علو الهمة ودنوها
2011/05/05م
المقالات
3,657 زيارة
علو الهمة ودنوها
عبد الرحمن المقدسي (تراب)
إن شعار المسلم السياسي المسؤول هو قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ]الذاريات[، شعار ينبغي أن يقذف في قلوبنا الإحساس بالمسؤولية، والخوف على مصائرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ما خلقنا الله عبثا ولا من أجل الأكل والشراب والنوم والتناسل فحسب، فتلك مهمة البهائم سخرها الله لخدمة بني البشر، بل خلقنا الله تعالى لمهمة أسمى أرفع وأعلى، ألا وهي عبادة الله سبحانه وتعالى وخلافته في الأرض وتطبيق حكمه، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة 30].
إن هذه المهمة السامية والعظيمة في آن واحد، ألا وهي استئناف الحياة الإسلامية عن طريق إقامة الخلافة الراشدة تحتاج همّة عالية ويَقْظة دائمة وشعوراً بالمسؤولية لا يتوانى ولا يضعف، بقدر حجم هذه المهمة، وبقدر حاجياتها وتبعاتها. ورحم الله الفاروق عمر (رضي الله عنه) حين قال فيما رواه عنه الهجنع بن قيس، قال: قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): «وَاللَّهِ إِنِّى لأُكْرِهُ نَفْسِى عَلَى الْجِمَاعِ رَجَاءَ أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنِّى نَسَمَةً تُسَبِّحُ». كتاب السنن الكبرى للبيهقي
إن الإنسان يكون أشبه بالميت خارج دائرة الالتزام بأحكام الله، وحين يكون فيها (أي في دائرة الالتزام بالأحكام الشرعية) يكون كالنخلة يانعة صيف شتاء، فيحمل همّ الأمة بهمّة عالية فيحزن لمصابها ويفرح لنصرها، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، تكون مجسّاته متيقظة ليل نهار على حال الأمة يراقبها ويعيش معها لحظة بلحظة، فإذا سمع عن مجازر سوريا وليبيا أو تقسيم السودان مثلاً حزن وتفطَّر قلبه وهبَّ هبة الأسد ناصحاً واعظاً مذكراً أبناء قطره أن يهتموا بمشاكل المسلمين حتى لو كانوا في بلاد الواق واق. بعكس من يسير بلا اتجاه ولا غاية ولا هدف محدد وطبعاً بلا همّة سوى تلبية الشهوات وإتباع الهوى، شأنه شأن الأنعام، بل أضل سبيلاً، كما قال رب العزة: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)) [الفرقان] فالنقلة النوعية والميلاد الجديد يحدث للإنسان حينما يلتزم بدينه ويدخل في دائرة الإسلام ابتداءً، ومن ثم تعلو همّته أكثر فأكثر حين يعمل في حزب همّه استئناف الحياة الإسلامية من جديد وتطبيق شرع الله في العالم أجمع، حينئذ يحس بثقل المسؤولية وتبعات هذا الانتماء، متجسداً في تلك الأوامر الربانية والتوجيهات النبوية. المتتالية في القيام بما عليه من واجبات
جاء في كتب اللغة: الهَمَّةُ والهِمَّةُ: ما هَمَّ به من أَمر ليفعله. وهي الباعث على الفعل، وتوصف بعلو أو سفول.. ويقال: إِنه لَعظيمُ الهَمّ وإِنه لَصغيرُ الهِمّة، وإِنه لَبَعيدُ الهِمَّةِ والهَمّةِ، بالفتح. ويقال الهِمة بالكسر: أي العزم، وتطلق على صاحب العزم القوي فيقال له: ذو همة عالية. ويقال ملك همام: أي ذو إرادة عالية.والهمة عملٌ قلبيٌ نفسي لا فكري، فحين يدرك المسلم أن واقع عيش المسلمين اليوم منحط وفي أرذل الأمم لعدم حكمهم بما أنزل الله، وأن عليه العمل لتطبيق شرع الله من خلال دولة إسلامية، كان واجباً عليه أن يبادر بالعمل متلبساً به حتى يرفع عنها ما بها من ظلم وتقصير وهذا لا يكون إلا بهمّة وإرادة مسبقة للفعل.
فعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ ﷺ أَعْرَابِيٌّ فََأكْرَمَهُ، فَقَالَ: “ائْتِنَا”، فَأَتَاهُ، فَقَالَ رَسولُ ِّالله :ﷺ”سَلْ حَاجَتَكَ”، فَقَالَ: نَاقَةٌ نَرْكَبُهَا، وَأَعْنُزٌ يَحْلِبُهَا أَهْلِي، فَقَالَ رَُسولُ ِالله :ﷺ أَعَجَزْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَ عَجُوزِ بنِي إِْسرَائِيلَ؟!”، فَقَالَ: “إِنَّ مُوسَى لما سَارَ بِبَنِي إِْسرَائِيلَ مِنْ مِصرَ َضلُّوا الطَّرِيقَ، فَقَالَ عُلَمَاؤُهُمْ: إِنَّ يُوُسفَ لما حَضرَهُ الموت أخَذَ عَلَيْنَا مَوْثِقًا مِنَ اللهَ: أَنْ لاَ نَخْرُجَ مِنْ مِصرَ حَتَّى نَنْقُلَ عِظَامَهُ مَعَنَا، قَالَ: فَمَنْ يَعْلَمُ مَوضعَ قَبره؟ قَالَ: عَجُوزٌ مِنْ بَنِي إِْسرَائِيلَ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا فََأتَتْهُ فَقَالَ: دُلِّينِي عَلَى قَبر يُوُسفَ، قَالَتْ: حَتَّى تُعْطِيَنِي حُكْمِي، قَالَ: وَمَا حُكْمُكِ؟ قَالَتْ: أَكُونُ مَعَكَ الجنة، فَكَرِهَ أَنْ يُعْطِيَهَا ذَلِكَ، فَأَوْحَى الله إِلَيْهِ: أَنْ أَعْطِهَا حُكْمَهَا. فَانْطَلَقَتْ بِهِمْ إلى بُحَيٍَرة مَوْضعَ مُسْتَنْقَعِ مَاءٍ فَقَالَتِ: انْضبُوا هَذَا المكان، فَأَنْضبُوهُ، قَالَتِ: احْتَفِرُوا وَاْستَخْرِجُوا عِظَامَ يُوُسفَ. حديثٌ صحيحٌ حسنٌ رَوَاهُ الطَّبراَنِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى وابنُ حَبّانٍ في صحيحِهِ، وصَحَّحَهُ الحاكمُ. شتان ما بين همة وطموح وسمو هذه المرأة على الرغم من كبر سنها، وبين همة وطموح ذلك الأعرابي الذي سأل لنفسه بعض متاع الدنيا الزائل. ويحكى عن أبي عبيدة أنه قَال: أجْريَتِ الخيلُ يوماً، فجاء فرس فسبق، فجعل رجل من النَّظَّارة يُكَ ويَثِب من الفرحِ، فقيل له: أكان الفرس لك؟ قَال: لا، ولكن اللجام لي. إن هذه المستويات المتواضعة من الرجال لا يمكن لها أن تنهض بالأمة، أو تحدث تأثيراً. والهمم كما هو معروف متفاوتة بين الناس، وأخص هنا بالحديث حملة الدعوة، فالأصل بحامل الدعوة أن يكون ذا همّة راقية عالية لا ترضى بسفاسف الأمور ولا أدناها، وكما لا ينبغي للأنبياء والرسل أن يكونوا كذلك أيضاً كذلك لا ينبغي لورثة الأنبياء والدعاة وحملة الدعوة ذلك. وإن المتأمل لعظماء ورجالات الإسلام من الرعيل الأول ومن بعدهم ليرى أن علو الهمة هو القاسم المشترك بين كل هؤلاء الذين اعتزوا بالإسلام واعتز بهم الإسلام، ووقفوا حياتهم لحراسة الملة وخدمة الأمة، سواء أكانوا علماء أم دعاة أم مجددين أم مجاهدين أم مربين أم عباداً صالحين، ولو لم يتحلوا بعلو الهمة لما كان لهم موضع في قوائم العظماء، ولما تربعوا في قلوب أبناء ملتهم، ولما تزينت بذكرهم صحائف التاريخ ولا جعل الله لهم لسان صدق في الآخرين. ولو لم يكونوا أصحاب همم عالية لكانوا أرقاماً تضاف في عداد المسلمين لا غير.
فكم رجل يعد بألف رجل وكم ألوف تمر بلا عداد
وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
وقال الحكماء: إذا كنت صفراً فكن ذا قيمة. قال ابن القيم، رحمه الله تعالى :علو الهمّة ألا تقف النفس دون الله… ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلاً منه، ولا تبيع حظها من الله، وقربه والأنس به، والفرح والسرور والابتهاج به، بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية. فالهمّة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور. فهذا الطبري قال يوماً لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟
قالوا: كم يكون قدره؟
قال: ثلاثون ألف ورقة!
فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه!
فاختصره في ثلاثة آلاف ورقة، وأملاه في سبع سنين.
ثم قال لهم: أتنشطون لتاريخ العالم من آدم عليه السلام، إلى وقتنا هذا؟
قالوا: كم قدره؟ فذكر نحواً مما ذكره سابقاً (أي ما يقارب الثلاثين ألف ورقة أو يزيد)، فأجابوه بمثل ذلك، فقال رحمه الله: إنا لله، ماتت الهمم، فاختصره في نحو ما اختصر في التفسير. وهذا ابن الجوزي سُئل عن تآليفه؟ فقال: زيادة على ثلاثمائة وأربعين مصنفاً، فكان كثير التأليف والتصنيف، قال الحافظ الذهبي عنه: ما علمت أحداً من العلماء مثل ما صنف هذا الرجل، فإنه لا يضيّع من زمانه شيئاً، وقد كان يكتب في اليوم: أربعة كراريس، مع اشتغاله بالتدريس والتأليف وإفتاء السائلين. ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية فإن جل فتاويه كتبها وهو في السجن..
والإمام النووي رحمه الله وصف حياته لتلميذه ابن العطار.. فذكر له أنه كان يقرأ كل يوم اثنا عشر درساً على مشايخه شرحاً وتصحيحاً.. درسين في الوسيط، ودرساً في المهذب، ودرساً في صحيح مسلم، ودرساً في اللمع، ودرساً في إصلاح المنطق، ودرساً في التصريف، ودرساً في أصول الفقه، ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين،.. قال وكنت أعلق على جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل.. ووضوح عبارة.. وضبط لغة.. وبارك الله تعالى في وقتي…
ومن أبرز صفات صاحب الهمة أنه ذو طموح، الطَّمُوحُ: السَّاعي إلى المراتبِ العالية وصاحبُ الآمالِ العريضة؛ ويقال فرسٌ طموح، أيْ يعدو رافعاً رأسَه/ ويقال بحرٌ طموح، أي مرتفعُ الموج. والطُّموح كنز لا يفنى ولا يبلى، ولا يسعى للنجاح من لا يملك طموحًا، فصاحب الطموح دائمًا يتطلع للمعالي، فهذا عمر بن عبد العزيز، وكان صاحب همة عالية ونفس طموحة، يقول: «إنَّ لي نفسًا توَّاقة تمنت الإمارة فنالتها، وتمنَّت الخلافة فنالتها، وأنا الآن أتوق إلى الجنة، وأرجو أن أنالها».
أخي حامل الدعوة: همتك فاحفظها وارقَ بها، فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها صلح له ما وراء ذلك من الأعمال. فشتان بين حامل دعوة يجلس ساعتين في الأسبوع متذمرٍ شبه نائم لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، متواكل على إخوته، مقصر في جنب الله، محمول على الدعوة، كالورقة الصفراء في الشجرة اليانعة الخضراء، فهذا ثقل وجب إنزاله لسير المركب أسرع فأسرع وسرعان ما يسقط وحده، وبين حامل دعوة ذي همة عالية مجد مثابر متفقه لا يرضى أن يكون عالة وثقلاً أو رقماً صغيراً بل ترقى همّته إلى أن يصل ليله بنهاره حاملاً الدعوة متصلاً بالأمة، بل ويثقل كاهله في أن يرقى بشخصيته فيكون عالماً بما يلزمه من أحكام، مستزيداً من علوم الشرع ما وسعه ذلك، وفي الوقت نفسه تكون نفسيته إسلامية فيكون قائماً بأحكام الشرع، لا أن يعلمها فقط، بل يطبقها في كل أمره، مع خالقه، ومع نفسه، ومع غيره، على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه.
قال الصادق المصدوق :«سبق درهم مائة ألف»، قالوا: يا رسول الله، كيف يسبق درهم مائة ألف؟! قال:ﷺ «سَبَقَ دِرْهَمٌ دِرْهَمَين، قَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اَللِه قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ فَتََصدَّقَ بِأَحَدِهِمَا، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ إلى عُرِْض مَالِهِ فََأخَذَ مِنْهُ مِائَةَ َألْفِ دِرْهَمٍ فَتََصدَّقَ بِهَا» رواه أحمد وغيره.
وإن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً بعض الوقت، ولكنه يعيش صغيراً ويموت صغيراً آثماً، وأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير ((عبء حمل الدعوة)) فماله والنوم؟ وماله والراحة؟ ماله والفراش الدافئ، والعيش الهادئ والمتاع المريح؟ فالمكارم مَنُوطَة بالمكارِهِ، وأنَّ المصالحَ والخيراتِ واللذاتِ والكَمَالاتِ كلَّها لا تُنَالُ إلا بحظٍ من المشقةِ، ولا يُع إليها إلا على جِسْرٍ منِ التَعَبِ. ولقد عرّف رسولنا ﷺ حقيقة الأمر وقدره، فقال لأم المؤمنين خديجة (رضي الله عنها): «لا راحة بعد اليوم يا خديجة» أجل مضى عهد النوم والدّعة، وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب. ونقل ابن قتيبة عن بعض كتب الحكمة: «ذو الهمة إن حُطَّ، فنفسه تأبى إلا عُلُوّاً، كالشعلةِ من النار يُصَوِّبُها صاحبها، وتأبى إلا ارتفاعاً». وقال: «فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتبََهَا لَهُ عِنْدَهُ حَسَنةًَ كَامِلةًَ» رواه البخاري. وقال ﷺ فيمن تجهز للجهاد، ثم أدركه الموت: «إِنَّ قَدْ أَوْقَعَ أَجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ» أي قصده من العمل، رواه أحمد وغيره. وقال: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ اَْلَمنزِْل، أَلا إِنَّ ِسلْعَةَ غَالِيَةٌ، أَلا إِنَّ ِسلْعَةَ اَّلَجنْةُ» (الترمذي). أَدْلَجَ القومُ إِذا ساروا الليلَ كله، فهم مُد وِجلُْنَ. وعَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله » :ﷺإِنَّ يُحِبُّ مَعَالِيَ الأمور وأَْشرَافَهَا، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا». رواه الطبراني. وقال ابن قيم الجوزية: كمال الإنسان بهمّة ترقيه وعلم يبصّره ويهديه.
ومن أهم مجالات علو الهمة لحامل الدعوة هي:
1- علو الهمة في طلب العلم والثقافة الحزبية والإسلامية: قال يحيى بن أبي كثير: لا ينال العلم براحة الجسد.
ومن يصطبر للعلم يظفر بنيله ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل
ومن لم يذل النفس في طلب العلى
يسيراً، يعــش دهراً طويلاً أخاذل
ولذلك ينبغي على حامل الدعوة أن يستزيد من معين الثقافة الإسلامية، فالأصل به أن يكون حاملاً للدعوة ملماً بسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام فهو أحق الناس بدراستها لأنه يسير متأسياً بها. ولا يكتفي أن يعيش طوال عمره دارساً بل أن ترقى همته لأن يكون مدرساً وخطيباً بل قل فقيهاً، ولا أبالغ.
2- علو الهمة في العبادة والتقرب إلى الله بالنوافل: قال الحسن: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره. وقال وهيب بن الورد: إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل.
3- علو الهمّة في حمل الدعوة والاتصال بالناس: وهذا لن يكون لحامل دعوة منقطع عن الناس لا يصلي في المساجد، ولا يشارك الناس أفراحهم أو أتراحهم، فالفكر لا يطيق أن يبقى حبيساً،ثم إننا نتعامل مع الأمة وفي الأمة؛ لذلك لا بد لنا من الكد والتعب في الاتصال بالناس من غير ملل ولا يأس.
عن ابن عمر (رضي الله عنهما) قَال: قَالَ رَسُولُ ﷺ: « الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ». رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وحسّنه ابن حجر وصححه الألباني.
ولكي نكون أبعد عن انحطاط الهمم عند حملة الدعوة لابد أن نتعرف إلى أسباب ذلك ومنها:
1- عدم إرادة الآخرة، وجعل الهموم همَّا واحداً: قال تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)) [الإسراء]. وقال ﷺ: «مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بْنيََ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إلاّ مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتْ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» (ابن ماجه). فلا يعقل لحامل دعوة لا يبتغي من عمله مرضاة الله، أو يبتغي بعمله رضى مشرفه أو مسؤوله، فوجب على حامل الدعوة أن لُخيصله، فإنه موقوف ومسؤول أمام الله. ولنا في الصحابة الكرام أسوة حسنة، ما ورد في سيرة النبي ﷺ في طلب النصرة، فمن القبائل من رده كثقيف، ومنهم من قبله بشرط وهم بنو تميم؛ اشترطوا عليه أن يكون لهم الأمر من بعده، فحدود غايتهم وهمتهم حطام الحياة الدنيا، وهذا خلل في الهمة والعزيمة سبقه خلل في العقيدة. لكن لما جاء الأنصار في بيعة العقبة وبايعوا النبي ﷺ بعد أن استوثق لنفسه منهم، قالوا: «فما لنا يا رسول الله؟ قال: لكم الجنة، قالوا: ربح البيع..! لا نقيل ولا نستقيل» فهناك كانت همتهم ومرادهم التي تجاوزت مقاييس الحياة الدنيا فكان منهم من قتل في سبيل الوفاء بهذه البيعة، وأما من لم يقتل فقد كان يشعر أنه ضعف عن نيل الجنة، وهكذا كانت مبايعة الصحابة للنبي ﷺ على الجهاد وعلى النصرة، كما بايعوه أيضاً تحت الشجرة، وهم مع هذا –وفي كل غزوة- يؤكدون ذلك العهد إما بالقول أو بالعمل؛ فأثبتوا بذلك أنهم أقوى الناس عزيمة وإرادة، وأعلاهم همة.
2- الفتور: قال» :إنَِّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً وَلِكُلِّ شِرَّةً فَتْرَةٌ» (الترمذي وأحمد): والشرة: نشاط وقوة وحرص، والفترة: ضعف وفتور. لذلك قال: «وَأَنَّ أَحَبَّ الأعمال إلى الله أَدْوَمُهَا وَِإنْ قَلَّ» (البخاري).
3- إهدار الوقت الثمين في فضول المباحات.. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ الله عَنْهُمَا) قَالَ: قَالَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الِّصحَّةُ وَالْفَرَاغُ» [رواه البخاري]. وهذا لا يتأتى لحامل دعوة بل لا يجوز له، فهو ضيّق الوقت مستغل له في شتى المجالات للاستعانة على حمل الدعوة. قال ابن القيم رحمه الله: لابد من سِنة الغفلة، ورقاد الغفلة، ولكن كن خفيف النوم.. ويقول الفضيل بن عياض «أعرف من يعدّ كلامه من الجمعة إلى الجمعة» حرصاً على أن لا ينطق إلا خيراً، ولا يضيع وقته في أي كلام.
4- التسويف والتمني .. وهما صفة بليد الحس، عديم المبالاة، الذي كلَّما همَّت نفسه بخير، إما يعيقها ب)سوف( حتى يفاجئه الموت، وإما يركب بها بحر التمني، وهو بحر لا ساحل له، يدمن ركوبه مفاليس الناس. قال الحسن البصري رحمه الله: «إن قوماً ألهتهم أمانيّ المغفرة حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة، يقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي، وكذب، لو أحسن الظن لأحسن العمل.»
5- الابتعاد عن حضن الحزب: قال :ﷺ «فَإِنَّمَا يأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاِصيَةَ» (النسائي)، فحامل الدعوة قريب من إخوانه محتكٌّ بهم مداوم على الاتصال بهم لما يفيده ذلك من مراقبة منهم له، فإن أخطأ صححوه ونصحوه، وإن حاد قوّموه، وإن يئس أو دخل الفتور إلى قلبه أعادوا الأمل والهمة إليه. قال ﷺ: «إِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَير مَغَالِيقَ للشّر.» أخرجه ابن ماجه في سننه.
6- عدم ذكر الموت: عن عطاء قال: كان عمر بن عبد العزيز يجمع كل ليلة الفقهاء، فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ويبكون. وإن حامل الدعوة أكثر ما يكون للموت ذكراً، وكيف لا وهو الذي إن لم يحسن حمل دعوته لقي الله بميتة جاهلية.
أخي حامل الدعوة: اعلم أنه لا يُدرِك المفاخرَ من رضي بالصف الآخر، وإنها أمانة ثقيلة أخي حامل الدعوة: وتحتاج إلى رجال عظام كأسلافنا الكرام، الذين طلقوا النوم والدعة والراحة، وعلوا بهممهم حتى بلغت عنان السماء، ورضوا لأنفسهم متاعاً ونوماً قليلاً، عسى أن يشفع لهم عند ربهم، ويعوضهم ما فاتهم من خير وأجر وثواب. لقد فهموا معنى الحياة، وأدركوا أن ما فيها ينفذ وما عند الله باق.
اعلموا أن لا خير في نوم عميق وراحة متواصلة واسترخاء عن أداء الواجبات، ولا مكانة بينهم لصغير الهمة ودنيّها، فكل ذلك مهلكة للنفس، وترك للثغور، وخذلان للحق الذي بايعوا الله على نصرته ونشره بين الناس، فلا يجتمع متناقضان، كما لا يجعل الله لرجل من قلبين في جوفه، قلب يريد الدنيا ومتاعها الزائل، وقلب يبتغي الآخرة ومتاعها المقيم.
فهذه والله أيامكم أيها الكرام… وهذه الأيام خاصة هي أيام سعدِكم… وهذا دين ربّكم بين أيديكم، عقلتموه وتدارستموه في حلقاتكم، وهناك أمامَكم عدوّ الله وعدوّكم، يتربّع على كراسيّ الظلم والقهر بعد أن هدم خلافتكم. وها هي أمتكم دبّت في شجرتها الحياة من جديد، بل لم يبقَ لنا من العمل معها إلا القليل، فكم كنا نحفر في الصخور حتى نضرب الحاجز بين الأمة وحكامها، وبين الأمة وصمتها، فها هي تنادي بما نقول ولو بشكل جزئي، وقد ساقها الله إلينا فأروا الله تعالى منكم ما يرضى به عنكم
فنقول لحملة الدعوة الكرام: لقد انتهى عهد النوم والدّعة، وحل محله عهد اليقظة والمثابرة والكد والجد وعلوّ الهمم، فكل ما حولنا يدعو إلى ذلك، وإنها مهمة الأنبياء والمرسلين، ولن ينتصر هذا الدين إلا برجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، ولا يقيدهم نوم ولا راحة عن الدعوة لاستئناف حياة إسلامية كريمة على منهاج النبوة.
ذكر ابن الجوزي رحمه الله في (صيد الخاطر): “قالَ الكلبُ للأسدِ يوماً: يا سيِّدَ السباعِ غَ اسمي فإنَّه قبيحٌ، فقال له: أنتَ خائنٌ لا يَصلحُ لك غيرُ هذا الاسمِ، قال: جَرِّبْني، فأعطاه قطعةَ لحمٍ، وقال له: إحفظْ هذِهِ إلى الغَدِ وأنا أُغَ اسمَكَ؛ أخذَ الكلبُ قِطْعةَ اللحمِ، وبعد زمنٍ جعلَ الكلبُ يَنظرُ إلى اللحمِ ويصبرُ، فلمَّا غلبتْهُ نفسُهُ، قال: وأيُّ شيءٍ في اسمي، وما كلبٌ إلا اسمٌ حسنٌ، وأكلَ اللحمَ”. يقول ابنُ الجوزىِّ معلّقاً على هذه القصة: “وهكذا خَسيسُ الهمةِ القنوعُ بأقلِ المنازلِ، المختَّارُ لعاجلِ الهوى على آجلِ الفضائلِ”.
فكونوا يرحمكم الله من أصحاب الهمم العالية… وكونوا من جنود الله الذين لا يعرفون الدّعة. فأصحابُ الهممِ يُعْتمدُ عليهم، وتُناطُ بهم الأمورُ الصعبةُ، وهذا أمرٌ مُشَاهَدٌ معروفٌ، كما سمِعنا وقرأنا عمن سَبَقَ من أهلِ الفضلِ ومَنْ أنَارَ اللهُ بهمُ الدنيا ورفعَ اللهُ بهم شأنَ الأمةِ. فربّ همة أحيت أمة بإذن الله.
اللهم اجعلنا من أصحاب الهمم العالية التي لا ترضى إلا بالعمل الدؤوب لمبايعة أمير يكون عطاءً حسناً من الله للمسلمين خليفةً راشداً لهم… وما ذلك على الله بعزيز.
2011-05-05