العدد 349 -

السنة الثلاثون صفر 1437هـ – كانون الأول 2015م

مرافعة الشهيد محمد مهذب حفاف أمام قضاء القذافي العسكري

بسم الله الرحمن الرحيم

مرافعة الشهيد محمد مهذب حفاف أمام قضاء القذافي العسكري

هذه المرافعة ألقاها الشهيد محمد مهذب حفاف أمام ما يسمى بمحكمة الشعب في شهر فبراير سنة 1977م، وهي محكمة عسكرية تعتبر أعلى هيئة قضائية لا تخضع لأي قانون وأحكامها لا تقبل الاستئناف، شَكَّلها النظام لمحاكمة أهل الفكر والرأي المعارضين له.

(إننا ونحن نقف هذا الموقف في هذه الظروف – فإنه فوق ما لنا من حق الدفاع عن أنفسنا كأشخاص، فإننا نرى قبل ذلك أن الواجب يحتم علينا توضيح ما يجب توضيحه من أبعاد هذه القضية، وبيان حقيقة ما يسميه البعض تهمة يتهمنا بها، ويبرر بذلك ما قام به تجاهنا من سجن وتعذيب، وحرماننا من أبسط الحقوق، ويمنعنا من القيام بواجبنا كما تحدده عقيدتنا وترسمه لنا وجهة نظرنا في الحياة.

ونحن إذ نقوم بهذا، فإننا نضع في الاعتبار ضيق الوقت والحرص على ان تُـفهَم كافة الجوانب والملابسات على وجهها الصحيح بغض النظر عن القوانين والإجراءات التي تسلَّط ضدنا، وبغض النظر عن النتائج والأحكام التي قد تحصل في المستقبل.

أما حقيقة هذه القضية، فإننا نلخصها في النقاط الرئيسية التالية:

أولاً: إننا مسلمون، وهذا كاف لان يجعلنا نأخذ واجبنا من إسلامنا، وان نحدد سيرنا في الحياة بما تمليه علينا العقيدة الإسلامية، وما ينبثق عنها من أفكار وأحكام، بغض النظر عن رغبات الآخرين، وبغض النظر عما يقومون به من أعمال ويقترفونه من آثام في حق المسلمين الداعين لعودة الإسلام واستئناف الحياة الإسلامية، وما يحُولون به بين الناس وبين الأفكار الإسلامية الصحيحة والحركات الإسلامية الواعية المخلصة.

والإسلام علَّمنا أنَّ نجاحنا في الحياة كمسلمين، وعزَّنا في الدنيا كأمة مسلمة إنما هو بالتمسك به، وفي التقيد بأفكاره وأحكامه، وفي صياغة الحياة حسب وجهة نظره، في تجسيده في دولة تطبقه داخلياً وتحمله للعالم قيادة فكرية؛ لأنه لا وجود للإسلام في معترك الحياة، إلا بوجود دولته، فهي وحدها التي تطبق أحكامه، وتسوس الناس بما ينبثق عن عقيدته من معالجات لكافة شؤون البشر. إلا أن الأمر الذي يُبدأ به والعمل الذي يقام به قبل ذلك هو إيجاد الوعي العام الصحيح على الإسلام كمبدأ وكعقيدة سياسية، وذلك بإيجاد الأفكار الإسلامية عند الناس حتى تكون هي الطاغية في المجتمع، وإيجاد المشاعر الإسلامية التي توحد مشاعر الجماعة المسلمة تجاه ما يُغضَب وما يُسَرّ له، وإيجاد النظام الإسلامي الذي ينظم علاقات الأفراد بعضهم مع بعض. وبعبارة أخرى، إن وضع الإسلام موضع التطبيق لا يتم إلا بعد إعادة ثقة المسلمين في ما ينبثق عن العقيدة الإسلامية من أفكار ومعالجات لشؤون الحياة، وعلاقات الأفراد، لأن المشكلة الرئيسية التي يواجهها المسلمون منذ بداية هذا القرن حتى الآن هي عدم الثقة في أفكار الإسلام وأحكامه من حيث قدرتها على معالجة المشاكل المتجددة والمتعددة، وبالإضافة إلى الجهل الذي يعانيه جمهرة المسلمين بأغلب هذه الأفكار والأحكام، وبالرغم من أن العقيدة الإسلامية موجودة عند المسلمين، وهم مسلمون دون أدنى ريب. غير أن العقيدة الإسلامية عند هؤلاء المسلمين الآن فقدت ثلاثة أمور مهمّة: فقدت علاقتها بأفكار الحياة والتشريع (فغاضت) منها الحيوية؛ لأن العقيدة العقلية إذا انفصلت أفكارها عنها ضعفت فكانت غير فاعلة. وفقدت أيضاً تصورها لما بعد الحياة، فلم تعد تواجه في سيرها يوم القيامة وحسابه، ولم يعد يهزها عذاب الله، ولم تعد تثيرها جهنم، كما أنها لم تعد تستهدف الجنة ونعيمها، ولم تعد بالتالي تستهدف رضوان الله كأسمى غاية من الغايات عند المسلمين. كما فقدت كونها الرابط الذي يربط المسلمين ببعضهم بأخوة إسلامية فصاروا شعوباً ودولاً، وصاروا جماعات وأسراً، بل صاروا أفراداً أفراداً. هذه الأمور الثلاثة فقدتها العقيدة الإسلامية من نفوس المسلمين فأصبح المسلمون في ضياع. أما العقيدة نفسها فلا تزال موجودة عند كل مسلم، ولا يزال كل مسلم ينطق بالشهادتين صباح مساء، وإن كان هذا القول لا يحرك شعرة من بدنه، ولا خلجة من قلبه، ولا شيئاً من مشاعره، ولا يدفعه في الحياة قدر إصبع، ولا يمنع عنه من التأخر والانحطاط شيئاً. وبذلك فإن المسلمين لم يفقدوا العقيدة الإسلامية، وإنما فقدوا الثقة فيما ينبثق عن هذه العقيدة من معالجات.

هذا هو واقع الأمة الإسلامية اليوم في أغلب بلاد الإسلام: انعدام ثقة بأنظمة الإسلام وتشريعاته، والشك في قدرة هذه الأنظمة على معالجة شؤون الناس وعلاقاتهم، وهذا هو الذي يجعل المسلمين لا يتصورون إمكانية تطبيق الإسلام كاملاً، بل هذا هو الذي يجعل بعضهم يحارب الدعوة لتطبيق الإسلام كاملاً نتيجة لعدم إدراك هذا البعض لكيفية التطبيق، وبالتالي لعدم تصوره للطراز الخاص من حيث العيش الذي يفرضه الإسلام، وما محاولات الترقيع والترميم الفاشلة التي نشاهدها في أغلب بلاد الإسلام إلا نتيجةً لهذه الأزمة، ألا وهي أزمة الثقة في أنظمة الإسلام التي يعانيها المسلمون. فكان جراء هذه الأزمة أن فقدت الأمة الحافز الحاد الذي يدفعها للنهضة، فكان فيها هذا الجمود، وكان فيها هذا الموت، وكان فيها هذه الحال التي جعلتها على حافة الهاوية مشرفة على خطر الفناء. هذه هي القضية التي يجب أن يوضع الإصبع عليها، والتي يجب أن تكون محل بحث وموضع علاج.

ثانياً: أما سبب وجود عدم الثقة هذا، فإنه جاء عن طريق الغزو الفكري والسياسي، ثم العسكري الذي تعرض له المسلمون من قِبَلِ الغرب خلال القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين. فإن هذا الغرب كان يرى الأمة الإسلامية وما تتمتع به من أفكار سامية ووجهة نظر في الكون والإنسان والحياة مبنية على العقل ومتفقة مع الفطرة، كما كان يرى حرص المسلمين على الإسلام وحرصهم على تبليغه للعالم، كان الغرب يرى ذلك كله ويدرك أن المسلمين والدولة الإسلامية إنما تشكل خطراً ماحقاً على كيان دوله ونفوذها؛ لأنه يدرك أن الإسلام منذ أن انبلج فجره، والصراع بينه وبين الكفر دائر على أشُدّه، وهذا الصراع إنما يدور على مصير الكفر ومصير الإسلام، وإن الصراع الدموي الذي صحب الصراع الفكري منذ وجدت الدولة الإسلامية في المدينة المنوّرة حتى اليوم يبرهن على ذلك بأوضح برهان. نقول: إن الغرب كان يدرك ذلك ويراقب سير المسلمين سواء في تطبيق الإسلام، أم في قوة الدولة الإسلامية مراقبة شديدة حذرة. ومع بداية القرن التاسع عشر الميلادي بدأ الغرب هجومه الكاسح على المسلمين حين تحدى بالتشريع الغربي التشريع الإسلامي، وبدأ ضغوطه على الدولة الإسلامية (الدولة العثمانية) لتتخلّى عن تحكيمها الإسلام في علاقاتها الخارجية مع الدول الأوروبية، في الوقت الذي كان المسلمون مشدوهين بالانقلاب الصناعي الهائل الذي حصل في أوروبا، فلم يستطيعوا الصمود في هذا التحدي، وقبلوا أن يكون الإسلام متهماً، وجعلوا يُقرِّبون أحكامه وتشريعاته للأحكام الديمقراطية الرأسمالية كأنها هي الأساس في البحث، وكأن المسالة هي ثبوت أن التشريع الإسلامي لا يخالف ما يقوله التشريع الغربي وما يأتي به من حلول ومعالجات. كما أن المسلمين ربطوا ولا يزالون يربطون في أنفسهم النظام الرأسمالي بعظمة الاختراعات والصناعات الموجودة عند الغربيين، وصاروا يُؤوِّلون الإسلام ليوافق ما يقوله الغرب. فيقولون عن نظام الحكم في الإسلام بأنه ديمقراطي، وإن الشورى هي الديمقراطية، وإن العدالة الاجتماعية ينادي بها الإسلام، وإن الحريات موجودة في الإسلام… إلى غير ذلك من الردود التي يظهر فيها الضعف والانهزام. وهكذا حصل الخلل في بحث الإسلام وفهمه، فكان من جرّائه حصول الخلل في الثقة بأحكامه ومعالجاته من حيث قدرتها على ملاحقة مشاكل العصر، من جراء عدم إدراك المسلمين أن التشريع الإسلامي مخالف للتشريع الغربي كل المخالفة في الأساس والتفاصيل.

وما إن جاءت الحرب العالمية الأولى حتى أجهز الغرب على البقية الباقية من الدولة الإسلامية [الخلافة العثمانية بالرغم من ضعفها وهزالها في هذه الفترة وإساءتها تطبيقَ الإسلام واهمالها للغة العربية] فاحتل إستانبول عاصمة الخلافة، وأوعزت إنجلترا لمصطفى كمال عميلها بالاستيلاء على السلطة وإلغاء الخلافة نهائياً من الوجود، كما تبع ذلك بسط السيطرة العسكرية على أغلب أجزاء العالم الإسلامي، وبسط النفوذ السياسي على سائر بلاد الإسلام. فبدأ يفرض على المسلمين أنظمته وقوانينه، وبالجملة ثقافتَه ووجهةَ نظره، بدأ يفرضها بالحديد والنار والمعاهد والمدارس والجامعات، في نفس الوقت الذي يُوسِعُ فيه الإسلام نقداً وتجريحاً وتشويهاً لحقائقه حتى أصبح جمهرة المسلمين جرّاءَ الثقافة الاستعمارية يستبعدون عودة الإسلام إلى الحياة بشكله الصحيح. ومنهم مَن يرى استحالة تطبيق نظام الحكم كما جاء في الإسلام، ونظام الاقتصاد كما جاءت به الأحكام الشرعية.

وقد وضع الكافر المستعمر مناهج التعليم والثقافة في البلاد الإسلامية على أساس فلسفة ثابتة وهي وجهة نظره في الحياة التي هي فصل المادة عن الروح، وفصل الدين عن الحياة وعن السياسة؛ لأنه يقيس الإسلام بالمسيحية التي هي عقيدة فردية فقط، ولا شأن لها بأنظمة المجتمع، كما جعل المستعمر شخصيته وحدها الأساس الذي تُنْتَزَعُ منه ثقافة المسلمين، بجعل حضارته وتاريخه ومفاهيمه ومكونات بلاده المصدر لما نحشو به عقولنا. ولم يكتفِ بذلك بل جعل المغالطة أيضاً متعمدة فيما ينتزعه لنا من شخصيته من مفاهيم وحقائق، وعكس الصورة الاستعمارية عن هذه الشخصية بإعطائها الوضع الذي يُقتَدى به والوضعَ الذي لا يُستَغنَى عن السير معه، مخفياً وجهه الاستعماري بالأساليب الملتوية الخبيثة، حتى وجدت فكرة الاستعانة بالدول الغربية في المجالات السياسية والاقتصاد تحت ستار التقدم واللحاق بالغرب.

إن ما نذكره من حقائق حال الأمة الإسلامية اليوم ليس كل ما في التاريخ، ولكنه وصف للواقع الذي وصلْنا إليه، وحديث عن الجذور الفكرية للحياة التي نحياها الآن، والأوضاع التي نصطلي بنارها ونتقلب على أشواكها، وإذا كانت جيوش الكافر المستعمر قد خرجت من بلاد المسلمين، فإن العالم الإسلامي كله لا يزال مُستَعمَراً بأبشع صور الاستعمار وأخبثها، فلا تزال أفكاره تحتل موضع الاعتناق والتطبيق في كافة شؤون الحياة العملية، ما عدا بقايا من نظام الإسلام في الزواج والطلاق والإرث والعبادات، ولا تزال العقليات التي تحمل الولاء الفكري والسياسي للغرب هي التي تحارب الفكرة الإسلامية سياسياً. وإن أعظم نجاح حققه الكافر المستعمر هو أنه حَوّلَ عدواتنا له من عداوة بين الإسلام والكفر إلى عداوة مستعمَرين للاستعمار، ومن عداوة مسلمين لكفار إلى عداوة وطنيين لأجانب، وبذلك أنسانا مرارة الهزيمة بوصفنا مسلمين، وأزال عن كونها هزيمة كفر للإسلام، حتى حوَّل كفاحنا من جهاد نطلب فيه الجنة ونبتغي منه رضوان الله، إلى كفاح رخيص كالمظاهرات والاحتجاجات للحصول على الاستقلالات المزيفة، والتي لا تعني إلا الانفصال عن باقي بلاد الإسلام، كما تَحوَّلَ إلى صراخ بهلواني في المؤتمرات التي تقام تحت إشرافه في المحافل الدولية كالأمم المتحدة وغيرها.

هذا هو واقع الأمة الإسلامية وهذه هي قضيتها، وهي إعادة ثقتها بأنظمة الإسلام، وربط الدستور والقوانين بالعقيدة الإسلامية. هذه هي القضية بالدقة والتحديد.

أما العلاج الصحيح لهذه القضية فإنه يكون بالرجوع إلى النقطة التي بدأ منها الخلل، أي علاج الزعزعة التي حصلت في الثقة بأنظمة الإسلام وصلاحيتها كمعالجات لعلاقات الناس. وهذا العلاج لا يبرز إلاّ في إعداد ثقافة إسلامية عميقة مستنيرة تفهم العقيدة الإسلامية فهماً يملأ العقل قناعة والقلب طمأنينة، وترجع بكل فكر وحكم إلى هذه العقيدة حسب طريقة الإسلام في ربط الأفكار والأحكام بالأساس الذي ينبني عليه وهو العقيدة الإسلامية.

وإعداد الأشخاص بهذه الثقافة إعداداً انقلابياً حتى يتحولوا إلى إسلام يمشي على الأرض، وإلى نور يضيء الطريق، ونار تحرق الفساد المتمثل في الأفكار الباطلة والزعامات المضللة والأذواق المنحرفة. وتكون مهمة هؤلاء الأشخاص إيجادَ المجتمع الإسلامي بنفض الغبار عن جذور شجرة الإسلام، وإزالة ما علق بها من الأتربة عبر القرون، حتى يعود للعقيدة الإسلامية صفاؤها ونقاؤها، وبالتالي تأثيرها الجبار في النفوس، هذا التأثير الذي يقلب الحياة رأساً على عقب، ويحيل هذا الظلام الدامس إلى وهج متقد يبصر الناسُ على ضوئه صحةَ أفكار الإسلام ومعالجاته وارتباطها الحتمي بالعقيدة الإسلامية، كما يلمس هؤلاء الناس فساد الأنظمة والقوانين التي يخضعون لها الآن حين يدركون أنها تنبثق عن وجهة نظر فاسدة ترفضها عقيدة الإسلام وأفكاره؛ ما يجعل الأمة الإسلامية تتحرك حركة فعّالة في الاتجاه الصحيح، وهو استئناف الحياة الإسلامية واعادة الخلافة وحمل الإسلام دعوة عالمية.

      أما إذا سُئل عن هذه الثقافة الإسلامية التي تحدث هذا الأثر، فإننا نجيب بأنها موجودة في كتبها ومصادرها بالأسلوب الذي يفهمه سائر الناس، وينجذب إليه الواعون والمفكرون. ولكن للأسف الشديد فإن هذه الثقافة مُحارَبةٌ في بلاد المسلمين كأشد ما تكون المحاربة، وحتى في البلاد التي تدعي أنها تطبق الإسلام فإنها تحارب الفكر الإسلامي الصادق، كما تحارِب سائر الحكومات في البلاد الإسلامية كل من يدعو لاستئناف الحياة الإسلامية وإقامة دولة الإسلام، ويُمنع هؤلاء الناس من بث أفكار الإسلام والجهر بدعوتهم بالسجون والملاحقات ومحاربة أرزاقهم وسائر أنواع التضييقات. كما تداهم البيوت والمنازل بحثاً عن الكتب الإسلامية وحرقها وتمزيقها والحيلولة بينها وبين المسلمين وسائر الناس، كما تُلَفَّق التهم الكاذبة والدعاية المضللة، وتصاغ القوانين التي فاقت بشاعتها كل حد لمنع الإسلام من العمل الصحيح للنهضة الصحيحة، وهذا أمر ظاهر ظهور الشمس في رابعة النهار، وما يجري الآن في هذا البلد خير دليل على صدق ما نقول.

ثالثاً: إن التقيد بالأحكام الشرعية هو أساس الحياة وهو ثمرة الإيمان بالإسلام، وهو مع كونه منبثقاً عن العقيدة الإسلامية فإنه صِنْو هذه العقيدة، وهو دلالة على وجودها لدى المسلم، قال تعالى: ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) وقال: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) فالآية الأولى تنفي الإيمان عمَّن لا يُحكِّم الشرع، لأن تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم  هو تحكيم للشرع. والآية الثانية تأمر المسلمين أن يأخذوا ما أتاهم به الرسول من القرآن والأحاديث بكل أوامرها ونواهيها ومباحاتها؛ لذلك فإن من لم يتقيد بالشرع الإسلامي يُنفَى عنه الإيمان لقوله تعالى: ( تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ) فالذي يزعم أنه يؤمن بالإسلام عليه أن يتقيد بأحكامه وتشريعاته في كافة شؤون الحياة، فإذا أرادوا أن يتحاكم إلى غير الإسلام فإن ذلك ينافي زعم الإيمان؛ لذلك فإن الإسلام يقضي ويحتم التقاضي إليه، أي التقيد بما جاء به، ويأمرنا أن نكفر بكل تشريع مستمد من غير الإسلام وأصوله، والذي يتحاكم إلى أي قانون أو تشريع من غير الإسلام بأي حجة من الحجج، فإنه يتحاكم إلى الطاغوت، أي إلى شرائع الكفر وأحكام الكفر. وإذا كان تحاكمه إلى غير الإسلام عن رضا واقتناع فإنه يكون كافراً والعياذ بالله.

وقد بيّن الشرع ذلك بوضوح في حق الحكام، من قضاة وأمراء، فإن هؤلاء وإن كانوا يدخلون تحت حكم التقيد بالحكم الشرعي كسائر المسلمين، فإن الله أخبر عنهم بالذات أي أخبر القضاة والحكام بأنهم إذا حكموا بغير ما أنزل الله فهم إما كافرون، أو ظالمون، أو فاسقون. فإذا كانوا يعتقدون بعدم صلاحية الإسلام للحكم والقضاء، مثل بعض الحكام في العالم الإسلامي، فإنهم كفار ولا شك لأن الله عناهم بقوله: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ    ). وإذا كانوا يؤمنون بصلاحية الإسلام للحكم والقضاء، ولكن مجاراة للكفار قَبِلوا الحكم بغيره إما خوفاً وإما عن قناعة بأنهم غير قادرين على تطبيقه، فهؤلاء ليسوا بكافرين، ولكنهم ظالمون وفاسقون لأنهم ارتكبوا حراماً مادام إيمانهم موجوداً. فعدم التقيد بأحكام الشرع يكون كفراً أو ظلماً أو فسقاً لدى الحكام، وكذلك يكون لدى سائر الناس في علاقاتهم الفردية أو علاقاتهم كلها.

هذا هو حكم الإسلام، وهو وجوب التقيد بالحكم الشرعي مطلقاً بغض النظر عن العصر وعن الزمان وعن المكان وعن الحادثة. فحكم الشرع جاء لمسألة معينة حكماً دائماً حتى يوم القيامة، ولا يتغير أبداً بتغير الزمان والمكان وإذا جدت مسائل جديدة فإنها يستنبط لها حكم جديد من النصوص الشرعية. فمن ذلك أن حكم الشرع هو وحدة البلاد الإسلامية، فإذا جُزِئَت كانت هذه التجزئة حراماً، فلا يصح السكوت عنها، ويجب إزالة هذه التجزئة وإعادة الوحدة إلى جميع بلاد الإسلام. فالبلاد الإسلامية كلها دولة واحدة. وقد جعل الإسلام هذه القضية قضية مصيرية، كما بيّن كيفية الحفاظ على هذه الوحدة أو إعادتها، وذلك حيث أمر بوجوب الخلافة الإسلامية وجعلها فرضاً على كل مسلم. فالخلافة هي الرئاسة العامة في الدنيا للمسلمين في جميع أقطار العالم. والقيام بهذا الفرض هو كالقيام بأي فرض من الفروض التي فرضها الله على المسلمين، وهو أمر محتم لا تخيير فيه ولا هوادة في شأنه. والتقصير في القيام به معصية من أكبر المعاصي يعذب الله عليها أشد العذاب.

والدليل على وجوب إقامة الخلافة على المسلمين كافة هو السُّنة وإجماع الصحابة. أما السنة فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  أنه قال: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» [رواه مسلم]. فالنبي صلى الله عليه وسلم  فرض على كل مسلم أن تكون في عنقه بيعة، والبيعة لا تكون إلا للخليفة أي لرئيس الدولة على الكتاب والسنة وليس غير ذلك. وقال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ» [رواه البخاري ومسلم]، والإمام والخليفة بمعنى واحد وهو رئيس الدولة الإسلامية. والرسول صلى الله عليه وسلم  أمر بطاعة الخلفاء وبقتال من ينازعهم في خلافتهم. وهذا يعني أمراً بإقامة خليفة والمحافظة على وحدة بلاد الإسلام تحت دولة واحدة. فقد قال صلى الله عليه وسلم : «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا» [رواه مسلم]، ما يعني الوقوف في وجه تعدد الدولة الإسلامية مهما كلف ذلك من ثمن.

أما إجماع الصحابة فإنهم أجمعوا على لزوم إقامة خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم  بعد وفاته. فإنه لما توفي عليه الصلاة والسلام أخّر الصحابة دفنه واشتغلوا بالبحث في نصب خليفة له، مع أن دفن الميت عقب وفاته فرض، ويحرم على من يجب عليهم هذا الدفن الاشتغال في غيره حتى يتم دفنه. ولكن الصحابة رضي الله عنهم اشتغلوا في نصب خليفة وقدموه على الدفن، وأقرّوا بعضهم بعضاً على هذا العمل. فكان ذلك إجماعاً على فرضية نصب خليفة وتقديمه على فرض دفن الميت، مما يدل على أن نصب الخليفة فرض أعلى من فرض دفن الميت، ولو كان هذا الميت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأيضاً فإن الصحابة أجمعوا طوال أيام حياتهم على وجوب نصب الخليفة، ومع اختلافهم على الشخص الذي يُنتَخَب خليفة فإنهم لم يختلفوا مطلقاً على إقامة خليفة، لا عند وفاة الرسول ولا عند وفاة أي خليفة من الخلفاء الراشدين. فكان إجماع الصحابة دليلاً صريحاً وقوياً على وجوب نصب الخليفة.

على أن إقامة الدين وتنفيذ أحكام الشرع في جميع شؤون الحياة الدنيا على المسلمين ثابت بالدليل القطعي الثبوت القطعي الدلالة، الذي لا يختلف في فهمه المسلمون. ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بوجود حاكم ذي سلطان. والقاعدة الشرعية أَنَّ «مَا لاَ يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ» وتطبيق الإسلام لا يتم إلا بوجود الحاكم الشرعي أي الخليفة. فكان نصب خليفة فرضاً من هذه الجهة أيضاً.

رابعاً: إن القضية التي تواجه المسلمين منذ أن أزيلت الخلافة الإسلامية (العثمانية) على يد الغرب سنة 1924م حتى الآن هي إقامة الخلافة نظاماً للحكم متميزاً عن باقي الأنظمة كل التميز، ويتحقق بإقامتها تحويل بلاد الإسلام إلى دار للإسلام، وتوحيدها مع غيرها من بلاد الإسلام. غير أنه من المستحيل القيام بذلك أي إقامة الخلافة، وإزالة أنظمة الكفر، وحمل الإسلام إلى العالم أجمع؛ إلا بالاشتغال بالسياسة على أساس الإسلام، أي يستحيل ذلك إلا ببث أفكار الإسلام وأحكامه على الأساس السياسي، ومعنى ذلك أن يُبَيّن للناس أن الإسلام دين منه الدولة، وأنه يفرض أن تكون الدولة مبنية على العقيدة الإسلامية. بحيث لا يتأتى وجود شيء في كيان هذه الدولة أو جهازها، أو محاسبتها، أو كل ما يتعلق بها إلا بجعل العقيدة الإسلامية أساساً له، وأن تكون في نفس الوقت (أي العقيدة الإسلامية) أساس الدستور والقوانين الشرعية، بحيث لا يسمح بوجود أي شيء مما له علاقة بأي من هذا الدستور وهذه القوانين إلا إذا كان منبثقاً عن العقيدة الإسلامية. وعلى هذا فإن الطريق الوحيد لاستئناف الحياة الإسلامية وإقامة الخلافة وتبليغ الدعوة الإسلامية لكافة الناس إنما يكون بالعمل على إقامة كتلة سياسية تكون قادرة على القيام بهذه المهمة الجسيمة.

إن الإسلام قد أعطى المسلمين الحق في إقامة الحزب السياسي (أو الأحزاب السياسية) لمحاسبة الحكام، أو للوصول إلى الحكم عن طريق الأمة. إلا أن هذا التكتل أو الحزب يجب أن يكون أساسه مبدأ الإسلام، وأن تكون الأفكار التي يتبناها أفكاراً إسلامية ليس غير. والدليل على ذلك قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ    ). فهذه الآية تعني أن الله أمر المسلمين بأن تكون منهم جماعة تقوم بالدعوة إلى الخير أي بالدعوة إلى الإسلام، وأن تقوم هذه الجماعة كذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالمقصود بقوله تعالى: ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ) أي لتكن جماعة من المسلمين تقوم بهذا العمل وهو الدعوة إلى الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا المعنى يرشد إلى أمرين، أحدهما: إن تكوين جماعة تقوم بهذا العمل فرض. والثاني: إن المطلوب وجود كتلة لها صفة الجماعة من المسلمين للقيام بهذا الفرض، وأن تكون قادرة على القيام بالعمل الذي وجدت من أجله. والأمر الذي يجعل إقامة هذه الكتلة فرضاً آت من أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي وردت في الآيات والأحاديث. من مثل قوله تعالى: ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ) [الحج: 41]. وقوله تعالى في معرض وصف المؤمنين: ( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ ). كما بين الله أن عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المنافقين في قوله: ( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ). ثم عقّب في نفس السورة مبيناً حقيقة المؤمنين فقال بعد ذلك بعدة آيات: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ). وقد لعن الله بني إسرائيل في القرآن لأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه. وهناك كثير من الآيات التي تؤدي هذا المعنى. أما الأحاديث التي في هذا الصدد فهي كثيرة نورد منها قوله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرهُ بِيَدهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» [رواه مسلم]، وقوله عليه الصلاة والسلام: «مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ قَبْلَ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ، وَقَبْلَ أَنْ تَسْتَغْفِرُوهُ فَلَا يَغْفِرُ لَكُمْ. إِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا يُقَرِّبُ أَجَلًا» [المعجم الأوسط] وقوله عليه السلام: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» [مسند أحمد والطبراني] وغير ذلك من الأحاديث التي تحمل هذا المعنى. ومن مجموع هذه الآيات والأحاديث يتضح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على كافة المسلمين. وهو الذي جاءت آية ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) تبين كيفية القيام به بالشكل الجماعي، وأمرت بوجوب إقامة جماعة (كتلة) تقوم بهذا الفرض. ولا يكون القيام بالدعوة إلى الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالشكل الكامل الذي يؤتي ثماره إلا إذا تكتّل جماعة من المسلمين في كتلة للقيام به. غير أن هذه الكتلة أو الجماعة حتى تستطيع القيام بما وُجِدَت من أجله لا بد لها من أمور معينة تعطيها صفة التكتل والوحدة هو أمران: الأمر الأول وجود رابطة فكرية تربط بين أعضائها حتى يكونوا جسماً واحداً، ومن غير وجود هذه الرابطة لا يمكن أن توجد الجماعة التي طلب الشرع إيجادها. والأمر الثاني: هو وجود قيادة تقود هذه الجماعة حسب واقع القيادة الفعلي وحسب مفهوم الإسلام للقيادة.

وإذا وجدت بين المسلمين جماعة لها هذان الوصفان: رابطة فكرية تربط بين أعضائها، وقيادة لهذه الجماعة. فقد وُجِدَ ما أمر الشرع المسلمين بإيجاده، وهذه هي الكتلة أو الحزب أو المنظمة أو الجمعية أو الجماعة أو الرابطة أو أي اسم من الأسماء التي تطلق على هذا المسمى. إلا أن هذه الجماعة أو الحزب لا يمكن أن تقوم بالعمل المطلوب كاملاً، وهو الدعوة إلى الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا إذا كان عملها منصباً بالدرجة الأولى على محاسبة الحكام وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. وهذا العمل، وهو محاسبة الحكام، هو الذي يضفي السياسة على الجماعة أو الكتلة أو الحزب؛ فيجعله حزباً سياسياً أو منظمة سياسية. وعمل هذه المنظمة السياسية أو الحزب السياسي هو أمر الحكام وسائر الناس بالمعروف، ونهي الحكام وسائر الناس عن المنكر، وهذا هو العمل السياسي الصحيح. ولا يستثنى الحاكم من هذا العمل؛ لأن ذلك يجعل العمل المطلوب ناقصاً، ولا يبيح الإسلام ذلك لأنه يطلب القيام بالفرض كاملاً.

وعليه فإن الآية الكريمة ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [آل عمران: 104] دليل على وجوب إقامة حزب سياسي مبدؤه الاسلام، تكون الفكرة الإسلامية هي روحه، وبث الأفكار الإسلامية وحمل الدعوة الإسلامية هو عمله. وبعبارة أخرى، إن الإسلام يفرض إقامة حزب سياسي يقوم على العقيدة الإسلامية، وتكون هذه العقيدة وما ينبثق عنها من أفكار هي الرابطة بين أعضائه كجماعة على الوجه الذي يجعلها جماعة. كما يحرّم الإسلام على هذا الحزب أن يتبنّى أي فكر في أي شأن من شؤون الحياة إذا لم يكن فكراً إسلامياً أو يقرّه الإسلام.

ولا تحتاج إقامة الحزب السياسي على الوجه الذي يحدده الشرع إلى ترخيص أو إذن من أي سلطة، لأن المسلم حين يقوم بما يفرضه الإسلام عليه ويطلبه منه لا ينتظر إذناً من أحد، سواء أكان حاكماً أم غير حاكم. كما أن المسلم الذي ينخرط في صفوف حزب إسلامي سياسي كحزب التحرير لا يحتاج أيضاً إلى إذن من أحد، ولا اعتبار في الإسلام لما يقوم به الحكام الآن في البلاد الإسلامية من منع إقامة الأحزاب السياسية الإسلامية، بل للمسلمين كُلِّ المسلمين كُلُّ الحق في تأسيس الأحزاب الإسلامية السياسية، وكلُّ الحق في الانضمام إلى هذه الأحزاب.

خامساً: الضمانة الطبيعية لتنفيذ الإسلام وحمل دعوته، واستمرار تنفيذه، وإحسان هذا التنفيذ، هي التقوى في الحاكم، وتركُّز هذه التقوى في نفسه، لأن تقوى الله عند الحاكم تجعله حريصاً على الإسلام أكثر من حرصه على حياته، فضلاً عن حاجاته ورغباته، وتوجِد فيه الأحاسيس المرهفة التي تجعله يذكر الله في نفسه في كل لحظة، وعند قيامه بأي عمل، ويراقب اللـهَ في كل تصرفاته. وإذا فَقَدَ الحاكم التقوى فقد الضمانة الطبيعية لتطبيق الإسلام، وإحسان تطبيقه، واستمرار هذا التطبيق، وفَقَدَ الضمانة لحمل الدعوة الإسلامية. ولما كان الحاكم عرضة لأن تجافيه التقوى، كان لا بد من طريقة مادية تجبره على التنفيذ، أو تقصيه عن الحكم، وتقيم مكانه الحاكم الذي يطبق الإسلام ويحمل دعوته. وهذه الطريقة العملية هي الأمة. ولذلك كان من واجب الأمة الإسلامية اذا رأت حاكماً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، عاملاً في عباد الله بالإثم والعدوان، كان من واجبها أن تغيّر عليه بالقول أو الفعل، أو تغيّره وتأتي بالحاكم الذي ينفذ الشرع الإسلامي كاملاً. وكي تقوم الأمة بواجبها هذا، كان عليها أن تتصف بتقوى الله لأن تقوى الله توجِد فيها الحرص على الإسلام وعلى تنفيذه، وهذا الحرص يجبر الأمة على محاسبة هذا الحاكم على كافة تصرفاته، فتناقشه وتحاسبه كلما رأت منه تقصيراً في التنفيذ، أو محاولة للبعد عن أحكام الله، أو إساءة في تطبيق أنظمة الإسلام. وبهذه الطريقة يستمر تطبيق الإسلام، ويستمر إحسان هذا التطبيق.

غير أن الأمة – وهي الطريقة العملية في الدنيا لتنفيذ الإسلام بمراقبتها للحكام ومحاسبتها لهم – تحتاج إلى أن يقوم فيها تكتل صحيح على أساس يتجلى في هذا التكتل الفهم العميق، والخوف الشديد من الله، لأنه يقوم على أساس واحد هو العقيدة الإسلامية، ويعمل هذا التكتل لأن يثقف الأمة بالثقافة الإسلامية المركزة، ثقافة توسع العقل، وتقوي الإدراك، وتصفي النفوس، إذ تربط المشاعر بالفكر، وتوجد التجاوب الصحيح بين الأفكار والميول النفسية، وهذا يجعل المسلم الشخصية الإسلامية المبتغاة، وإذا قام التكتل الذي لا بد منه على هذه الشخصية، كان هذا التكتل الوسيلة لصهر الأمة، لأنه ينقي أفكارها ويصهرها في فكر واحد، هو الفكر الإسلامي الخالص، ويسيرها نحو هدف واحد هو الإسلام، تعيش من أجله وتحمل الدعوة له، وحينئذ تتيقظ تيقظاً دائمياً على المبدأ الذي تحمله، وتكون مزودة بالوعي الصحيح على هذا المبدأ. والذي يوقظ الأمة هو هذا التكتل (الحزب السياسي) الذي يعيش من أجل المبدأ، ومن أجل الدعوة له، وإحسان تطبيقه واستمرار هذا التطبيق.

هذا التكتل الذي يقوم بهذه المهمة هو الحزب المبدئي الذي يقوم في الأمة، وبعبارة أخرى هو الحزب الذي يقوم على أساس الإسلام من حيث كونه قيادة فكرية يحمله في الأمة ويدعو لاعتناق الناس له في كل مكان. ولذلك هو حزب دعوة لا يقوم بأي عمل غير الدعوة للمبدأ، لأن العمل في النواحي الأخرى هو من وظيفة الدولة وليس من وظيفة الحزب.

ومتى قام الحزب وقاد الأمة صار هو الرقيب على الدولة؛ لأنه الأمة أو ممثلاً للأمة، وهو الذي يقودها ويجعلها تقوم بواجبها، وهو مناقشة الدولة ومحاسبتها، والتغيير عليها بالقول أو الفعل أو تغييرها إذا خيفَ على الإسلام منها. ويتعسر على الأمة أن تناقش أو تحاسب الدولة دون أن يكون لها حزب يتولى مركز قيادة الأمة تجاه الدولة، ومن هنا كان لزاماً أن يقوم في الأمة حزب سياسي مبدئي، عمله الوحيد حمل الدعوة الإسلامية وطريقه الوحيد لحمل الدعوة هو الطريق السياسي، وكان قيام هذا الحزب أمراً لابد منه لأنه هو الطريقة العملية التي تقود الأمة، وليضمن بقيادته لها قيام الدولة بمهمتها على أكمل وجه.

ولقد كان تكتيل الرسول صلى الله عليه وسلم  للمسلمين حول الإسلام يتجلى في دار الأرقم، في مكة، ثم في الصحابة جميعاً. فكانوا الكتلة التي تقوم بين المسلمين وتتولى تبعة الإسلام عملياً، وإن كان جميع المسلمين يحملون تبعات الإسلام بشكل عام. أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  كانوا هم الكتلة الإسلامية أو الحزب الإسلامي الذي يحمل تبعة الإسلام، وإلا فالرسول توفي والمسلمون يزيدون عن عشرة ملايين. وحينما انقضى عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين تلاشى هذا الحزب فأخذ الضعف يتسرب إلى نفوس الحكام لعدم وجود الحزب الذي يقود الأمة لمراقبة هؤلاء الحكام ومحاسبتهم ومناقشتهم. واستمر ذلك إلى أن حصلت إساءة تطبيق الإسلام. وإذن فالضمانة الحقيقية لتطبيق الإسلام وحمل دعوته وإحسان تطبيقه هي وجود الحزب السياسي الإسلامي بين صفوف الأمة الإسلامية.

سادساً: هذا هو واقع الأمة الإسلامية، وهو عدم تحكيم الإسلام في العلاقات بين أفرادها، سواء في نظام الحكم أم الاقتصاد أم السياسية الخارجية أم سياسية التعليم أم غير ذلك من أنواع العلاقات بين المسلمين بعضهم مع بعض، أو بينهم وبين غيرهم من الشعوب والدول. والعلاج الصحيح لذلك هو استئناف الحياة الإسلامية وإقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الإسلام في الداخل وحمل الدعوة إليه في الخارج. والذي يحقق هذا هو حمل الإسلام في الطريق السياسي كمبدأ يتكتل المسلمون حوله كحزب سياسي، يربط بين أعضائه الثقافةُ الإسلامية بما فيها من عقائد وأحكام شرعية تعالج سلوك الأفراد وتنظم علاقات المجتمع. ومن أجل هذا قام حزب التحرير – وهو حزب سياسي مبدؤه الإسلام – يدعو لاستئناف الحياة الإسلامية، وإقامة الخلافة، وحمل قيادة الإسلام الفكرية إلى البشر أجمعين. وهو يعتمد الفكر الإسلامي الخالص المستند إلى عقيدة الإسلام كما جاءت في الكتاب والسنة، ويثقف الأمة بالثقافة الإسلامية التي تبرز فيها الناحية السياسية، وهو كونها معالجات للمشاكل التي تحدث في المجتمع وتنظم العلاقات بين المسلمين وبينهم وبين غيرهم من الشعوب والأمم. وقد طرح حزب التحرير هذا الثقافة الإسلامية في كتبه ونشراته حتى يدرسها المسلمون دراسة عميقة – حسب طريقة الإسلام في الدرس – حتى تتحول هذه الثقافة إلى مفاهيم تفعل فعلها في العقول والقلوب فتتحول إلى خلقٍ آخر، رهبان بالليل، فرسان بالنهار، يجاهدون في الله حق جهاده، ولا يخشون في ذلك لومة لائم.

      وبعد:

      فإن إنقاذ أمتنا الإسلامية لا يتأتى لنا – نحن المسلمين – إلا إذا رجعنا إلى الله وقوينا صلتنا به، واستمددنا العون منه، وتوكلنا عليه حق التوكل، وجعلنا نوال رضوان الله المثل الأعلى في هذه الحياة، فإن إنقاذ أمتنا إنما هو من أجل نشر دين الله، وإعلاء كلمة الله، وايصال الرحمة لخلق الله، وجلب السعادة لعباد الله، وهو يعني أن يُشْدَخَ يافوخ الكفر، وان يُحَطَّمَ رأس الطاغوت، وان يُسْحَقَ الإلحاد والضلال. وهذا كله لا يتم إلا بكفاح مرير بسلاح الفكر المستنير، وبجهاد صادق لإعلاء كلمة الله، وبيع الأنفس والأرواح في سبيل الله؛ ولذلك فإنه لا قوة لنا إلا بالله، ولا سند لنا إلا الله، فالله وحده هو الناصر المعين. وهو نعم المولى ونعم النصير.

والسلام على من اتبع الهدى.q

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *