العدد 345 -

السنة الثلاثون شوال 1436هـ – تموز/ آب 2015م

التضليل السياسي بين محور الممانعة والمحور القومي العربي

بسم الله الرحمن الرحيم

 

التضليل السياسي بين محور الممانعة والمحور القومي العربي

حـــســن الـــحـــســـــــن

hasan.alhasan@gmail.com

يعتبر التضليل السياسي عاملاً أساسياً في إدارة الصراع بين الدول وعنصراً فعالاً في إنجاح مشاريعها، بل إن الخداع في هذا المجال يعتبر فناً من فنون السياسة التي تعتمدها الدول لتحقيق مصالحها؛ لذلك تناور الدول وتعتمد إخفاء الحقائق لتحقيق أجنداتها، وهو ما عبَّر عنه رئيس وزراء بريطانيا الأسبق وينستون تشرشل بقوله لستالين أثناء لقائهما في طهران إبان الحرب العالمية الثانية: «إن الحقيقة ثمينة لدرجة أنه لا بد من حمايتها غالباً بحرس من الأكاذيب».

وتعتبر الدعاية المعاكسة من أهم أساليب الدول لتضليل الرأي العام وصناعة العملاء وتمرير المخططات؛ لهذا تقوم الدول بالترويج المضلل لواقع عملائها لدرجة أنها قد تتهجم عليهم وتتحرش بهم على الملأ، بل وقد تفرض عليهم حصاراً وتهدِّدهم بالإزالة وتحتضن معارضين لهم وتصطنع بين الفينة والأخرى معارك مرسومة بإتقان لتعمية العيون عن هؤلاء العملاء ولتعزيز مكانتهم وتسليط الأضواء عليهم وإبرازهم كأبطال ملهمين، ما يساعد هؤلاء العملاء في استقطاب قوى المجتمع وفي تهميش وإقصاء وضرب خصومهم، ويحقق لهم النجاح في أدوار العمالة المرسومة لهم في إطار المشاريع التي ترسمها الدول المهيمنة.

لذلك فإن ثناء الدول الاستعمارية على البعض أو التهجم عليهم لا يكفي في تحديد حقيقة وضعهم، بل قد يكون العكس هو المقصود، وذلك على نحو قول أحد السياسيين العرب «إن الذي تريد أميركا إتلاف سمعته وتنفير الناس منه في بلادنا تثني عليه وتدندن لصداقته معها». وهذا صحيح تماماً في غالب الحالات، فأميركا دولة استعمارية متوحشة لا يتوخى صداقتها إلا من يريد أن يكون لها شريكا أو عبداً في نهب العالم واستغلاله، فيما يُعجب الناس بكل من يتصدى لها ويقاوم عجرفتها وعنجهيتها. لذلك اقتضت مصلحة أميركا -في أزمنة وأمكنة مختلفة – في صناعة عداوات وهمية بينها وبين عملائها بغية إنجاح أدوراهم، وقد ضربنا مثالاً على ذلك في مقال سابق تحت عنوان دور «محور الممانعة» في الاستراتيجية الأميركية يمكن مطالعته في موقع مجلة الوعي على العنوان التالي .

إن إدراك واقع دور ما يسمى بـ«محور الممانعة» يكشف واقع الخدع التي تستعملها أميركا لإبراز عملائها عبر منحهم رداء الشرعية الثورية أو الشعبية أو القومية أو الدينية. وفي مقالنا هذا سنتعرض للنموذج القومي العربي الناصري الذي حوَّل مصر إلى دار خراب ومكَّن لأميركا في مصر وغيرها من بلدان المنطقة.

النموذج القومي العربي الناصري

اتخذت أميركا بعيد الحرب العالمية الثانية قرارها الاستراتيجي باقتحام السياسة الدولية، فسعت جاهدة في تصفية نفوذ الاستعمار الأوروبي المنتشر بكثرة في أفريقيا وآسيا والحلول مكانها وممارسة دورها الاستعماري في نهب الثروات واستعباد الشعوب الضعيفة. في ذلك الوقت كان الاتحاد السوفياتي الذي يمثل الفكر الاشتراكي قد نجح في إيجاد أجواء قوية ضد الاستعمار، الأمر الذي استغلته أميركا بشدة للترويج لفكرة تحرر الشعوب واستقلالها واتخذت من ذلك سبيلاً لإشعال الثورات وترتيب الانقلابات ضد النظم الحاكمة التابعة لأوروبا لا سيما بريطانيا وفرنسا. وقد عززت أميركا تحركاتها في هذا المجال لا سيما بعد الاتفاق مع الاتحاد السوفياتي على تقاسم النفوذ في العالم، وقد تضمَّن الاتفاق رسم دوائر للتعاون والتنافس فيما بينهما إضافة إلى توافقهما على القضاء على النفوذ الاستعماري الأوروبي في العالم.

بهذا كان الموقف الدولي محكوماً بالتوافق بين القطبين، ما أدى إلى تعاونهما في كثير من القضايا الدولية عقوداً طويلة. ومن غير إدراك المراقب لهذا الوضع، فإنه سيتيه في تفسير كثير من الأحداث، مثلاً  كيف تقف أميركا الرأسمالية (رأس المعسكر الغربي الحر) والاتحاد السوفياتي الاشتراكي (رأس المعسكر الشيوعي) سوية ضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م ضد بريطانيا وفرنسا و(إسرائيل)؟ فيما يجد المدرك لواقع الموقف الدولي ذلك مستساغاً جداً، فهو من مقتضيات التفاهم الذي جرى بينهما.

وبالتطرُّق لبعض التفاصيل هنا، نجد أن انقلاب الضباط الأحرار وكل المراحل التي سار فيها لاحقاً كان متناسقاً ومنسجماً مع الموقف الدولي. فأميركا هي التي رتَّبت انقلاب الضباط الأحرار في مصر عام 1952م ضد نظام الملك فاروق المرتبط ببريطانيا. حيث ألبست أميركا الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر عباءة الاستقلال والتحرر الوطني والقومي لترسيخ مكانتهم لدى الناس وتكوين حاضنة شعبية قوية لهم إضافة إلى صناعة موجة من المد الثوري في المنطقة يتزعمها جمال عبد الناصر ليتسلل من خلال هذه الموجة نفوذ أميركا إليها وينتزعها من الاستعمار البريطاني والفرنسي حينها. وتمكَّنت أميركا من خلال اتباع أساليب سياسية وعسكرية ودعائية خبيثة وخادعة وماكرة من تلميع عبد الناصر ودفعه إلى الواجهة كبطل قومي ينازل الاستعمار في كل الجبهات، وأشركت الاتحاد السوفياتي حينها في دعمه وتسليحه وحمايته، لا سيما عندما أوشك على السقوط إبان العدوان الثلاثي الشهير عام 1956م، ما جعل عملية كشف عمالته أمراً صعب المنال لاصطدام هذه الحقيقة بمشاعر الناس ورغباتهم الجارفة التي تتطلع إلى الالتفاف حول «القائد الملهم والقائد المخلص!».

إن عدم إدراك الموقف الدولي وإدراك أهميته عند كثيرين، جعل من الدعاية القوية التي صنعتها أميركا لعبد الناصر وألهبت بها مشاعر الجماهير الساحقة من العرب ردحاً من الزمن سبباً لتضليل الناس بكل سهولة، بمن فيهم المثقفين والناشطين في العمل السياسي. بل إن آثار هذه الدعاية ما زالت قائمة إلى أيامنا هذه، ما يدفع الكثيرين إلى إنكار عمالة عبد الناصر لأميركا بل ويستخفون بهذه الدعوى ويعتبرونها تهمة باطلة نابعة من نظرية المؤامرة الموهومة، بل ويتغنون بـ «أمجاده» رغم كل الويلات التي جرها على الأمة، ورغم انكشاف عمالته لأميركا كحقيقة صلبة لا شك فيها.

وبالرجوع قليلاً إلى بعض الشواهد، نجد أن المسألة ارتفعت من مستوى التحليل إلى مستوى المعلومات الموثقة حول علاقة عبد الناصر بأميركا. فقد أوضح الرئيس المصري الأسبق أنور السادات في كتابه الذي تم نشره إبان حكم عبد الناصر نفسه سنة 1957م بعنوان: «يا ولدي، هذا عمك جمال» طبيعة علاقة الضباط الأحرار بأميركا حيث يقول : «فمن أول يوم لبَّـينا دعوة المستر كافري (سفير أميركا في القاهرة) التي دعانا فيها إلى العشاء وذهبنا جميعاً (مجلس قيادة الثورة) إلى منزله قبل أن يعلم الناس في مصر والعالم من هم رجال ثورة مصر، في الوقت الذي قاطعنا فيه السفارة البريطانية تمام المقاطعة، حتى إن المستشار الشرقي بها كان يبحث ويحاول أن يصل إلى معرفة أشخاصنا… كان هذا في الوقت الذي كان السفير الأميركي دائم الاتصال بنا».

ويشرح أنور السادات في مذكراته كيف تدخلت السفارة الأميركية في تأمين جلاء الملك فاروق عن مصر بدل التدخل لمصلحته لإنهاء الانقلاب، وكيف أن الضباط الأحرار يشعرون بالعرفان نحو أميركا لما قدَّمته من مساعدات أدَّت في نهاية الأمر إلى توقيع اتفاقية الجلاء مع بريطانيا.

كما يثمن السادات وقوف أيزنهاور رئيس أميركا وقفة حازمة ضد الهجوم الثلاثي (بريطانيا فرنسا و(إسرائيل) عام 1956م) ضد مصر. والسادات هذا كان من أقرب الناس لعبد الناصر في حياته إلى درجة تعيينه إياه نائباً له، فخلفه في موقع الرئاسة، وكان السادات على عكس ناصر واضحاً وصريحاً في علاقته بأميركا لدرجة أنه كان يبرر سيره معها بأنها تملك 99 بالمئة من أوراق اللعبة في الشرق الأوسط.

في الإطار نفسه، نشر الصحافي المعروف من جريدة «اللوموند» الفرنسية جان لاكوتور كتاباً أسماه «حياة من المقابلات» روى فيه أن وزير خارجية فرنسا الأسبق كوف دو مورفيل قال له أثناء لقائه به عام 1953م -وكان سفير فرنسا في القاهرة – «إن الذي لا أفهمه هو وقوع الضباط الأحرار -وهم ضباط طيبون فيما يبدو – في أحضان الأميركيين!».

 كما يذكر السياسي السوري المعروف أكرم الحوراني (نائب الرئيس عبد الناصر زمن الوحدة بين مصر وسورية) في مذكراته: «إن تحقيقات المحكمة المختصة بملف العصيان العسكري الذي قاده الضابط المحسوب على عبد الناصر جاسم علوان عام 1962م في حلب، المطالب بإعادة الوحدة التي انفرط عقدها مع مصر، إن تلك التحقيقات أدانت مساهمة القنصلية الأميركية في حلب بتحريض الناس على تأييد العصيان وتوزيع صور جمال عبد الناصر فيها، الأمر الذي دفع الحكومة السورية للمطالبة بإنهاء خدمات القنصل الأميركي».  كما أكد الحوراني أن خروشوف رئيس الاتحاد السوفياتي قد وجه كلاماً قاسياً لعبد الناصر حول ارتباطه بالغرب في أول لقاء لهما في موسكو وكان الحوراني نفسه حاضراً فيه.

 ومع أن عبد الناصر والضباط الأحرار وانقلاب 1952م بات جزءاً من حقبة سياسية ماضية، إلا أن آثار ذلك التضليل وتداعياته المؤلمة ما زالت قائمة ليومنا هذا، كما أن إدراك واقعه ضمن طريقة فهم صحيحة يصلح نموذجاً لفهم الأحداث السياسية بشكل صحيح. ولو كان هناك وعي صادق وحقيقي على طبيعة هذا الواقع لما تمكنت أميركا من انتزاع مصر من بريطانيا وتحجيم القوى المناوئة لها وترسيخ نفوذها في مصر لعقود طويلة إلى درجة بات كل رئيس يأتى بعد عبد الناصر يجاهر بعلاقته الوثيقة بالولايات المتحدة، وإلى اعتبار أن أمن مصر جزء من الأمن القومي الأميركي، كما بات الجيش المصري على ارتباط مستمر ومباشر بهيئة الأركان ووزارة الدفاع الأميركية التي تقوم على تسليحه وتدريبه ووضع خطط تطويره وترتيب شؤونه.

بالخلاصة، إن التضليل السياسي جزء لا يتجزأ من سياسات الدول، ولا يعني هذا اعتبار أن كل ما يقع أمام أعيننا مجرد مؤامرة أو عملية تضليل بالضرورة، إنما يعني الحاجة إلى تحليل الواقع ومحاكمته استناداً إلى طريقة صحيحة في بناء الفهم السياسي، أي بالطريقة التي تخضع تفسير الأحداث إلى رؤية سياسية تعتمد فهم القضايا الدولية بعيداً عن العواطف الشخصية واستناداً إلى فهم سليم للموقف الدولي وفهم معطيات الواقع والمعلومات المتعلقة به بدلالاتها في سياق الخطط المرسومة للقوى الكبرى صاحبة التأثير في الأحداث الجارية.q

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *