيء، وهنا يوجد عملية تعميم أو تجنيس لوصف ما بغير دليل على التعميم. والافتـقـار إلى الـتـعـمـيم هو ســبـب تسـمية المناسب بأنه مرسل.
ولهذا جاء قول الرازي وغيرِه في المصلحة المرسلة إنها مناسب ملائم لا يشهد له أصل معين. ولفظ ملائم اصطلاح يقصد به كثرة الأحكام التي تشهد لوصف معين. وذلك كوصف المشقة في السفر شهد له أكثر من حكم: حكم الجمع، حكم القصر، حكم الإفطار. فإذا لم يكن الوصف مُـلغىً فهو معتبر وملائم، بخلاف الوصف الذي لا يشهد له إلا حكم واحد فيسمى المعتبر الغريب. [في تقسيم المناسب إلى معتبر ومرسل ومُلغى، وفي تقسيم المعتبر إلى مؤثر وملائم وغريب، أنظر: الإحكام للآمدي ج3/ 246 ـ 248. وإرشاد الفحول للشوكاني ص217. وفواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت للأنصاري ج2/ ص266].
ولهذا قيل إن المصلحة المرسلة يجب أن تكون ملائمة لمقاصـد الشـريعة، ومقاصـد الشريعة هي هذه الأوصاف المناسبة المعتبرة التي شهدت لها أحكام كثيرة تفوق الحصر. فمثلاً حفظ العقل لم يشهد له حكم معين، ولكن شهد حكم لوصف الإسكار، وشهدت أحكام للتفكر والتدبر حيث مُدِح المتفكرون والمتدبرون وذُمَّ الذين لا يفقهون والذين لا يعقلون، ورفع التكليف عن الصبي والمجنون، وغيرها ما يوجد فيها مجتمعةً حفظ العقل. ولذلك يقال إن حفظ العقل من مقاصد الشريعة وإن لم يوجد حكم معين يشهد لذلك أو نص. وكذلك يقال في سائر المقاصد. وبناءً على ذلك فلا يوجد في الشريعة قول: إن المصلحة دليل على الحكم الشرعي. وكذلك ليس المراد بالمصالح المرسلة الاستدلال على تحريم الفعل أو جوازه لمجرد اشتماله على مفسدة أو مصلحة.
ونريد الآن أن نقف على بعض الأقوال التي ينقلها بعض العلماء والكتاب وهي أقوال بعيدة عن الدقة أحياناً، وأحياناً أخرى هي تحليلات وليست أخباراً منقولة.
لقد اشتهرت نسبة القول بالمناسب المرسل إلى الإمام مالك رضي الله عنه، ونسب بعضهم القول بها إلى السادة الحنفية والسادة الشافعية، ونسبها بعضهم إلى الشافعية دون الحنفية. وادعى بعضهم وجودها في كل المذاهب. يقول الدكتور محمد حسن هيتو: «إن مسألة الاستدلال بالمرسل قد وقع فيها خبط كثير فتضاربت فيها النقول وتشعبت الآراء» [أنظر المنخول من تعليقات الأصول للغزالي ـ تحقيق الدكتور هيتو ص370] ويقول الدكتور مصطفى البُغا: «إن الراجح من الآراء أنه لا يصلح الاستدلال به إذ لا دليل على اعتباره. وإنه لم يذهب إلى القول به إلا الإمام مالك رحمه الله تعالى» [أثر الأدلة المختلف فيها ص41] وذهب الدكتور البوطي إلى قول: «إن المصالح المرسلة مقبولة باتفاق الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة» [ضوابط المصلحة ص407]. وذهب القرافي إلى أنها موجودة في كل المذاهب [شرح تنقيح الفصول ص394]. وقال الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله: «ولا تعتبر المصالح المرسلة حجة شرعية لعدم وجود دليل يدل عليها» [الشخصية الإسلامية ج3/ ص433. وقال: «… فلا تصلح لأن تكون دليلاً من الأدلة الشرعية» [المصدر نفسه ص437]. وقد ردها القاضي أبو بكر الباقلاني وردَّ مسلك المناسبة كله أصلاً، وقال إن معناها يرجع إلى التحسين والتقبيح العقلي واتباع تشريع العقلاء والحكماء [أنظر البرهان ج2/ ص724] وردها أيضاً ابن الحاجب المالكي وقال: «المصالح المرسلة مصالح لا يشهد لها أصل بالاعتبار في الشرع وإن كانت على سنن المصالح وتلقتها العقول بالقبول». وقال: «لنا أن لا دليل فوجب الرد كما في الاستحسان» [أنظر حاشيتي التفتزاني والجرجاني على مختصر المنتهى الأصولي ج2/ ص389].
وردها الأحناف بشدة، ولا تصح نسبتها إليهم بحال. ولأئمتهم فيها قول واحد هو: «لا دليل فلا اعتبار» [أنظر تيسير التحرير على التحرير لابن همام الإسكندري ج3/ ص315. ومسلم الثبوت ج2/ ص266 وص301. وكشف الأسرار لعلاء الدين البخاري ج3/ ص518].
1999-12-05