المجتمع هو العلاقات بين الناس في بلد ما وليس مجموعة الناس في البلد
1988/04/03م
المقالات
4,411 زيارة
يُكثر الكتّاب والمفكّرون في العالم المسمى بالعالم الحرب من ذكر المجتمع وتحليله على اعتبار أن المجتمع هو مجموعة الناس في البلد، أو البلد باعتبارها مسكونة بالناس. فيقولون بقضايا المجتمع، والنهوض بالمجتمع، أو القضايا المادية للمجتمع وما شاكل ذلك. والعالم الغربي أو ما يسمّى بالعالم الحر هو المسيطر على أكثر أجزاء العالم، ومنه العالم الإسلامي، بحضارته ومفاهيمه، ولذلك تركز هذا المعنى للمجتمع في أذهان الناس في العالم الإسلامي ولا سيما في أذهان المثقفين والمفكّرين، وحتى جمهرة اليساريين بجميع أنواعهم. وبالرغم من وضوح خطأ هذا المعنى، ومن مخالفة الفكرة الاشتراكية له، فإنه ظل هو الغالب لدى المثقفين والمفكرين، بل ظل هو المسيطر. ولما كان هذا المفهوم للمجتمع من الأفكار الأساسية لدى الغرب ولدى الحضارة الغربية، ولما كنا نريد قلع الحضارة الغربية من جذورها لإزالة خطرها وخطر الغرب كله، كان لا بد من توضيح معنى المجتمع بشكل شامل، لإدراك واقعه حين إدراك مدلولاته.
إن واقع المجتمع هو أنه مجموعة الناس بما بينهم من علاقات،وليس مجموعة الناس فقط. فمجموعة الناس هي جماعة وليست مجتمعاً، والذي يكوّن المجتمع هو العلاقات. وتتميّز المجتمعات عن بعضها بحسب هذه العلاقات، وإلا فالناس في كل بلدهم الناس، أي هم أشخاص من بني الإنسان لا تتميز جماعة عن جماعة إلا بالعلاقات.
إن المجتمع في حقيقته التفصيلية هو أناس، وأفكار، ومشاعر وأنظمة. هذه الأمور الأربعة هي المجتمع. ذلك أن الذي ينشئ العلاقة بين الناس هو المصلحة، فإذا وجدت مصلحة كانت العلاقة، وإذا لم توجد مصلحة لا توجد علاقة. والمصلحة مبنية على أفكار عن الشيء أو الأمر بأنه مصلحة، فإذا توافقت أفكار الناس على أمر بأنه مصلحة وجدت بينهم علاقات وتوحدت هذه العلاقات، وإذا اختلفت أفكارهم على أمر من حيث المصلحة، هذا يراه مصلحة وذلك يراه مفسدة، فإنه لا توجد بينهم علاقات. فالذي يوجد العلاقات بينهم هو اتفاق أفكارهم على أن هذا الأمر مصلحة، وهذا أول شيء في وجود العلاقة.
غير أن هذا لا يكفي وحده، بل لا بد أن تتوافق مشاعرهم نحو هذه المصلحة، فإذا توافق فرحهم للمصلحة وتوافق حزنهم عليها، وتوافق رضاهم عنها وتوافق سخطهم عليها، إلى غير ذلك من مظاهر المشاعر، فإن العلاقة توجد، وإذا لم تتوافق هذه المشاعر لا توجد العلاقة حتى لو وجدت الأفكار، فإنها حينئذ تكون مجرد أفكار فلسفية كفلسفة اليونان عند الفرنسيين مثلاً، فإن الفكر لا يكون فكراً له واقع أي لا يكون مفهوماً إلا إذا ارتبط بالمشاعر. فبوجود الأفكار والمشاعر تتكون العلاقة. إلا أن هذه العلاقة لا تخرج إلى حيز الوجود ولا تكون لها ثمرة إلا إذا توحّدت بينهم الأنظمة التي تنظم هذه العلاقة، فوجود العلاقة ملموسة ومثمرة لا يتأتى بتوحيد الأفكار والمشاعر، ولذلك كانت الأنظمة في تكوين المجتمع عاملاً هاماً وإن كان دون أهمية المفاهيم أي الأفكار التي أصبحت مفاهيم.
وعلى هذا فإنه من الخطأ أن يقال بقضايا المجتمع ويُراد بذلك الناس، بل قضايا المجتمع هي قضايا العلاقات بين الناس وليست قضايا الناس، ولذلك فإن إصلاح المجتمع هو إصلاح العلاقات وليس إصلاح الناس، وتغيير المجتمع هو تغيير العلاقات وليس تغيير ما يستعمله الناس من أدوات ولا تغيير ما يلزم لحياة الناس. ومن هنا لم يكن جعل الغسالة الكهربائية مكان وعاء الغسيل، وجعل المكنسة الكهربائية ولا إصلاحه، فإنه لا علاقة له في المجتمع. صحيح أنه قد يؤثر على الأفكار وقد يؤثر على المشاعر، ولكنه تأثير انطباع وتقليد لا تأثير فَهْم وأصالة، وهو تأثير مؤقت يسهل أن يزول، ومع ذلك فإنه لا ينشئ علاقة ولا يكوّن مجتمعاً. بل إصلاح المجتمع وتغييره إنما هو بتغيير الأفكار والمشاعر والأنظمة، ولا يصلح ولا يتغير إلا بذلك، أي بالأفكار والمشاعر والأنظمة.
وإنه وإن كان ذلك، أي فهم المجتمع هذا الفهم المغلوط يؤثر، وقد أثر فعلاً، على الناس بوصفهم أفراداً وبوصفهم جماعة، وحال دون نهضتهم وجعلهم يدورون في حلقة مفرغة عشرات السنين، ولكن تأثيره على السياسة أي على رعاية شؤون الناس كان أفظع، بل كان الكارثة التي حلق بهم والتي نقلتهم دون أن يشعروا إلى أخذ الحضارة الغربية أخذاً يصل إلى حد الاعتناق في بعض الأحيان، وجعلهم ينتقلون حتى في أذواقهم نحو مفاهيم الغرب من شدة تأثير الحضارة الغربية عليهم في اغتنامها فرصة الفهم المغلوط لمعنى المجتمع.
ولنأخذ من ذلك مثالين هما: مفاهيم الحكم ومفاهيم الاقتصاد لأنها أظهر المفاهيم التي أخذت عن طريق الفهم المغلوط للمجتمع، وأثرت على تصرفات الناس وأذواقهم.
فالغرب يرى أن الحكم للشعب، وأن السيادة للشعب، وأن القيادة جماعية وأن الأمة مصدر السلطات وهذه المفاهيم هي أفكار تتعلق بالعلاقات في السياسة، أي بالعلاقات في رعاية الشؤون. وهي مفاهيم نشأت لدى الغرب من جراء الظلم السياسي الذي حصل في أوروبا ثم في أميركا من قبل الملوك والأمراء، ومن قبل الدول الاستعمارية في أميركا حين كانت مستعمرات، فنشأت عن هذا الظلم محاولات من قبل المفكرين أدت إلى هذا المفاهيم. فجعل كل شيء للشعب من أجل رفع الظلم السياسي عن الناس. وبالرغم من لمسهم أن واقع الحكم هو غير هذه المفاهيم. ولما كان المجتمع عندهم هو مجموعة الناس، فإنهم لم يلاحظوا أن رعاية الشؤون أي السياسة هي علاقات الناس فيمن يسوسهم وليست حاكماً ومحكوماً. ولهذا اعتبروا مجموعة الناس هي المجتمع، واعتبروا أن الناس هم الذين يحكمون أنفسهم، أي يرعون شؤون أنفسهم، فظلوا تائهين عن معاني هذه المفاهيم، يعتنقونها وإن خالفت الواقع الذي هم عليه. فهم لم يلاحظوا أن الشعب لا يحكم، فهو لا يتولى السلطة، وإنما الذي يتولاها هو ريغان في أميركا وغورباتشوف في الاتحاد السوفياتي، وميتران في فرنسا.. الخ، ومع ذلك ظلوا يقولوه إن الشعب هو الذي يحكم. كما لم يلاحظوا أن الشعب لا يتولى القضاء، وأنه إنما يتولاه قضاة درسوا القانون، وأنه كما يستحيل على الشعب أن يتولى السلطة، فإن كذلك يستحيل عليه أن يتولى القضاء فإنهم ظلوا يقولون أن الشعب هو الذي يتولى القضاء، تماماً كما يقولون أن الشعب هو الذي يتولى الحكم. ولم يلاحظوا أن الشعب لا يتولى التشريع وحتى مجلس النواب لا يتولى التشريع، وإنما يتولاه رجال القانون وتسنّه الحكومة، ومع ذلك ظلوا يقولون إن التشريع للشعب وإن الشعب هو الذي يتولى التشريع. ولم يلاحظوا أن الشعب ليس له في الواقع إلا اختيار الحاكم وليس له عزله، وأن الحاكم هو الذي يشرع، وهو الذي يسيطر على القضاء، وأنه لا توجد إلا سلطة واحدة هي سلطة الحاكم. ومع ذلك قالوا أن هناك ثلاث سلطات هي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية، وأن الشعب هو مصدر السلطات. نعم لم يلاحظوا مخالفة مفاهيم الحكم كواقع الحكم، إذ أعماهم عن ذلك المفهوم المغلوط عن المجتمع، إلى جانب ما سمعوه عن الظلم السياسي وما يتصورونه من هذا الظلم إذا لم يكن الشعب هو كل شيء.
هذا بالنسبة لمفاهيم الحكم، أما مفاهيم الاقتصاد فإن ما عانته أوروبا من ظلم الأغنياء والتفاوت الفاحش بين الناس في العيش، وما عانته أميركا من ظلم الاستعمار واستيلائه على خيرات البلاد إلى جانب ظلم الأغنياء والتفاوت الفاحش بين الناس في العيش كل ذلك قد أوجد عند المفكرين فكرة توفير المال للناس يأخذونه بمقدار قدرتهم على تحصيله، وتوصلوا إلى أن المشكلة الاقتصادية هي الندرة للمال، وليست حاجة أفراد الناس له، فصار الفقير هو المجتمع حسب فهمه وليس الأفراد، أي هو مجموعة الناس وليس أفراد هؤلاء الناس، وبناء على ذلك انصب التفكير على إيجاد المال في البلد بكميات تكفي لحاجات مجموعة الناس، وليس توفير حاجة كل فرد من الناس، وبالرغم من لمسهم أن واقع الاقتصاد هو حاجة كل فرد من الناس وليس مجموعة الناس، وبالرغم من لمسهم أن ظلم الأغنياء لا يزال قائما بل ازداد، وأن التفاوت الفاحش بين الناس في العيش قد ازداد، أي بالرغم من لمسهم أن واقع الاقتصاد هو غير هذه المفاهيم، ظل مفهوم المشكلة الاقتصادية هو المسيطر عليهم وعلى مفكريهم، وتناسوا أن الواقع لا يمت بصلة إلى هذه المفاهيم. ونظراً لأن المجتمع حسب فهمهم هو مجموعة الناس، لم يلاحظوا أن الاقتصاد أي توفير المال هو علاقات بين الأفراد مع بعضهم، وعلاقات بين مجموعة الناس ومن هو مسؤول عن توفير حاجاتهم، وليست مالاً يوضع في اليد ويأخذ منه كل بحسب قدرته. ولهذا اعتبروا مجموعة الناس هي المجتمع، واعتبروا أن الناس هم الذين يوفرون لمجتمعهم المال، وأن الحاكم ليس عليه إلا أن يوفر المال للبلد بوصفه كلاً أي لمجموعة الناس، فظلوا تائهين عن معاني هذه المفاهيم يعتنقونها وإن خالفت الواقع الذي هم عليه، وإن ألحقت بهم الأضرار وركزت ظلم الأغنياء ووسّعت التباعد الفاحش بين الناس في العيش.
هذا هو المفهوم المغلوط للمجتمع، وهذه المفاهيم المغلوطة عن الحكم وعن الاقتصاد وكل ما يترتب على معنى المجتمع عندهم من مفاهيم أخرى هي التي نقلت العلاقات بين الناس، ونقلت مفاهيم الناس وحتى أذواقهم إلى الخضوع للحضارة الغربية بل إلى طريقة عيش الغرب ووجهة نظره في الحياة. لذلك كان من أهم ما على الناس جميعاً حتى في الغرب، ولا سيما المسلمين في العالم الإسلامي أن يتبنوا معنى المجتمع، وأن ينبذوا ثم يحاربوا مفهوم الغرب عن المجتمع كخطوة أولى لنبذ سائر مفاهيمه، ولا سيما مفاهيم الحكم ومفاهيم الاقتصاد لأنهما الركيزة الأساسية في التأثير. ولذلك كان لا بد من أن يتركز عند الناس ولا سيما المسلمين في العالم الإسلامي أن المجتمع هو مجموعة الناس بأفرادهم بما بينهم من علاقات، وأن ما بين مجموعة ومن يتولى السلطان فيها أي يتولى رعاية شؤونها هو علاقات، وأن ما بين مجموعة الناس هذه ومجموعات أخرى أي أمم ودول أخرى هو العلاقات، وأن المسألة كلها تتعلق بالعلاقات، فيكون البحث عن هذه العلاقات.
1988-04-03