مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته
2016/01/01م
المقالات
2,102 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته
( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ).
جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه
عطاء بن خليل أبو الرشته
أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:
بعد أن ذكر الله سبحانه في الآية السابقة اختلاف أهل الكتاب من حيث إيمانهم ببعض الكتاب والكفر ببعضه، والإيمان ببعض كتب الله المنزلة والكفر ببعضها، كلٌّ يقرر ما يريد تبعاً لهواه، ذكر الله سبحانه اختلافاً آخر من اختلافاتهم، وهو تنازعهم في أفضلية القبلة التي يتوجهون إليها، فالنصارى تقول قبلتهم واليهود تقول قبلتهم، فبيَّن الله في هذه الآية الكريمة أن البر – وهو اسم جامع لأنواع الخير والطاعات – ليس في الجهة – القبلة – التي تولون إليها وجوهكم، بل البر هو في الإيمان والعمل الصالح والطاعة الخالصة لله.
فالبر أن تؤمنوا بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين إيماناً ثابتاً راسخاً دون شكّ أو ريب، والبر أن تَتَصَدَّق على ذوي الحاجة وتصل الرحم، والبر أن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتفي بما عاهدت الله عليه في كلّ أنواع الخير، والبر أن تكون من الصابرين الصادقين في كلّ الظروف والأحوال: في الفقر والشدة (البأساء) والمرض والآلام (الضراء) وفي الجهاد وملاقاة الأعداء (وحين البأس).
هذا هو البر الذي وصف أهله بالصدق والتقوى ( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ )، ومما سبق يتبين ما يلي:
-
الإسلام أمران:
أ. الإيمان: وهو كلّ ما طلب التصديق الجازم به، أي بالعقيدة الإسلامية – الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، كما جاء في حديث عمر عن سؤال جبريل لرسول الله e – كما بينا في أوائل آيات سورة البقرة.
ب. الأحكام الشرعية: وهي المتعلقة بأداء الأعمال والتصرفات الفعلية والقولية طبقاً لأحكام الشرع.
ولا يستقيم أمر المسلم إلا بالاثنين معاً – بالإيمان والعمل الصالح – كما ورد في آيات كثيرة ( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) أي الإيمان بالعقيدة الإسلامية والالتزام بالأحكام الشرعية.
-
ذكر الله سبحانه ( وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ) أي يخرج المال ويتصدق به وهو محبّ له راغب فيه، وهو القمة في الصدقة، كما جاء في حديث “أفضل الصدقة أن تَصَدَّق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر“[1].
وقدّم الله سبحانه ( ذَوِي الْقُرْبَى ) لما في الصدقة عليهم من فضل “الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذوي الرحم اثنتان“[2] كما جاء في الحديث الشريف.
ثم ذكر الله سبحانه صنوفاً من ذوي الحاجة:
-
( وَالْيَتَامَى ) واليتيم هو من توفي أبوه في صغره أي قبل بلوغه.
-
( وَالْمَسَاكِينَ ) الذين لا مال لهم أو لا مال عندهم يكفي حاجتهم الأساسية – المطعم والملبس والمسكن -.
-
( وَابْنَ السَّبِيلِ ) أي المسافر المنقطع الذي لا مال لديه يكفي حاجاته الأساسية في سفره، وسمي ( وَابْنَ السَّبِيلِ ) مجازاً، فكأنه ابن للطريق لملازمته لها في حله وترحاله بسبب سفره.
-
( وَالسَّائِلِينَ ) الذين يسألون الناس لحاجتهم.
-
( وَفِي الرِّقَابِ ) أي في تحريرهم من الرق، واستعملتْ ( فِي ) المفيدة للظرفية للدلالة على استغراق ما يُعطى لهم في رقابهم أي لتحرير رقابهم، فلا يُنفق هنا وهناك، بل هو لتحريرهم كأنه (داخل) في رقابهم، وليس كالأصناف السابقة فما يعطى لهم يمكنهم إنفاقه لحاجاتهم المتعددة.
-
ذكر الله سبحانه الصدقة قبل أن يذكر الزكاة في حين أن الفرض – الزكاة – يأتي في المرتبة الأولى من حيث الأداء، إلا أن هذا التقديم للصدقة هو لإبراز فضلها فلا ينساها المسلمون ويكتفون بالفرض (الزكاة)، فبعض المسلمين يكون همه أن لا يترك ما يجب عليه خشية العقوبة، ولا يهتم بما فيه قربى إلى الله سبحانه غير واجبة عليه، فكان هذا التقديم هو للفت نظر المؤمنين إلى عدم الاكتفاء بالمفروض، بل يضيفون له ما شاء الله لهم من النوافل، فيضيف المسلم للزكاة صدقةً، وفي هذا أجر كبير، وبخاصة للمسلم الذي يؤدي الصدقة من ماله وهو يحبه ويخشى الفقر في الإنفاق، أي أنه يتصدق بالنافلة وهو بحاجة إليها حيث إنه بإنفاقها يكون على حدود الفقر، فليس لديه الكثير بحيث لو أنفق منه يبقى بعده في حدود الغنى، ومع ذلك يتصدق وهو غير واجب عليه، فإن مثل هذا يكون على درجة عظيمة من البر والتقوى.
ولا يُفـهم من هذا التقديم في الآية أن الصدقة خير من الزكاة، بل إن الآية هي نص في أداء الزكاة والصـدقـة، لكن الله سبحانه قدم الصدقة للحث عليها، وللدلالة على نفسية مسلمة تنفق زيادة على الواجب من مالها الذي تحب، وهي في حالة تخشى الفقر معها.
-
( وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ) إن هذه موقعها في (خبر لكن) أي أن تكون مرفوعة مثل الذي سبقها ( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ) ولكنها هنا منصوبة على الاختصاص ( وَالصَّابِرِينَ ) وهي تعني اختصاص الصابرين في مواضع الشدة المذكورة بدرجة عظيمة من المدح من قبل الله سبحانه، ومن المنزلة الرفيعة التي أعدها الله للصابرين ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) الزمر/آية10.
وفي لغة العرب إذا عُدِل عن الرفع إلى النصب في مثل هذه المواضع يكون نصباً على الاختصاص، وهي هنا اختصاص بالمدح وعلو المنزلة.
[1] البخاري: 1330، مسلم: 1713
[2] النسائي: 2535، ابن ماجه: 1834، أحمد: 4/17، 218
2016-01-01