العدد 346 -

السنة الثلاثون ذو القعدة 1436هـ – تموز / آب 2015م

أهمية اللغة العربية وأهمية إحيائها محمد الصادق الترهوني

بسم الله الرحمن الرحيم

أهمية اللغة العربية وأهمية إحيائها

محمد الصادق الترهوني

 

إن الاهتمام باللغة العربية وتعلُّمَها وتعليمَها ونشرها من أولى الخطوات في نهضة الأمة الإسلامية؛ ذلك لأن اللغة العربية هي مفتاح العلوم الإسلامية كلها، بها نفهم القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة والسيرة العطرة وكتب الفقه والتفسير والتاريخ الإسلامي وكل تراث الأمة وحضارتها.

وإن أعداء الإسلام الذين يحاربون اللغة العربية إنما يحاربونها لأنهم يعلمون تماماً أنها الوسيلة الوحيدة لفهم هذه العلوم التي ذكرناها فهماً صحيحاً، وأنها وعاء حضارة الأمة الإسلامية وتاريخها، وأنها من عوامل وحدتهم على الإسلام. نعم، إن أعداء الإسلام يعرفون مثل ما نعرف أن أبناء الإسلام إذا فقدوا فهم اللغة العربية فقدوا فهم الإسلام بشكل صحيح، واذا فقدوا فهم الإسلام هذا فقدوا أمتهم وكيانهم وحضارتهم، وفقدوا عزَّتهم وكرامتهم، ثم فقدوا أنفسهم وبلادهم وأصبحوا تابعين مقهورين. وهذا، مع الأسف، ما يرغبه أعداء الإسلام ويعملون من أجله في كل زمان، وبكل الوسائل والأساليب… في مناهج التعليم التي وضعها المستعمرون في البلاد الإسلامية ليضلُّوها بها، وفي البرامج الإعلامية والدعائية المختلفة التي يحرفونهم بها ،بل وفي الكتب والمؤلفات والأطروحات الدراسية التي يصدرها بعض أبناء المسلمين في رسائلهم الجامعية وأبحاثهم التاريخية والاجتماعية والتي يعدُّونها تحت إشراف أساتذة غير مسلمين ولا يضمرون الخير للإسلام والمسلمين، ولا للغة العربية والحضارة الإسلامية… بل يضمرون العداوة للإسلام ولحضارته ولتاريخه، ويشككون أبناء المسلمين في قدرة اللغة العربية على مواكبة الحياة واستيعاب علوم العصر والتفاعل مع مستجدات تقدم البشرية.

إن مدى تقدم وانتشار وازدهار أية لغة من لغات الشعوب والأمم في هذا العالم يتوقف على مدى وجدية واهتمام أبناء هذه اللغة أو تلك بلغتهم واعتزازهم بها وحبهم لها. إن اللغة هي لسان المرء ووافد عقله، بها يعبر عن أفكاره وثقافته وهويته، كما قال الشاعر في هذا المعنى :

رأيت لسان المرء وافدَ عقله     وعنوانَه فانظر بماذا تُعَنْوِنُ.

إن المسلم المخلص لدينه وأمته لا بد من أن يكون مخلصاً لهذه اللغة العظيمة لغة القرآن الكريم والسنة المطهَّرة، ولغة أهل الجنة. ولا بد من أن يحب هذه اللغة لأنه يحب الله الذي أنزل وحيه الكريم على رسوله الأمين بلسان عربي مبين، ولأن المسلم يحب هذا الرسول العربي الكريم الذي أوتي جوامع الكلم، والذي هو أفصح من نطق بهذه اللغة العظيمة صلى الله عليه وسلم ـ وإذا كانت تلك هي أهمية اللغة للبشر جميعاً، وكانت هذه هي أهمية اللغة العربية على وجه الخصوص، ومكانتها عند المسلمين باعتبارها لغة وحي الله ولغة رسوله الكريم ولغة فقههم وحضارتهم وتاريخهم، إذا كان الأمر كذلك فكيف لا يحب المسلمون هذه اللغة؟ وكيف لا يعنُون بها ويحفظونها ويعملون على تعلُّمها وتعليمها ونشرها في أصقاع الدنيا كلها؟!. وإذا كانت هذه هي أهمية اللغة العربية لكل مسلم، مهما كان جنسه ولونه، فكيف بأهميتها لمسلم عربي من قوم هذه اللغة، وهي لغته الأصلية، ولغة أهله وعشيرته، ولغة آبائه وأجداده؟!.

إن هذه اللغة العربية الجميلة العظيمة إذا أريد لها التقدم والازدهار والانتشار؛ فلا بد من أن تؤخذ مقرونة بهذه المعاني والمفاهيم، مربوطة بنظرة المسلم إلى دينه الإسلامي الحنيف، وإلى القرآن الكريم والسنة المطهرة، وإلى الحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي باعتبار أن اللغة العربية هي التي نفهم بها هذه الموضوعات، وهي جزء لا يتجزأ منها، وهي التي نفهم بها النصوص والأحكام الشرعية المختلفة، ونفرق بها بين النصوص القطعية والظنية، ونستنبط بها الأحكام والمسائل الفقهية اللازمة لحياة المسلمين في كل زمان ومكان؛ لتظل صلاحية الإسلام إلى يوم القيامة كما أراده الله، وكما بيَّنه في وحيه الكريم في هذه النصوص وباللسان العربي المبين. فاللغة العربية كما هو معروف هي شرط من شروط الاجتهاد، وهي أداة الفقهاء والعلماء والمجتهدين ووسيلتهم إلى فهم واستنباط الحكم الشرعي في كل ما يتعلق بحياة الناس، وفي كل ما يجدّ من مسائل ومشكلات إلى يوم القيامة. إن هذا الربط بين اللغة العربية والناحية الفكرية والروحية عند المسلم هو الذي يخلق لديه الدافع والرغبة الحقيقية للاهتمام بهذه اللغة وتعلُّمها ومحبَّتها، ومن ثم فإن محبته لهذه اللغة وإتقانه إياها يزيد في ارتباطه بدينه وعقيدته، ويزيد في فهمه لكتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويزيد في اطلاعه واستيعابه لتاريخ وحضارة أمته. إن هذا التلازم بين اللغة العربية والدين الإسلامي هو الذي يوجد الحرارة والجدية في تفاعل المسلمين مع دينهم ولغتهم وتراثهم، ومن ثم يؤدي إلى نهضة هذه الأمة الكريمة، وعودتها إلى الحياة من جديد قوية عزيزة تبني الحضارة وتقود العالم إلى شاطئ الأمان وتحقيق سعادة الإنسان.

وإننا لا نبالغ إذا قلنا إن هذا التدني في مستوى الاهتمام باللغة العربية عند كثيرين من المسلمين مرجعه إلى عدم الربط بين اللغة والدين، ومرجعه كذلك إلى هذا الفتور في المشاعر الإسلامية عند الكثيرين. بالإضافة إلى هذا الإهمال المتعمَّد وغير المتعمَّد في أمر اللغة من طرف وسائل الإعلام المختلفة والمؤسسات التعليمية في البلدان الإسلامية، ومن طرف الحكومات في هذه البلدان. إنه لأمر محزن حقاً أن نرى هذا الإهمال لأمر اللغة حتى عند أهلها الناطقين بها، وعند هذه الأقطار والدويلات التي تدَّعي أنها عربية وقومية!!

إنه لأمر محزن ومخجل أن تكون مكانة اللغة العربية عند العرب والمسلمين على هذا النحو من التدنِّي والإهمال، وأن يفرطوا بهذه النعمة والميزة التي وهبهم الله إياها في الوقت الذي نرى فيه إخوتنا المسلمين الأعاجم يتحرَّقون شوقاً إلى تعلُّم هذه اللغة وإتقانها؛ ليقرؤوا بها كتاب ربهم العزيز، وأحاديث رسولهم الكريم وتراث أمتهم الخالد… وإنه لأمر محزن ومخجل كذلك أن نرى العرب ينفقون مئات ملايين «الدولارات» بل مليارات «الدولارات»من أجل أن يعترف باللغة العربية كلغة رسمية في ما يسمى «منظمة الأمم المتحدة» وفي «مجلس الأمن» وفي «المنظمات الدولية والإقليمية» ثم نرى بعد ذلك بعضاً من حكام العرب وكثيراً من مسؤوليهم ومثقفيهم يرطنون باللغات الأعجمية في هذه المنظمات الدولية ذاتها، بل ويفعلون ذلك في عقر ديارهم في كثير من الأحيان عندما يزورهم بعض الضيوف الأجانب، ويحلو لهم ذلك أكثر عندما يكونون هم ضيوفاً على الأجانب. وما هذا السلوك إلا دليل على عدم الاعتزاز بهذه اللغة أو على عدم القدرة على إتقانها والتحدث بها، أو على شعور بالنقص ومحاولة الظهور أمام الأجانب بمظهر العنصرية والحداثة وإتقان لغات الأمم الراقية على حد زعمهم، وكل ذلك مخجل ومعيب.

إن إتقان لغات العصر ولغات العلوم الحديثة شيء جميل ومطلوب، ولكنه يكون أجمل إلى جانب إتقان اللغة العربية، بل يكون أكثر إتقاناً وإجادة لأن إتقان العربية يساعد على إتقان اللغات الأجنبية، وهذا شيء ثابت ومعروف في الواقع يعرفه الذين درّسوا العربية ودرّسوا تلك اللغات. هذا من جهة ومن جهة أخرى، أليست اللغة العربية من لغات العصر ومن لغات العلوم الحديثة والقديمة على السواء؟!. ألم تكن في وقت ازدهارها لغة العلوم العصرية ولغة الحضارة الخالدة التي سادت قروناً طويلة، وكانت فيها زهرة الدنيا وقِبلة العلماء من كل جنس ومن كل ملة؟!. وهذا القصور والتقصير الذي نراه مع الأسف في اللغة العربية وعدم مواكبتها لعلوم العصر الحديث، أليس ناشئاً عن تقاعس أبناء هذه اللغة وعدم إتقانهم إياها واعتزازهم بها وفرضها في واقع الحياة العلمية والثقافية والأدبية والتشريعية وغيرها؟!.

إن أمر النهوض باللغة العربية لا يتحقق بجهود فردية محدودة حتى مع وجود الحماسة والإخلاص لدى هؤلاء الأفراد، وإنما يتحقق هذا الأمر بوجود أو إيجاد دولة تطبق الإسلام، وتبنِّي هذه اللغة بشكل مخلص وجاد في سياستها العامة، وفي مناهجها التعليمية المختلفة، وفي برامجها وسياستها الإعلامية والثقافية، وفي جميع مناحي ونشاطات الحياة الاجتماعية؛ حتى تصبح اللغة العربية موجودة بشكل طبيعي في حياة كل الناس يتكلمها الصغار والكبار في البيت، وفي المدرسة والجامعة والمسجد، وفي المصنع والسوق، وفي كل ناحية من ميادين حياة المجتمع. وعندما أقول إن هذا الأمر لا يتحقق إلا بوجود دولة، فإنه لا يعني أنني أقلل من جهود الأفراد أو أن الأفراد غير معنيين بأمر اللغة، بل أعني أن أمر اللغة لا يتم إلا بسياسة عامة، كما ذكرت سابقاً، تطبقها الدولة على جميع أفراد المجتمع، وتعدُّ لهذا الشأن من الخطط والبرامج ما يحقِّق الهدف، وما يجعل هذه الخطط والبرامج تؤتي أكلها وثمرتها في تعلم اللغة وتعليمها ونشرها وجعلها واقعاً مُعاشاً بين الناس كتابة وقراءة ومحادثة واستماعاً، وهذا يعني أن كل فرد معني بهذا الأمر، ومطلوب منه أن يتعلم هذه اللغة ويتقنها حتى يمكن له أن يعيش في المجتمع ويتفاعل معه.

إن هذا الموضوع، أي موضوع اللغة العربية، موضوع واسع وكبير وخطير، وهو يحتاج إلى أبحاث طويلة ودراسات عميقة جادة من علماء مجتهدين مختصين في علوم اللغة المختلفة، وهم كثر بهذه الأمة ـ علماء صادقين مخلصين لدينهم وأمتهم ولغتهم، يسخرون حياتهم وجهودهم وعلمهم لرفعة هذا الدين الحنيف، وتقدم هذه الأمة الكريمة، ونشر هذه اللغة الجميلة … علماء يبتغون من عملهم وجه الله ويرجون ثواب الآخرة، ويستسهلون الصعب ويسترخصون الحياة في سبيل عزة دينهم وكرامة أمتهم ونهضتها وسيادتها.

إن اللغة ، ككائن حي، تحيا بحياة أبنائها، وتقوى بقوتهم، وتعز بعزتهم، وتسود بسيادتهم، وتتجدد مع الأجيال… إن هذه اللغة ، ككائن حي، روحها القرآن الكريم، وجسمها الإسلام العظيم، وأعضاؤها أبناء الإسلام جميعاً الناطقون بها الناصحون لها… إن هذه اللغة ستبقى، بحفظ الله، ما بقي القرآن، وستعيش ما عاش الإسلام، وستنمو وتتجدد ما تجددت الأجيال والحياة.

 وفي الختام أقول هذه بعض الأفكار والخواطر لهذا الموضوع الكبير الذي لا توفيه هذه الوريقات المعدودة حقه في التعبير عن أهميته والإشارة إلى الأفكار الأساسية فيه؛ لأنه يحتاج إلى جهود كل أفراد الأمة، وما هذه الوريقات إلا فهم متواضع لبعض هذه الأفكار من شخص مقصر في حق هذه اللغة العظيمة، ولكنه يحبها. ويركض وراءها ليظفر منها ببعض الدرر وبنظرة رضا وهي تهرب منه نافرة؛ ربما لأنها ترى فيه رجلاً شيخاً سجيناً ـ وهي لا تحب أن تكون حبيسة هذه الجدران، بل تحب أن تكون حرة طليقة تطوي الأرض وتجوب الآفاق، وهي كذلك تحب أن تعيش دائماً شابة قوية لأنها تحيا وتتجدد مع كل الأجيال. فعشاق هذه العربية الجميلة الساحرة يشيخون ويهرمون ويموتون وهي لا تشيخ ولاتهرم ولا تموت؛ لأنها لغة الدنيا والآخرة، وخالدة بخلود روحها القرآن الكريم. والله المستعان وله الحمد أولاً وآخراً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *