العدد 232 -

الـوعــي ــ العدد 232 ــ السـنة العشرون ــ جمادى الأولى 1427هــ ــ حزيران 2006م

مع القرآن الكريم: الآثار الدنيوية للحكم بما أنزل الله (3)

مع القرآن الكريم:

الآثار الدنيوية للحكم بما أنزل الله (3)

النصر والفتح

 

بعد أن تُمكَّن الأمة وتستقر _ كما ذكرنا في العدد السابق _ لابد وأن الأعداء سوف يتكالبون عليها يتربصون بها الدوائر، ولابد لهذه الأمة أن تقوم بحق الله عليها في الدعوة والجهاد، فالله تعالى: قد ضمن للأمة الإس المستقيمة على شرعه أن ينصرها على أعدائها بعزته وقوته، قال تعالى: ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ) [الحج 40-41] أي لينصرن الله سبحانه من ينصر دينه، ومن ينصر أولياءه، وينتصر لشرعه في الأولين والآخرين كما نصر المهاجرين والأنصار على صناديد العرب، وأكاسرة العجم، وقياصرة الروم، وأورثهم أرضهم وديارهم. وبيّنت الآيات علامة من ينصر دين الله بما يبين أن ادعاء نصر الدين يكون كذباً إذا لم يكن بهذا الوصف: ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ) أي ملكناهم إياها، وجعلناهم المتسلطين عليها ( أَقَامُوا الصَّلَاةَ ) بين الناس في الجمعة والجماعات ( وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ ) بتحصيلها من الرعية وإيتائها ( وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ ) الذي هو كل ما أمر به الشرع من حقوق لله وحقوق الآدميين ( وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ) الذي هو كل ما نهى عنه الشرع. وعندما تنصر الأمة دين الله بهذا المعنى فإن وعد الله لها لا يمكن أن يتخلف؛ ولهذا فإن حال الأمة من النصر والعزة أو عدمهما يعتبر مقياساً دقيقاً، وميزاناً للحكم على مقدار امتثال تلك الأمة _ رعاةً ورعية، حكاماً ومحكومين _ لشريعة الله ظاهراً وباطناً، وإلا فإن اتهام واقع المسلمين أولى من سوء الظن بتحقيق وعد الله الذي لا يخلف الميعاد، هذا الوعد الذي صرح به القرآن تصريحاً بيناً لا يحتمل تأويلاً ولا تحويلاً كما قال تعالى: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) [محمد 7] وقال: ( وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) [الروم 47] أي هو حق جعله الله على نفسه الكريمة تكرماً وتفضلاً كقوله ( كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) [الأنعام 12].

فسنة الله ماضية في نصر من ينصر دينه نصراً أضافه الله تعالى إلى نفسه المقدسة، تنبيهاً إلى أنه قد يكون تأييداً بمعجزات وخوارق فله سبحانه جنود السماوات والأرض، فقد يؤيد بالملائكة، أو بإنزال المطر وتثبيت قلوب المؤمنين، أو بإلقاء الرعب في قلوب الأعداء وإحباط مكرهم، أو بكل ذلك معاً، وهي أمور لا يستطيع الجهد البشري حيالها حيلة من محارِب أو محارَب. إنها سنة ماضية في هذا الأمة كما مضت في الأمم قبلها، فلا على المؤمنين المستمسكين بشريعة الله من تثبيط المثبطين وإرجاف المرجفين، يقول سيد قطب رحمه الله: «وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف، بعد إعدادها لحمل أمانة الخلافة في الأرض وتصريف الحياة… وإن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة الله والسير على هداه، يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم، ويشفقون من تألب الخصوم عليهم، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية، وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ( إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ) [القصص 57] فلما اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان».

وإلى جانب تأييد الله تعالى لمن ينصرونه بالنصر على الأعداء، فإنه يمن عليهم أيضاً بالفتح، فتح الأراضي وإخضاعها لحكم الله، وفتح القلوب وهدايتها لدين الإسلام. وقد اقترن النصر بالفتح في كتاب الله تعالى كثيراً بما يفهم منه أن قهر الأعداء ليس أثراً مراداً في ذاته، اللهم إلا إذا كان هؤلاء الأعداء حجر عثرة في وجه الدعوة، ولكن المراد الأصلي هو كسب ما يمكن كسبه من البشر للدخول في دين الله تعالى، والانتصار ممن يحول دون ذلك، قال تعالى: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ @ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) [النصر] ويقول جل شأنه: ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ) [الفتح 1-3] ويقول سبحانه: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) [الصف 10-13] فبالاستجابة للشريعة يستجلب الفتح، ويستنـزل النصر، وتستفتح الأرض، فأي مسؤولية تلك التي تقع على عاتق الأمة حكاماً ومحكومين في تحكيم شريعة الله؟ إنها مسؤولية عظيمة على العامة تحاكماً وإذعاناً، وعلى ولاة الأمر من الحكام والقضاة والعلماء حكماً وتبياناً. فهؤلاء أخص في المسؤولية بما حُمِّلوا وتحمّلوا من تبعة الولاية والقيادة. فالله سبحانه وتعالى يزع بهم ما لا يزع بغيرهم، ولصلاحهم تصلح الأمة وتنصر، وإذا فسدوا فبفسادهم يظهر الفساد، ويضل العباد، وتضيع البلاد. يقول ابن تيمية، رحمه الله: «إذا حكم ولاة الأمر بغير ما أنزل الله وقع بأسهم بينهم… وهذا أعظم أسباب تغير الدول كما قد جرى هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا. ومن أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره، فيسلك مسلك من أيّده الله ونصره، ويجتنب مسلك من خذله الله وأهانه، فإن الله يقول في كتابه: ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) إلى قوله ( وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ) [الحج 40-41] فقد وعد الله بنصر من ينصره، ونصره هو نصر كتابه ودينه ورسوله، لا نصر من يحكم بغير ما أنزل الله ويتكلم بما لا يعلم».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *