العدد 348 -

السنة الثلاثون محرم 1437هـ – تشرين الثاني 2015م

الحجُّ أشهُرٌ معلوماتٌ والخلافةُ أحكامٌ مفروضاتٌ

بســم اللــه الرحمــن الرحيــم

الحجُّ أشهُرٌ معلوماتٌ والخلافةُ أحكامٌ مفروضاتٌ

أبو حنيفة  -الأرض المباركة فلسطين

 

أيها المسلمون، قال اللهُ تباركَ وتعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) جاءَ عِند الطبري قال: حدثنا ابنُ حُميدٍ قال: ثنا جريرٌ عن قابوس عن أبيه عن ابنِ عباسٍ قال: لما فرغَ إبراهيمُ من بِناءِ البيتِ قِيلَ له: أذِّن في الناسِ بِالحج، قال: ربِّ، وما يبلغُ صوتي، قال: أَذِّن وعَلَيَّ البلاغُ، فنادى إبراهيمُ: أيها الناسُ كُتِب عليكم الحجُّ إلى البيت العتيق فحُجُّوا، فسمعه ما بين السماءِ والأرض، أفلا ترى الناسَ يجيئونَ من أقصى الأرضِ يُلبُّون .

نعم أيها المسلمون، أذّنَ إبراهيمُ الخليلُ في الناس بالحج بعد أن فرغَ من بناء البيتِ فلَبِّى الناسُ من كل فَجٍّ عميقٍ، يقصدون البيتَ العتيقَ، على أقدامهم راجلين أو على كُلِّ ضامرٍ يركبون. واليوم تحملهم الطائراتُ والباخراتُ والحافلاتُ والقاطراتُ، تلهجُ ألسنتُهُم بـ «لبيكَ اللهم لبيك» … يجيئون من بلادٍ شتى، وينتسبونَ لأعراقٍ شتَّى، ويتحدثون لغاتٍ شتى، والنداء واحدٌ: لبيكَ اللهم لَبَّيك، لبيكَ لا شريكَ لك لبيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والملكُ، لا شريكَ لك… (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) أحكامُهُ مفهوماتٌ، تمتُّعٌ أو قرانٌ أو إفرادٌ، طوافٌ وسعيٌ ووقوفٌ في عرفة، ذِكرٌ للهِ عند المشعرِ الحرام، مبيتٌ في منى، ونحرٌ للهديِ، ورميٌ للجمرات، وحلقٌ أو تقصيرٌ، ثم إفاضةٌ ووداعٌ… تلكَ أحكامٌ ونُسُكٌ فقِهها المسلمونَ وحرصوا على تمامِها؛ ليعودوا من حجِّهِم وقد هدموا ما أسرفت به نفوسُهُم من ذنوبٍ .

أيها المسلمون: وكما أن الله تبارك وتعالى قال: ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) فإنه سبحانه قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) وكما أن إبراهيمَ الخليلَ قد أذَّنَ في الناسِ بالحج؛ فإن نَبِيَّكُم محمد  صلى الله عليه وسلم  قد أذّن في أُمته موعظةً ذرفتْ منها العيون ووجلت منها القلوب، كما عند الترمذي وغيره من طريق العرباض بن ساريةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «أوصيكُم بتقوى اللهِ، والسمعِ والطاعةِ وإن تأَمَّرَ عليكم عبدٌ، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً … « وكما أن الرسول  صلى الله عليه وسلم  حجَّ وأدى مناسك الحج، وقال: «خُذوا عني مناسككم» فإنه، صلوات ربي وسلامه عليه، أقام دولةَ الإسلام من قبل أن يفرضَ اللهُ على الناسِ الحجَّ … فأقام في الناسِ أحكامَ اللهِ جميعَها من غير نقصٍ ولا تدَرُّج، بل حُكمٌ بالإسلامِ كُلِّ الإسلام، فأحكامُ اللهِ تبارك وتعالى كُلُّها آخِذٌ رقابها بِرقابِ بعض… وبعد حَجَّةِ الوداعِ بِثلاثةِ شهور، انتقلَ النبي  صلى الله عليه وسلم  إلى الرفيقِ الأعلى؛ فكانت الخلافةُ هَمَّ الصحابةِ الأول، حيث قَدَّموا فرضَ نصبِ خليفةٍ للمسلمين يخلُفُ رسولَ الله  صلى الله عليه وسلم  على فرضِ تجهيزِ النبي  صلى الله عليه وسلم  ودفنِه، وعلى فرضِ بعثِ جيشِ أسامةَ بنِ زيدٍ إلى الشام، وكذلك قَدَّموا هذا الفرضَ الجليلَ على فرضِ محاربةِ المرتدين، كُلُّ ذلكَ حدثَ والصحابةُ منهم المـُجتمِعُ المـُـشتغِلُ في سقيفةِ بني ساعدةَ لنصبِ خليفةٍ للمسلمين، ومنهم الجالِسُ عند جُثمانِ النبي  صلى الله عليه وسلم  ومنهم الجالِسُ في بيتِهِ ينتظرُ أميرَ العُصَبِ خليفةَ رسولِ الله  صلى الله عليه وسلم ؛ ليخرجَ من السقيفةِ وقد بايعهُ أهل الحل والعقد بيعةَ الانعقادِ، فيُبايعوهُ هُم بيعةَ الطاعةِ. وهذا ما كان، فقد بايعَ المسلمونَ أبا بكرٍ الصديق خليفةً على السمعِ والطاعةِ، خليفةً يحكمهم بما أنزل الله، ويُجاهِدُ بهم أعداء الله لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا، وكلمةُ الذينَ كفروا السفلى، ولِتظلَّ الخلافةُ من بعدُ على مدى ثلاثةَ عشر قرناً كيانَ الأمةِ الجامع وحصنَها المنيعَ المانع، تنشرُ الخيرَ شرقاً وغرباً.

عِبادَ الله: إن فريضةَ الحجِّ تحيي في نفوسنا وجوبَ العملِ لإعادةِ دولةِ الخلافةِ التي هُدمت قبل حوالى مئةِ عام، ألا ترونَ أيها المسلمون أن إبراهيمَ الخليلَ، عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلام، قد ضَحَّى بِولدِهِ إسماعيل عندما رأى في المنامِ أنه يذبحهُ تلبيةً لأمرِ اللهِ، ففداهُ الله بِذِبحٍ عظيمٍ؟… ألا ترونَ أيها المسلمون أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قد ضَحَّى بالغالي والنفيس عندما التزَمَ بأمر ربه ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ ) ؟ فقامَ بِروحي وأبي وأُمي، يُنذرُ عشيرتَهُ، ويُنذرُ الناسَ كُلَّ الناسِ، وهو الذي بعثهُ الله رحمةً للعالمين وخاتِماً للنبيين… أنذر الناسَ وانطلق من مكةَ نقطةَ الانطلاق يدعو للإسلام، ويجابه الكفر وعقيدةَ الأصنام، ويعمل لقيام دولة الإسلام، والصحابةُ من حولِهِ كزرعٍ أخرجَ شطأهُ فآزرهُ فاستغلظَ فاستوى على سوقِهِ، كذلك يفعلون حتى لاقوا من الأذى في سبيل ذلك ما لاقوا، فصبروا واحتسبوا، ولم يُغِّيروا ولم يبدِّلوا، وعلى طريقةِ العملِ لقيام دولة الإسلام ثبتوا واستمروا… ثم كان طلبُ النُّصرةِ من بعدِ سنواتٍ من الصراعِ الفكريِّ والكفاحِ السياسيِّ تَبِعَهُ تحَجُّرٌ في المجتمعِ المكِّيِّ أَلزمَ النبِيَّ  صلى الله عليه وسلم  وبوحيٍ من الله أن يطلبَ النُّصرةَ من قبائلَ تحمي دعوتَه وأصحابَه، وتتبنَّى عقيدةَ الإسلامِ وشريعتَهُ ديناً ودستوراً لها، فتقومُ دولةُ الإسلامِ في تلكَ القبيلةِ وتكونَ تلكَ القبيلةُ التي قبلت نُصرةَ النبي  صلى الله عليه وسلم  نُقطةَ ارتكازٍ لهذه الدولة… وبعد صبرٍ ومُصابَرةٍ، وتصميمٍ ومُثابرةٍ على طلبِ النُّصرةِ مع ما فيها من مشاقٍّ كان أعظمُها ما لاقاهُ نَبِيُّ المرحمةِ من ثقيف أهل الطائف الذينَ أدموا قَدمَيهِ الشريفتينِ، كُلُّ هذا لم يَفُتَّ في عَضُدِهِ، صلواتُ ربي وسلامُهُ عليه، بل رجعَ إلى مكةَ معهُ زيدُ بنُ حارثةَ وهو يقول له: يا زيد، إن الله جاعِلٌ لما ترى فرجاً ومخرجاً، بعد ذلك كُله أنجز اللهُ وعده لرسولِه والمؤمنين، فكانت نُصرةُ الأوسِ والخزرجِ، وهم الأنصار، نُصرةً منيعةً، وتمت بيعةُ العقبةِ الثانيةِ في شعابِ مِنى حيث يرمي الحجاجُ جمراتِهِم يومَ النحرِ وفي أيامِ التشريق، تمت تلكَ البيعةُ المباركةُ في ليلةِ الرابعِ عشر من ذي الحجة، على رأس العام الثالث عشر من البعثة النبوية الشريفة، تلكَ البيعةُ التي أصابت الشيطانَ الرجيمَ في مقتلِهِ فأوجعتهُ فانتفضَ صارخاً: يا أهل الجباجب، أي المنازل، هل لكم في مُذمَّم، يقصد محمداً، والصُّباةُ معه قد أجمعوا على حربكم… فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  هذا أَزَبُّ العقبةِ ابنُ أُزيب، اسمع أي عَدُوَّ اللهِ، أما واللهِ لأفرُغَنَّ لك… ثم قال النبي  صلى الله عليه وسلم  لأصحابه الذين بايعوه: ارفعوا إلى رِحالكم. [رواه الحاكم وأحمد، بشيء من التصرف] ثم قامت، أيها المسلمون، بذلك دولة الإسلام في المدينةِ المنورة، فنِعمَ الدولةُ ونعمَ بانوها، بانيها رسولُ الله  صلى الله عليه وسلم  وصحبه الكرام .

أيها المسلمون: عن أبي أُمامةَ قال: عَرضَ لِرسولِ اللهِ  صلى الله عليه وسلم  رجلٌ عند الجمرةِ الأولى، فقال: يا رسول الله، أيُّ الجهادِ أفضل، فسكتَ عنه النبي. فلما رمى الجمرةَ الثانيةَ سأله ثانيةً، فسكت عنه. فلما رمى جمرة العقبةَ الثالثة، وضع رِجلَهُ في الغرزِ لِيركبَ فقال الرسول  صلى الله عليه وسلم  : أين السائل؟ قال: أنا يا رسول الله، قال: كلمةُ حقٍّ عند ذي سلطانٍ جائرٍ. [ أخرجه ابنُ ماجة وأحمد، بشيء من التصرف].

نعم يا عباد الله، وهذا نبيُّكُم وهو يؤدي مناسك الحج، يُبيُّن أعظمَ الجهادِ، وأنه كلمةُ حقٍّ عند ذي سلطانٍ جائرٍ، وحكامُ هذا الزمان حكامٌ طواغيت أحَلُّوا أُمتَهم دار البوار، وجعلوا للكافر على المسلمين كُلَّ سبيل، حتى صرنا أضيعَ من الأيتامِ على مائدةِ اللئام… عَطَّلوا شرعَ الله، وحكموا بالدساتيرِ العلمانيةِ الكافرة وقد أُمروا أن يكفروا بها، قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) وترى هؤلاء الحكامِ أحرصَ على حربِ الإسلام والمسلمينَ من الكفار أنفُسِهِم… فهل يليقُ بخيرِ أُمةٍ أُخرجت للناس أن تظل تَبعاً للميتةِ والمـُنخنقةِ والموقوذةِ والمـُتَردِّيةِ والنطيحةِ من هؤلاء الحكام؟ أم هل يليق بهذه الأمة الشاهدة، الأمةِ العدل، أن تستجدي رحمةَ العبدِ أوباما رئيس البيتِ المـُجَلَّلِ بسوادِ الجرائمِ التي تنأى عنها الوحوشُ الكاسرة؟!

أيها المسلمون: إنكم خيرُ أمةٍ أخرجت للناسِ، كذلك كُنتُم عندما حكمتم بشرع ربكم ووحدتم صفكم في دولة خلافة واحدة، وكذلك ستُرجعون خير أمةٍ عندما تستعيدون سلطانكم وتقيمون خِلافَةً راشدةً ثانيةً على منهاج النبوة، فتفوزون بِعِزِّ الدنيا سادةً تسوسون البشريةَ بعدل الإسلام وعِزِّ الآخرةِ، تسرحون وتمرحون في سرور وحبور جناتِ عدنِ التي أعدها الله لعبادِهِ المـُسارعين لرضوانِه ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ). وهذه مكةُ المكرمةُ قد جمعت الملايينَ من أمةِ الإسلامِ، أبيضَهُم وأسودَهُم، عربيَّهُم وأعجميَّهم، شرقيَّهُم وغربيَّهم، جمعتهم أُمةً واحدةً رغم أنفِ سايكس وبيكو، لأيامٍ معدوداتٍ، تجسيداً لوحدة هذه الأمة وتهيئةً لوحدتها واجتماعها في كيانِ دولةِ الخلافة الواحد، فأين المسارعون لرضوان الله تبارك وتعالى؟ أين الذينَ يقذفون كلمةَ الحقِّ في وجوهِ هؤلاء الحكام النواطير؟ أين العاملون المخلصون الذين يصلون ليلَهم بِنهارِهم وهم يعملون لإقامةِ خلافةِ المسلمين؟ أين أهل النُّصرةِ الذين يُعيدون سيرةَ الأنصار الأولين، والذين يقلبون الطاولة في وجه أمريكا الكالح وفي وجوه دول الكفر أجمعين، فيعيدون صياغةَ التاريخ بسطورٍ تفيضُ عِزةً؟. هذا نداؤنا لكم

أيها المسلمون عامةً، ويا أهل القوةِ والنُّصرةِ خاصةً، نناديكم في أشهُرِ الحج الحُرُمِ، فهل أنتم مُجيبون لله ولرسوله؟.q

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *