العدد الثامن -

السنة الأولى، العدد الثامن، جمادى الأولى 1408هـ، الموافق كانون الثاني 1988م

في مواجهة الغزو الفكري: أساس الفتوى بدخول القوانين الغربية إلى الدولة العثمانية

الدولة العثمانية كانت هي دولة المسلمين، وكان فيها خليفة المسلمين. وفي أيامها الأخيرة دبّ فيها الانحطاط الفكري، وتبعه الضعف العسكري حتى سُميّت بالرجل المريض. وفي هذه الأثناء كانت في الغرب نهضة علمية وصناعية، فانبهر المسلمون بما عند الغرب، وفتحوا أبوابهم لحضارة الغرب دون أن يميزوا بين ما يجوز أخذه من علوم وصناعات، وما لا يجوز أخذه من قوانين وأخلاق وأفكار متعلقة بوجهة النظر الغربية، أي لم يميزوا بين ما اصطلحنا على تسميته بالعلم والمدنية من جهة، والثقافة والحضارة من جهة أخرى.

وحين صار المبهورون بالغرب يحاولون إدخال القوانين الغربية إلى الدولة العثمانية كان لا بد من فتوى يصدرها شيخ الإسلام بشرعية هذه القوانين، لأن الدولة العثمانية كانت دولة إسلامية، ولا تَسُنُّ أيَّ قانون إلا بعد أخذ الفتوى بأنه قانون يقرّه الشرع الإسلامي.

وقد أصدر شيخ الإسلام وبعض العلماء الفتاوى بأخذ الأحكام الديمقراطية والقوانين الغربية مستندين إلى أمور أهمها ثلاثة:

أحدها: ما تركز في الأذهان حينئذ وحتى اليوم من أن ما لا يخالف الإسلام، وما لم يرد نصّ في النهي عنه يجوز أخذه. ويستدلون على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم وجد عقود الجاهلية جارية بين الناس فأقرّها، وما لم يقره نهى عنه فصح ما أقره وحرم ما جاء النهي عنه. وكذلك كل فكر أو حكم أو قانون لا يخالف الإسلام ولم يرد نهي عنه يجوز أخذه.

ثانياً: أن المباح هو ما لا حرج فيه، فانتفاء الحرج عن الشيء هو إباحة له، فيكون أخذ ما لم يرد نهي عنه مباحاً. وأيضاً إن الشرع سكت عنه ولم يبين حكمه وما سكت عنه الشرع فهو مباح. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تَنْتَهكوها، وحَدَّ حُدوداً فلا تَعْتَدوها، وعفا عن أشياء رحمةً بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها» وفي رواية «وما سكت عنه فهو عفو». وعلى هذا فكل شيء لم ينه عنه الشرع فهو مباح، وكل ما لم يرد نص فيه فقد سكت عنه الشرع فهو مباح. وأخذ الأحكام والقوانين التي لم ترد في الشرع، ولم يرد في الشرع نهيٌ عنها داخل في المباح لأنه ليس فيه حرج؛ إذ لم يرد نهي عنه ولأنه لم يرد في الشرع وسكت عنه الشرع.

ثالثها: ما شاع في تلك الأوقات ولا يزال شائعاً حتى اليوم من أن الديمقراطية من الإسلام لأنها قائمة على الشورى والعدل والمساواة، وجعل السلطان للأمة وهذا ما جاء به الإسلام. فالإسلام يسوّي بين الغني والفقير في الحقوق والواجبات، وبين الوزير وراعي الغنم، ويجعل أمرهم بينهم شورى، وجعل من أهم قواعده الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والشورى في الإسلام نُظِّمت في العصر الحديث بما يسميه الأوروبيون البرلمان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تُشَكَّل في المدنية الحديثة بحرية الصحف في النقد، وحرية الأفراد والجماعات في التأليف وإبداء الرأي صراحة يَسْتَحسنون ما يَروْن ويستنكرون ما يرون، ويخطبون كما يشاؤون. فلا أحد معصوم، ولا الحكومة معصومة ولا الوالي معصوم، وإنما يُقوّمهم ويخيفهم ويُلزمهم الجادّة يَقْظَة الرأي العام وحريته في النقد، وهذا هو ما سمي في القرآن بالتواصي بالحق. وعليه فالديمقراطية هي من الإسلام وقد جاء بها القرآن وأمر بها النبي عليه السلام.

وبناء على هذا كله أُعطيت الفتاوى بأخذ الدستور الديمقراطي والقوانين الغربية، وظلت الدولة تعتبر دولة إسلامية سائرة على نظام الخلافة وظل التشريع مُعتبراً تشريعاً إسلامياً وصارت القوانين التي أخذت قوانين إسلامية. ومن هنا جاء الخلل والانحراف لأن هذه الأفكار في الأمور الثلاثة خطأ أساسي في فهم الإسلام وذلك لعدة وجوه:

l ما لم يؤخذ على أساس أنه وحي لا يكون حكماً شرعياً سواء وافق الحكم أو خالفه.

l إقرار الرسول تشريع مثل قوله وفعله ولا يكون لغيره.

فرق شاسع

أولاً: أن هنالك فرقاً بين الأفكار المتعلقة بالعقائد والأحكام الشرعية وبين الأفكار المتعلقة بالعلوم والفنون والصناعات والاختراعات وما شابههم فالأفكار المتعلقة بالعلوم والفنون وما شاكل ذلك يجوز أخذها إذا لم تخالف الإسلام. وأمَّا الأفكار المتعلقة بالعقائد والأحكام الشرعية فلا يجوز أن تؤخذ إلا مما جاء به السرو صلى الله عليه وسلم من كتاب أو سنّة، أو مما أرشد إليه الكتاب والسنة. والدليل على ذلك ما رواه مسلم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر مثلكم، إذا أمرتُكم بشيءٍ من أمر دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من أمور دنياكم فإنما أنا بشر» وما ورد في حديث تأبير النخل، من قوله عليه السلام: «أنتم أدرى بأمور دنياكم» فما لم يكن من الشريعة أي ليس من العقائد والأحكام جاز أخذه ما دام لا يخالف الإسلام، أمَّا ما كان من الشريعة أي العقائد والأحكام، فإنما تؤخذ مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليس غير. والأحكام الديمقراطية والقوانين هي أحكام تؤخذ لمعالجة مشاكل الإنسان فهي من التشريع، فلا يصح أن تؤخذ إلا مما جاء به الرسول عليه السلام، أي إلا أحكاماً شرعية ليس غير.

نهي صريح

ثانياً: إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن أن نأخذ من غير ما جاء به نهياً صريحاً، فقد روى مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه الصلاة والسلام: «ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهوُ رَدّ»، وفي رواية أخرى عنها: «من عمل ليس عليه أمرنا فهو رَدّ». وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمّتي بأَخْذِ القرون قبلها شِبْراً بِشبر وذراعاً بذراع، فقيل يا رسول الله كفارس والروم، فقال ومن من الناس إلا أولئك». وروى البخاري أيضاً عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتتَّبعُنّ سَنَن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جُحر ضَبِّ تَبعْتُموهم، قلت يا رسول الله اليهود والنصارى، قال فمن».. فهذه النصوص صريحة في النهي عن الأخذ من غيرنا. فالحديث الأول بروايتيه صريح في النهي وفي ذم الأخذ بقوله: «فهو ردّ»، والحديثان الآخران يتضمنان معنى النهي. وأخذ أحكام الدستور والقوانين من غير الإسلام يصدق عليه هذا النهي لأنه إحداث في أمرنا ما ليس منه، بل أَخذٌ من غيره. ولأنه اتباع لمن هم مثل الفرس والروم، وهم الإنجليز والفرنسيون بل هم من الروم ولذلك يحرُم أخذها.

حتى يأتي الوحي

ثالثاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو رسول كان إذا سئل عن حكم لم ينزل فيه الوحي لم يُجب وينتظر حتى يُنزل الله هذا الحكم. فقد روى البخاري عن ابن مسعود: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح فسكت حتى نزلت الآية. روى البخاري أيضاً عن جابر بن عبد الله قال: مرضت فجاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر وهما ماشيان، فأتاني وقد أُعمي عليّ، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صَبّ وَضوءَه عليّ فأفَقت، فقلت يا رسول الله وربما قال سفيان فقلت أي رسول الله، كيف أقضي في مالي كيف أصنع في مالي فما أجابني بشيء حتى نزلت آية الميراث، مما يدل على أنه لا يجوز أن يؤخذ من غير ما جاء به الوحي. فإذا كان الرسول لا يبين رأياً حتى يأتيه الوحي فهو دليل على أنه لا يجوز أن يؤخذ شيء إلا مما جاء به الوحي.

l لا يجوز القول إن الشرع أهمل أشياء إهمالاً مطلقاً، لأنه في ذلك يطعن في الشريعة بأنها قاصة!

(حتى يحكّموك)

رابعاً: إن الله تعالى أمرنا أن نأخذ ما يأمر به الرسول وأن ننتهي عما نهانا عنه، وأمرنا أن نحتكم إلى رسول الله أي إلى ما جاء به رسول الله قال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، ومفهومه أن ما لم يأتنا به الرسول لا نأخذه. وأمَّا مفهوم المخالفة (ما نهاكم عنه) فإنه غير معمول به ومعطل بعموم النصوص التي لا تجيز أخذ شيء من غير الشريعة الإسلامية، من مثل قوله تعالى: (فلا وربِّك لا يؤمنون حتى يحكِّموك)، وقوله تعالى: (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به)، ومن مثل قوله عليه السلام: «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد». وكل مفهوم مخالفة إذا ورد نص شرعي من كتاب أو سنة ضدّه يعطل ولا يعمل به، مثل قوله تعالى: (ولا تُكرهوا فَتَياتكم على البِغَاء إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) فإن مفهومه أنَّهن إن لم يردن تحصناً يجوز إكراههن، ولكن هذا المفهوم معطل بعموم النص في تحريم الزنا وهو قوله تعالى: (ولا تقربوا الزنا) وعلى ذلك يكون معنى الآية الائتمار بما أمر به الرسول والانتهاء عما نهى عنه والتقيد بهذه الأوامر والنواهي وحدها، فلا نُحلّ إلا ما أحل الله ولا نحرّم إلا ما حرم الله، وما لم يأتنا به الرسول لا نأخذه وما لم يحرِّمه علينا لا نحرّمه. ولكن لا يعني عدم النهي عنه جواز أخذه، فلا يجوز الأخذ إلا من الشريعة وإنما يعني عدم تحريم ما لم يحرِّمه الله. وهذا هو معنى الآية. وإذا قرنت هذه الآية بقوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) وعرف أنَّ (ما) في قوله (ما آتاكم) وقوله (وما نهاكم) للعموم، ظهر جلياً وجوب حصر الأخذ بما جاء به، وأن الأخذ من غيره، إثم يُعذَّب من يفعله. وقال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحَكّموك فيما شجر بينهم) “فنفى الإيمان عمّن يُحَكِّم غير الرسول في أفعاله مما يدل على الجزم في حصر التحكيم فيما جاء به الرسول. وفوق ذلك فإن القرآن قد نعى على الذين يريدون أن يتحاكموا لغير ما جاء به الرسول، قال تعالى: (ألم ترَ إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل إليكَ وما أُنزل من قبلَك يُريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به ويُريد الشيطانُ أن يُضلهم ضلالاً بعيداً) ممّا يدل على أن التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول ضلال إذ هو تحاكم إلى الطاغوت.

l الأفكار المتعلقة بالعلوم والفنون يجوز أخذها إذا لم تخالف الإسلام، أما الأفكار المتعلقة بالعقائد والأحكام الشرعية فلا يجوز أن تؤخذ إلا من الإسلام.

تحكيم الحكم الشرعي

خامساً: إن الحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلِّق بأفعال العباد، والمسلمون مأمورون أن يُحكَموا في أفعالهم خطاب الشارع، وأن يُسَيِّروا تصرفاتهم بحسبه. فإذا أخذوا ما لا يخالفه في فعل من أفعالهم أو في تصرف من تصرفاتهم فإنهم يكونون قد أخذوا غير الحكم الشرعي، لأنهم لم يأخذوه بعينه، بل أخذوا ما لا يخالفه، فلا يكون أخذهم له أخذاً للحكم الشرعي. حتى أنه لو أخذ ما يوافق الحكم الشرعي ولكنه أخذ من غير الكتاب والسنة، فإن هذا الأخذ حرام، لأنه ليس أخذاً للحكم الشرعي بل أخذ لحكم غير الحكم الشرعي يوافق الحكم الشرعي، فلا يكون تحكيماً لما جاء به الرسول، بل تحكيماً لغيره ولو وافقه. إذ المأمور به المسلم هو أخذ الحكم الشرعي ليس غير. فمثلاً الزواج شرعاً إيجاب وقبول شرعيان بلفظي الانكاح والتزويج بحضور شاهدين مسلمين وإذن الولي. فلو ذهب رجلٌ وامرأة مسلمان إلى الكنيسة وأجرى لهما الخوري عقد الزواج على نظام النصرانية بلفظي الانكاح والتزويج بحضور شاهدين مسلمين وبإذن وليها، فهل يكونان قد حَ:َّما ما جاء به الرسول أو حسب غيره؟ أي هل يكونان قد حَكَّما ما جاء به الرسول أو جاءت به النصرانية المحرَّفة المنسوخة. ومثلاً لو أن نصرانياً توفي وجاء أهله يقسمون الميراث بينهم حسب أحكام الإسلام لأنه عادل أو مفيد، وأخذوا وثيقة حصر إرث من المحكمة الشرعية هل يكونون قد حكّموا الحكم الشرعي أم يكونون أخذوا نظاماً عادلاً أو مفيداً. لا شك أنهم لا يكونون قد اخذوا الحكم الشرعي، لأن أخذ الحكم الشرعي يكون حين يؤخذ لأن الرسول جاء به، أي لأنه من أوامر الله ونواهيه، فحينئذ يكون أخذه أخذاً للحكم الشرعي، أما أخذ الحكم لأنه عادل أو مفيد فواقعه لا يكون أخذاً للحكم الشرعي. ولآية تقول (حتى يُحكَّموك)، (وما آتاكم الرسول فخذوه)، أي باعتباره جاء به الرسول، وما لم يؤخذ على هذا الأساس، لا يكون حكماً شرعياً سواء وافق الحكم الشرعي أم خالفه. حتى لو كان هو عينه وأُخذ لا لأنه جاء به الرسول بل لأنه مفيد وعادل.

إقرار الرسول

سادساً: إن إقرار لعقود الكفر إنما هو للرسول بوصفه رسولاً، لأن إقراره تشريع مثل قوله ومثل فعله، وهو لا يكون لغيره. فما فعله الرسول أو قاله أو أقَرَّه تشريع، وهو عن وحي، وليس لغير الرسول أن يُشرِّع. فالعقود التي أقرَّها الرسول صلى الله عليه وسلم صارت أحكاماً شرعية ولو كانت عقوداً جاهلية، لأن إقرار الرسول لها دليل على أنها أحكام شرعية ولو كانت عبادات، فتكون استنبطت من إقرار الرسول وأخذت على هذا الأساس، ولم تؤخذ باعتبارها عقوداً جاهلية لا تخالف الإسلام. والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يستدلون بسكوت الرسول على الحكم بأنه حكم شرعي. فقد رُوي أنه أُكل الضّبُّ على مائدة النبي ولم يأكل منه، فاستدل ابن عباس بسكوت الرسول على إباحة أكل الضب مع أن الرسول لم يأكل منه، وهناك حوادث كثيرة كان سكوت الرسول دليلاً على أنها من أحكام الشرع.

lإذا كان الرسول لا يبيّن رأياً حتى يأتيه الوحي، فهو دليل على أنه لا يجوز أن يؤخذ شيء إلا مما جاء به الوحي.

l لا يعني عدم النهي عن شيء جواز أخذه، وإنما يعني عدم تحريم ما لم يحرّمه الله.

لا بد من دليل شرعي

سابعاً: ليس المباح هو ما لا حرج فيه، فإن انتفاء الحرج عن الفعل والترك ليس بإباحة شرعية، ولا يلزم من رفع الحرج التخيير، فإن النهي عن الشيء، ليس أمراً بضده، كما أن الأمر بالشيء ليس نهياً عن ضده. ورفع الحرج قد يكون مع الواجب كقوله تعالى: (فمن حجَّ البيتَ أو اعتمرَ فلا جُناحَ عليه أن يَطَّوفَ بهما)، فإن الطواف في الحج والعمر واجب وليس مباحاً. ورفع الحرج قد يكون رخصة كقوله تعالى: (فليسَ عليكُم جُنَاحٌ أن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاة) فليس معنى رفع الحرج هو الإباحة. وعلى ذلك ليس المباح هو ما لا حرج فيه، وإنما المباح هو ما دل الدليل السمعيّ على خطاب الشارع بالتخيير بين الفعل والترك من غير بدل. فالإباحة هي ما جاء الشرع بالتخيير بين فعلها وتركها: بأن كان التخيير مصرحاً به في نفس النص كقوله تعال: (نساؤكم حَرْثٌ لكم فأْتُوا حَرْثَكم أَنى شئْتُم) وكقوله تعالى: (وكلوا منها رَغَداً حيثُ شِئْتما)، أو كان يفهم من مدلول النص كقوله تعالى: (وإذا حَلَتْم فاصطادوا) وقوله: (فإذا قُضِيَتْ الصلاة فانتشروا) وقوله: (كُلُوا من طَيِّبات ما رزقناكم).

ثم إن الإباحة من الأحكام الشرعية، والحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد. فلا بد من دليل شرعي من الأدلة السمعية يدل على الشيء بأنه مباح حتى يكون مباحاً. وعليه فإن عدم ورود دليل شرعي على الشيء بأنه واجب أو مندوب أو حرام أو مكروه ليس دليلاً على أنه مباح، بل لا بد من دليل شرعي يدل على إباحته. وأما ما كان قبل ورود الشرع من أفعال وأشياء، من عقود ومعاملات مباحة واستمرت إباحتها بعد ورود الشرع، كالبيع والإجارة وغيرهما، فإن إباحتها بعد ورود الشرع، كالبيع والإجارة وغيرهما، فإن إباحتها ليست استمراراً لما كانت عليه قبل ورود الشرع وإنما هي من نصّ شرعي جاء بها. فالبيع جاء به نص شرعي وهو قول الله تعالى: (وأحل الله البيع وحرّم الربا) والإجارة فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد رُوي عنه أنه استأجر رجلاً من بني الديل هادياً خرّيتاً يدله على الطريق. فإباحة البيع والإجارة إنما جاءت من نص شرعي لا من استمرارها من أيَّام الجاهلية. والنص الشرعي كما يكون قولاً من القرآن وقول الرسول يكون كذلك فعلاً وهو فعل الرسول، ويكون أيضاً سكوتاً وهو سكوت الرسول. فما استمر من أفعال وأشياء وعقود ومعاملات من أيام الجاهلية إلى أيام الإسلام وسار عليه المسلمون إنما يكونون قد ساروا عليه لورود دليل شرعي دلَّ على إباحته، إما قولاً من القرآن أو الرسول، وإمَّا فعلاً من الرسول، وإما سكوتاً منه صلى الله عليه وسلم. وليس استمراراً لما كان من أيام الجاهلية. وما لم يثبت دليل شرعي من قول أو فعل أو سكوت على أي شيء كان في الجاهلية لا يُستَمَرُّ عليه، ولا يُؤخَذُ، ولو لم يرد نهي عنه، بل لا بدَّ أن يُبحث له عن دليل شرعي. وعليه تكون إباحة ما كان قبل ورود الشرع واستمر بعد وروده إنما جاءت من دليل شرعي متعلق بها.

شريعة كاملة

ولا يقال أن الشرع سكت عنها فاستمرت إباحتها، وكل ما سكت عنه الشرع ولم يبيِّن حكمه فهو مباح، لأن الشرع لم يسكت عنها بيّن حكمها بدليل متعلق بها، وسكوت الرسول ليس سكوتاً للشرع، بل هو بيان من قبل الشرع. إذ سكوت الرسول كقوله وكفعله، وكالقرآن الكريم بيان لحكم شرعي. ولا يحق لمسلم أن يقول أن الشارع سكت عن شيء ولم يبين حكمه بعد أن يقرأ قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) وقوله تعالى: (وأنزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)، فلا يحق لأحد من المسلمين أن يذهب إلى أن يكون بعض الوقائع خالياً من الحكم الشرعي، على معنى أن الشريعة أهملته إهمالاً مطلقاً، لم تنصب دليلاً من نص في الكتاب والسنة، أو تضع أمارة من علة شرعية جاء بها النص صراحة أو دلالة أو استنباطاً أو قياساً، تنبِّه الشريعة بهذا الدليل أو تلك الإمارة إلى حكم هذا البعض من الوقائع، هل هو الإيجاب، أو الندب، أو الحرمة، أو الكراهة، أو الإباحة. لا يحق لأحد من المسلمين أن يذهب إلى ذلك، لأنه بهذا يطعن في الشريعة بأنها ناقصة، ويبيح تحكيم غير الشرع، مخالفاً بذلك قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك). وإذا كان الشرع لم يأت بالحكم وأخذ المسلم حُكماً لم يأت به الشرع فقد حَكَّم غير الشرع هو لا يجوز. فالادعاء بأن الشرع لم يأت بأحكام جميع الحوادث إباحةً لتحكيم غير الشرع، لأن الشرع لم يأت بها، وهو إدعاء باطل. وعليه لا يَرِدُ القول بأن ما سكت عنه الشرع فهو مباح، لأنه إباحةٌ لتحكيم غير الشرع، فوق كونه طعناً بالشرع بأنه سكت عن أحكام ولم يأت بها. علاوة على أنه خلاف الواقع، لأن الشرع لم يسكت عن شيء مطلقاً.

البحث عن التحريم

وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أن الله فرض فرائض فلا تضيعوها» الحديث، فإن المراد به النهي عن السؤال فيما لم يرد به الشرع. فهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم عليهم فحرم عليهم من أجل مسألته». وقد وردت عدة أحاديث في ذلك. فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ذورني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة السؤال واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتكم عنه فانتهوا، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم». وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت) والآية، فقال رجل يا رسول الله أَكُلَّ عام فأعرض، ثم قال يا رسول الله أكلَ عام فأعرض، ثم قال يا رسول الله أكلّ عام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو قلتها لوجبت، ولو وجبت لما قمتم بها، ولو لم تقوموا بها لكفرتم، فذروني ما تركتكم». فالمراد من قوله: «وعفا عن أشياء» وفي رواية «وما سكت عنه فهو عفو» هو أنه خفف عنكم فلا تسألوا حتى لا تثقلوا على أنفسكم ، مثل مسألة الحج جاءت عامة فسأل سائل هل كل عام. فالله خفّفها فجعلها مرّة في العمر تخفيفاً عنكم ورحمة بكم فعفا عن أن تكون كل عام وسكت عن أن تكون كل عام فلا تبحثوا عنها، ولا تسألوا عنها. والدليل على أن هذا هو المراد قوله عليه السلام: «فلا تبحثوا عنها» بعد قوله: «وعفا عن أشياء»، فالموضوع نهيهم عن البحث عن تحريم ما لم ينزل تحريمه، وليس الموضوع أنه لم يبيّن أشياء من الأحكام الشرعية، إذ سياق الكلام بيان لرحمة الله بهم، وعفوه عنهم. وأما ما جاء في الرواية الأخرى «وما سكت عنه فهو عفو» فإنه كذلك يدل على أن الموضوع موضوع النهي عن البحث والسؤال فيما خففه عنكم ولم يحرمه عليكم، فإن عدم تحريمه عفو من الله؛ أي أن ما سكت عن تحريمه فإن عدم تحريمه عفو من الله فلا تسألوا عنه. ومن هذا القبيل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء أن تُبْدَ لكم تسؤكم) ثم قال: (عفا الله عنها) أي عن تلك الأشياء.

ثامناً: أن الديمقراطية تتناقض مع الإسلام مناقضة تامة في الأسس والتفاصيل، وذلك من عدة وجوه:

يتبع

من كتاب “كيف هدمت الخلافة”، لعبد القديم زلّوم

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *