العدد 354-355 -

رجب وشعبان 1437هـ – نيسان / أيار 2016م

دعوة حزب التحرير دعوة صادقة واعية راشدة… فهل ينعم الله عليه بإقامة الخلافة الراشدة؟

بسم الله الرحمن الرحيم

دعوة حزب التحرير دعوة صادقة واعية راشدة…

فهل ينعم الله عليه بإقامة الخلافة الراشدة؟

بقلم  : أبو أحمد العامري – اليمن

تأسس حزب التحرير عام 1953م على يد العالم الرباني الجليل محمد بن تقي الدين النبهاني رحمه الله، وهو قام امتثالًا لقوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وهو قد عاهد الله وأعد نفسه ليكون حارسًا أمينًا للإسلام، قوَّامًا على فكر المجتمع وحسه؛ متخذًا من طريقة الرسول  صلى الله عليه وسلم  طريقة لعمله ملتزمًا بكلياتها وجزئياتها، دون أن يحيد عنها قيد شعرة، وقد سار مقتنعًا بوعد الله في الاستخلاف والتمكين والنصر من قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ). آملًا من الله وحده تحقيق بشرى رسوله  صلى الله عليه وسلم  على يديه: «ثم تكون خلافة على منهاج النبوة». وقد زادته هذه السنون الطويلة إيمانًا وثقةً والتزامًا بهذه الطريقة، وأكسبته مقارعة الظالمين ومتابعته للأحداث السياسية ومجريات السياسة الدولية والإقليمية خبرة جعلت من شبابه، قيادة ومسؤولين، يتأهلون بجدارة لإعادة الأمة إلى سابق خيريتها من قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )، ولإعادة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة؛ وذلك بعون الله وتوفيقه وتثبيته.

على أن أهم ما يمتلكه حزب التحرير ويمتاز به من مواصفات ومؤهلات تجعله يطمع باستحقاق النصر عند الله:

1- العلم الشرعي المنضبط بالطريقة الشرعية في الاجتهاد:

نحن نعلم أن الاجتهاد هو بذل الوسع في استنباط الحكم الشرعي للمسألة الحادثة الجديدة من الأدلة الشرعية، فيدرس المجتهد المشكلة الحالية ويفهمها، ثم يدرس النصوص الشرعية المتعلقة بها، ثم يستنبط الحل لهذه المشكلة من هذه النصوص. هذه هي طريقة الإسلام الوحيدة في الاستنباط، وهي طريقة الحزب ذاتها في الوصول إلى الحكم الشرعي لأي مستجد من مستجدات الحياة، دون أن يكون للظروف أو الزمان أو المكان أو المصلحة أو المفسدة أو العقل أو الضرورة أو لأي فكر آخر غير الإسلام، وخاصة الفكر الغربي، أدنى تأثير عليه في الوصول إلى الحكم الشرعي.

هذا ما رأيناه في جماعات اعتبرت أن دعوتها لتغيير واقع المسلمين تتطلب منها أن تدعو إلى جزء من الإسلام كالدعوة إلى الأخلاق فحسب، أو الدعوة إلى فضائل الأعمال فحسب، أو الدعوة إلى الأعمال الخيرية فحسب… متأثرة بما في الواقع من سوءِ أخلاقٍ أو سوء أعمال أو فقر حال… غافلة عن أن دعوة الإسلام هي دعوة شاملة تقوم عى عقيدة روحية سياسية تنبثق عنها أنظمة تتناول معالجة كل شؤون الحياة.

كذلك وجدنا جماعات تدعو إلى  المشاركة في الحكم مع أنظمة الغرب الكافر، متأثرة بطريقته في التفكير، وترى في أجندتها جواز ترك كثير من الأحكام الشرعية تحت حجة الضرورة، وتغير الزمان والمكان، والمصلحة… وهي لتبرير دعوتها الخاطئة تعتبر أن الشرع سكت عن 90% من الأحكام وتركها لنا لنأخذها من أنفسنا بحسب ما نراه أنه يحقق مصالحنا، وهذا يعارض أساسيات الدين من حيث إن الشرع جاء بأحكام شرعية تتناول كل شؤون الحياة من زاوية العبودية لله وحده في كل شيء. والناظر في حقيقة دعوة هذه الجماعات يرى أنها متأثرة بطريقة الفكر الغربي القائمة على فصل الدين عن الحياة؛ إذ اقتصر شمول الدين عندها على 10% من أعمال الإنسان، وهي بالتدقيق نفس المساحة التي تركها الغرب للأديان، وهي ما تسمى بالأحوال الشخصية.

كذلك وجدنا دعوات تدعو إلى طاعة الحاكم واعتباره ولي أمر المسلمين، دون أدنى نظر إلى أن هذا الحاكم قد جاء إلى الحكم بطريقة غير شرعية، وإلى أنه يحكم بغير الإسلام، وإلى أنه داخل في منظمات الكفر الدولية، وإلى أنه جزء من التحالفات الدولية، وإلى أن نظام الحكم فيه عميل تابع للغرب مثله مثل سائر أنظمة الحكم في بلاد المسلمين، وأنه يسير مع الغرب في حربه على الإسلام تحت قناع الحرب على الإرهاب، وأقرب مثال على ذلك هو سعيه في سوريا إلى فرض حل الدولة المدنية العلمانية، ومحاربة التوجه لدى المسلمين بإقامة الدولة الإسلامية، وأنه يضيِّق على العلماء الذين لا يوافقونه في سياساته. والناظر في حقيقة هذه الدعوة يرى كذلك تأثرها بطريقة الغرب في فصل الدين عن الحياة؛ ذلك أن حكام آل سعود قد توافقوا مع علماء بلاطهم  على أن أمور السياسة يتولاها حكام آل سعود، وأمور الدين يتولاها هؤلاء العلماء، وهذا واضح بيِّن أنه نوع من فصل الدين عن الحياة…

أما حزب التحرير فإنه التزم بالشرع في طريقة فهمه، وأخذ الشرع كاملًا، معتبرًا أن الإسلام مبدأ حياة، وفيه معالجات لكل شؤون الإنسان، وسار في دعوته على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وطرح الإسلام على مستوى العالمية التي تحملها دعوته، والإنسانية التي تحملها أنظمته، وواجه الفكر الغربي مفندًا مقولاته، مبينًا زيف مبدئه، طارحًا الإسلام كبديل نقيض له، وبعبارة أخرى قدم دعوته على أنها امتداد حقيقي لدعوة الرسول  صلى الله عليه وسلم  متوخيًا أن تكون دعوته دعوة راشدة، وتهدف إلى إقامة الخلافة الراشدة التي بشر بها رسولنا الكريم، والتي بدأت بشائرها تلوح في فضاء المسلمين، والتي بدأ الغرب يتوجس منها ويشن حربه العالمية عليها، وهذا بفضل الله وحده، وهو الدليل الساطع على مدى نجاح دعوته وتغلغلها في حياة المسلمين، وهذا من توفيق الله وحده له في دعوته. تلك الدعوة الفريدة في تقيِّدها بطريقة الإسلام في الاجتهاد، الفريدة في تأسيها بطريقة الرسول  صلى الله عليه وسلم ، الفريدة في صبرها على هذه الطريقة وهذا التأسي رغم كل الضغوط عليها، الفريدة في بنائها لشبابها وإعدادهم ليكونوا خير من اتبع المهاجرين والأنصار كما في قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ .

    2- طريقته لإيصال الإسلام للحكم هي طريقة الرسول  صلى الله عليه وسلم :

كان أبرز ما تميز به حزب التحرير هو اتباعه لطريقة الرسول  صلى الله عليه وسلم   في إقامة دولة الإسلام، فهو تأسى بالرسول باتباع نفس خطوات سيره  صلى الله عليه وسلم ، معتبرًا أن الدولة الإسلامية لا يمكن أن تقوم قيامًا صحيحًا إلا بهذه الطريقة التي تقوم على ثلاث مراحل. وهي طريقةٌ تؤدي كل مرحلة فيها إلى تحقيق جانب ضروري من جوانب العمل لإقامة الدولة الإسلامية.

فالمرحلة الأولى هي مرحلة التأسيس والبناء، وتقوم على الدعوة  المركزة للأفراد الذين يؤنس منهم الخير، وتؤدي الاستجابة فيها إلى إيجاد الثلة المؤمنة الواعية التي ستنضج من ناحية شرعية نضوجًا يمكنها من قيادة هذا العمل. وستتحمل أعباء هذه الدعوة قبل إقامة الدولة والتي بالعموم سيقع على عاتقها القيام بمسؤولية الحكم بما أنزل الله فيما بعد، وهي مرحلة تستمر حتى إقامة الدولة ولا تتوقف بانتهاء المرحلة الأولى.

أما المرحلة الثانية، وهي مرحلة التفاعل،  فإنها تقوم على الصدع والجهر بالدعوة، ويكون هدفها جعل المسلمين يتبنون فكرها وهدفها بشكل عام، بحيث تطغى عندهم على ما عداها من دعوات، وتشكل عندهم رأيًا عامًا. وهذه المرحلة ترسخ النضج وتعمقه في الثلة المؤمنة الواعية من ناحية شرعية؛ فتزيد من وعيهم على فهم الإسلام والواقع الذي يراد تغييره، وفي هذه المرحلة يتم تهيئة الدستور الإسلامي الذي يراد تطبيقه في هذه الدولة. أما من ناحية عملية فإنها تزيد من صبر تلك الثلة الواعية المخلصة ونضاليتهم إلى الدرجة التي تخلو فيها نفوسهم من حظ نفوسهم، والدرجة التي تجعلهم لا ينتظرون من هذه الدنيا إلا إظهار هذا الدين وإقامة الخلافة الراشدة التي تعلو فيها كلمة الله على ما عداها، تلك الثلة التي يلاقي أفرادها أشد وأعنف مما لاقاه السابقون، وهذا كله يفعل فعله في إعداد قيادة حزب التحرير إعدادًا لا مثيل له، ويؤهلهم ليكونوا قيادة فذة فريدة، وإعداد شبابه ككل ليكون عندهم الإخلاص الخالص لرب العالمين… ثم إنه بالإضافة إلى كل ذلك، فإن الدعوة في هذه المرحلة تفعل فعلها في الرأي العام، فتغيره لمصلحة أفكارها وأهدافها؛ بحيث تصبح أفكار الحزب وهدفه هي أفكار الأمة وهدفها. وفي هذه المرحلة تتخلى الأمة، بالصراع الفكري الذي يخوضه الحزب مع أفكار الكفر والضلال التي زرعها الغرب الكافر المستعمر، عن كل فكر دخيل من وطنية أو قومية أو علمانية… وتقصر نظرتها على الإسلام كمنقذ وحيد لها، وهذا أمر لا بد من تحقيقه لإقامة دولة الخلافة. وفي هذه المرحلة تنكشف للأمة، بالكفاح السياسي الذي يخوضه الحزب سياسات الغرب الماكرة، ويسقط سحر رجالاتها العملاء من الحكام والأوساط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والعسكرية، وبعبارة أخرى تسقط كل بضاعة الغرب، ويصبح الإسلام هو البديل المرتجى. وهذا ما بدأنا نراه على أرض الواقع، وهذا ما تجلى في ثورات الأمة في هذه الأيام. وفي هذه المرحلة يتم طلب النصرة لهذه الدعوة لإقامة دولة الخلافة من أهل القوة والمنعة،  تمامًا كما فعل رسول الله عندما طلب النصرة من أهل القوة والمنعة في القبائل القوية، وقد سطرت كتب السيرة جميعها هذا الطلب، وأقره القرآن الكريم فذكره مادحًا ما يدل على وجوب طلبه ووجوب تحقيقه، فقال سبحانه وتعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ   ) وقال تبارك اسمه: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ    ) وقال جل جلاله: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ).

أما المرحلة الثالثة؛ فإنها تكون ثمرة جهود المرحلتين الأولى والثانية، وهي مرحلة استلام الحكم، ومن ثم القيام بأعبائه، وهي بيت القصيد، وهي تنجح بمقدار ما يتحقق في المرحلتين السابقتين من إعداد قادة ومن تفاعل أمة، ومن تجاوب أهل القوة. والناظر في هذا الذي يحدث في بلاد المسلمين يرى أن الأمة مع حزب التحرير باتت قريبة وقريبة جدًا من تحقيق موعود الخلافة الراشدة الذي بشر به رسول الله  صلى الله عليه وسلم  أنها ستكون بعد هذا الحكم الجبري مباشرة وذلك لقوله  صلى الله عليه وسلم : «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضّاً فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت».

على أن من دلائل صحة الدعوة في هذه الجماعات هو تمثل سيرة الرسول في كل موقف من مواقفها، مثلًا: هل لو كان الرسول حيًا بين أظهرنا، هل يقبل أن تكون دعوته إلى الأخلاق فقط؟ أو هل كان يقبل أن يشارك الآخرين في حكم الكفر؟! وهل كان يرضى أن يقول إن الديمقراطية هي بضاعتنا التي ردت إلينا؟! أو يقول لسادة قريش أنتم بالسياسة وأنا بالدين؟! وهل كان يقبل بالإسلام الوطني أو القومي أو المصلحي؟!…   واللافت في نجاح دعوة حزب التحرير في هذه المرحلة أن أفكاره وأهدافه قد انتشرت في الأمة انتشارًا واسعًا جعلت الغرب يقلق لذلك أيما قلق. واللافت أيضًا أن هناك كثيرًا من الجماعات، وخاصة العسكرية منها، تأثرت بما عند الحزب من طلب النصرة، ولكنها راحت تعمل على طريقتها، وفاتها أن طريقة الرسول  صلى الله عليه وسلم  لا تؤخذ مجزأة وإنما تؤخذ كاملة، وبالتالي فإن عليهم، إذا أرادوا العمل لإقامة الدين بإقامة الخلافة الإسلامية، أن يكونوا جزءًا من عمل متكامل وليس جزءًا منفردًا…

واللافت أيضًا أن سائر الحركات التي قامت على غير سواء، فإنها بالرغم من الإمكانات الضخمة التي وضعت تحت تصرف بعضها، وبالرغم من تشجيع الأنظمة الحاكمة الظالمة لمسلكها في الدعوة، وبالرغم من تبني بعضها ومدهم بكل أسباب الانتشار من أموال ودعاية… لم تستطع أن تشكل رأيًا عامًا عليها عند الأمة، ولم يرَ فيها مُـخَـلِّصته من حياة الضنك التي يعيشها، بل استطاع ذلك حزب التحرير الذي تعتبر دعوته هي أم الدعوات إلى تغيير الواقع السيئ تغييرًا جذريًا، وتحقيق العبودية لله بإقامة حكم الله في الأرض عن طريق الخلافة الراشدة.

وبناء على كل ذلك، كان حزب التحرير حزبًا إسلاميًا، وليس فيه أي فكر غير إسلامي، ولا هو متأثر بأي فكر غير إسلامي، وكان كل ما تبناه من أحكام متعلقة بطريقة العمل، أو بتبني الأنظمة والدستور هو أحكامًا شرعيةً قائمة على اجتهاد شرعي صحيح.  وكان العمل معه مبرئًا للذمة بما تبناه من أحكام شرعية هي واجبة على الأمة وجوبًا شرعيًا كفائيًا، وإثم القعود عن العمل بها لا يسقط إلا عمَّن تلبَّس بالعمل فيه مع جماعة، كائنًا ما كانت هذه الجماعة المطلوب أن تكون مبرئة للذمة.

ويعد حزب التحرير هو من أحيا فكرة العمل لإقامة الخلافة حتى صار ذكرهما متلازمين، إذا ذكر أحدهما ذكر الآخر، وبالرغم من شدة ملاحقة أتباعه وفكره وتشويه هدفه؛ إلا أنه استطاع أن يصمد واشتد عوده وانتشر شبابه حتى عموا أرجاء المعمورة، وشاع فكره بين الأمة حتى أصبح جامعًا لها، فانتقل إلى أن يكون وجوده عالميًا، ومشروعه مشروع أمة. واستطاع بما تبناه من مصالح الأمة في رعاية شؤونها في مختلف قضاياها، ومن متابعته لما يكيد لها الغرب وعملاؤه وكشفه وربطه بهدفه من إقامة دولة الخلافة أن يكون حزبًا إسلاميًا يطال أثره العالم الإسلامي كله، بل ويتعداه لتشمل دعوته العالم بعد قيام دولة الخلافة. وكذلك استطاع الحزب أن يكون مبدئيًا ويحافظ على مبدئيته بصورة مدهشة، فلم يتأثر بالواقع أبدًا، بل فهم الواقع كما هو وعمل على التقيد بالشرع لتغييره، وثبت على الحق تمامًا كما نزل على الرسول  صلى الله عليه وسلم  متمثلًا قوله حين اشتدت عليه الضغوط : «والله يا عمَّاه، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه».فلم يهادن نظامًا، ولم يتغير الحلال والحرام عنده البتة عن حلال وحرام الله ورسوله، ولم يتنازل عن حكم واحد من أحكام الشرع، بل كان إرضاء الله غايته، وهو غاية الغايات التي يسعى إليها المسلم في الحياة. وكان يعتبر أن اتباع طريقة  رسوله هو رأسماله الذي لن يكون نصر من دونه. هذه المبدئية التي أصر عليها حزب التحرير جعلته غير مرضي عنه لا من الدول ولا من الجماعات، وحورب بقوة حتى أصبح كالغريب، و ينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ». ونقل النووي في شرح صحيح مسلم عن القاضي عياض أنه قال في معنى الحديث: «إِنَّ الإِسْلام بَدَأَ فِي آحَاد مِنْ النَّاس وَقِلَّة ، ثُمَّ اِنْتَشَرَ وَظَهَرَ ، ثُمَّ سَيَلْحَقُهُ النَّقْص وَالإِخْلال ، حَتَّى لا يَبْقَى إِلا فِي آحَاد وَقِلَّة أَيْضًا كَمَا بَدَأَ». وهذا كله كان نتيجة للتمسك بالإسلام، ونتيجة لإصراره على العمل على إزالة هذه الدول والأنظمة الحاكمة التي تحكم بغير ما أنزل الله ومن يساندها من دول الغرب؛ لذلك عظمت الهجمة عليه والحصار له، وفي المقابل عظم صبره وتحمله حتى قوي عوده وصار يعزَّ على من يرومه. وهو الآن ينتظر النصر من الله وحده جزاء وفاقًا؛ وذلك إيمانًا بوعوده التي تأخذ صورة السنن التي لا تتخلف، كقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وقوله سبحانه: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.

3- بناء حزب التحرير:

 لقد بنى حزب التحرير جسمه بناء صحيحًا، وذلك وفق الأسس التي يجب أن يبنى عليها أي حزب مبدئي،

 من وضوح فكرته وهدفه عند شبابه (وهذا تكلمنا به من قبل)، ووضوح طريقته (كذلك تكلمنا عنه)، ومن جعله الرابطة القائمة بين شبابه تقوم على مدى تمثل العقيدة المبدئية فيهم، ومدى نضجهم بالأحكام الشرعية المتعلقة بدعوتهم، ومدى تفاعلهم مع هذه الدعوة، ولم يجعل المسؤولية فيه تقوم على الجاه والمنصب والشهادة والميراث بحيث يأتي ابن المسؤول مسؤولًا. وخلافًا لكل الأحزاب، فإن المسؤولية في حزب التحرير هي مسؤولية ثقيلة التكليف، تحيط بها المخاطر، ومرهقة، وحتى من الناحية المادية يعيش المسؤول بالمعروف كغيره من الناس العاديين، ومن غير امتيازات.

ثم إن حزب التحرير، بمسؤوليه وأعضائه، امتلك الخبرة السياسية الواسعة؛ فقد صار مطلعًا على أحوال الأمة، وكذلك على أحوال العالم، وما يكيد به الغرب من  كيد ومؤامرات على أمتنا الإسلامية، وأصبحت لديه معرفة بواقع الأنظمة العربية التي جاءت بعد هدم الخلافة ومدى تبعيتها للغرب وتصنيفها حسب عمالتها، كما صار عنده اطلاع بشؤون الغرب والعلاقات الدولية. وهذا ما مكنَّه مثلًا من الكشف المبكر لمؤامرة أميركا على الثورة السورية وما تصبو إليه من قيام دولة الخلافة فيها، كما كشف عمالة النظام السوري والائتلاف الوطني السوري لأميركا، ووقوف كل من إيران وحزب إيران والنظام اللبناني والنظام العراقي… مع النظام السوري التابع لأميركا. ومن قبل كان هو أول من تجرأ وكشف عمالة عبد الناصر لأميركا. كما كشف وحذر بشكل مبكر من اتفاقية مشاكوس ونيفاشا التي نصت على تقسيم السودان إلى دولتين شمال وجنوب قبل ستّ سنوات من التقسيم حتى كتبت الصحف السودانية تعليقًا على هذا تقول فيه «صدقت نبوءة حزب التحرير».

كذلك يعتبر ما يصدره حزب التحرير من النشرات السياسية التي يصدرها في كل ولاية من ولاياته تكشف واقع الواقع السياسي في بلاد المسلمين بشكل واضح. وتكشف عمالة الحكام فيها للغرب ومدى تبعيتهم. ومن الأمثلة على هذه الخبرة كشفه لحرب 67م قبل حدوثها، وما وراءها، ومن يقف وراءها. وكشف معاهدة السلام في اتفاقية كمب ديفيد عام 73م. ولقد وصل الحال أن راح الناس يسألون الحزب، بواقع خبرته الاقتصادية، عن سعر الدولار أو الذهب: هل سينزل أو سيرتفع  حتى يباشر الناس بالشراء أو البيع كما حدث هذا في الأردن في الثمانينات. وهذا غيض من فيض… حتى إنه أول من تناول وجود الوفاق الدولي بين أميركا والاتحاد السوفياتي سابقًا والذي تم بين كندي وخروتشوف سنة 1961م، كذلك كان محيطًا بواقع الثورات في بلاد المسلمين أولًا بأول.

كذلك امتلك حزب التحرير حملة دعوة ورجال دولة صادقين، يخشون الله ولا يخافون في الله لومة لائم، ثابتين على الحق، ويُذكِّر العذاب الذي يصيب شبابه وصبرهم بعذاب الصحابة وصبرهم، وما أصاب ويصيب شبابه في أوزبكستان ودول آسيا الوسطى، وما سوريا عنا ببعيد.

وإن جدية مشروع الخلافة لدى حزب التحرير، جعلته بتوفيق الله أملًا حقيقيًا وهدفًا حيًا، جعلت المسلمين يتوقون للعيش في رحابها، وجعلت زعماء الغرب يصرحون متخوفين من إقامتها ومحذرين منها ومتهمين، فيقولون إن هناك جماعات متطرفة تنوي الوصول إلى الحكم في أي بلد إسلامي لتقيم إمبراطورية من إندونيسيا إلى المغرب، وتعمل على توحيد العالم الإسلامي، ويعلنون معاداتهم لها، وأنهم لذلك هم موجودون في العراق. وهم يقصدون بلا شك حزب التحرير لذلك ويعمدون إلى تشويه الخلافة وتصويرها بأنها وحشية.

لماذا أضحى مشروع الخلافة هاجسًا يرعب الغرب:

لقد نجح حزب التحرير أن يكشف حقيقة الصراع بين المسلمين والغرب أنه صراع حضاري بين الإسلام القائم على العبودية لله وحده، وبين الديمقراطية القائمة على عقيدة فصل الدين عن الحياة، والذي مؤداه أن الحكم ليس لله بل للبشر. هذا هو الوجه الأبرز للصراع، والغرب يقوم بإخفاء حقيقة هذا الصراع؛ ليتسنى له عدم كشف إجرامه بحق دين المسلمين.

هذا وقد كشف الحزب كيفية انبثاق أنظمة الغرب عن عقيدتها ليتبين المسلمون أن عقيدة الغرب وأنظمته هي على النقيض من عقيدة الإسلام وأنظمته، وهذه المفاصلة هي من الأهمية بمكان، لأن عدم وضوحها يضيع الدعوة كليًا. وهذا ما تقع به معظم الجماعات، أو لا تنتبه لأهميته.

بعد هذا كله يأتي حزب كحزب التحرير وينادي بفكرة وحدة الأمة وإقامة الخلافة وإزالة نفوذ الغرب وحكام المسلمين العملاء له ولأتباعه من السياسيين والمفكرين وأذنابه ومؤسساته ومنظماته فيكشف واقعها ويفضحها ويفضح أعماله في بلاد المسلمين ويكشف واقع الصراع بين دول الغرب في بلاد المسلمين. كما يعمل الحزب على ضرب هذه الأفكار المسمومة التي جاء بها الغرب ومنظماته وبيان فسادها واستبدالها بما هو خير منها: الإسلام وأفكاره ومفاهيمه الحق ودستوره العظيم ونظامه الاقتصادي والحكم  بل ونشر أفكار حزب التحرير حتى في بلاد الغرب في أميركا نفسه وبريطانيا واستراليا وفرنسا وروسيا وألمانيا وكندا لدرجة أن الغرب عجز عن مواجهة الحزب، ولكم حاول الغرب اتهامه بالإرهاب، ولكنه كان في كل مرة يخسأ بمكره.

ثم إنه كان للخلافة تاريخ عالمي ناصع، وصراع حضاري دامٍ، ولما كان زعماء الغرب يعون هذا التاريخ؛ لذلك بدؤوا يقلقون، وترتعد فرائصهم ويجن جنونهم من مارد الخلافة الراشدة الثانية التي نحن على أبوابها،خاصة وأن مبدأهم يشهد إفلاسًا وهو آيل إلى الانهيار، ولم يعد ما يواجه به المسلمون إلا المؤامرات واستعمال القوة العسكرية، واستخدام عملائه من الحكام. وبالرغم من كل هذا يحقق مشروع الخلافة تقدمًا، بينما يشهد مشروع الغرب انكفاء وضمورًا؛ وهذا ما يجعله يشن حربه المسعورة على مشروعهم تحت شعاره الكاذب وهو حربه على الإرهاب.

فهنيئًا لحزب التحرير دعوته، فهل يكون هو من وعد الله أن تقوم الخلافة عن طريقه؟ نسأل الله ذلك. وهل بشرى رسول الله تتحقق على يديه، نجأر إلى الله بذلك. ونختم هذا المقال بآيات منزلة من تحت عرش الرحمن، قال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ    ﴾.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *