أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم
4 ساعات مضت
المقالات
42 زيارة
بهاء الدين الحسيني
في زمنٍ تهاوت فيه القيم وتكاثفت فيه الغفلات، تظلُّ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نبعًا لا ينضب، ورياحينَ تفوح منها أنسامُ الجنة. فكلُّ خُلُقٍ كريمٍ في البشر إنما هو ظلٌّ من ظلالِ خُلُقه، وكلُّ نورٍ في طريق الصالحين إنما هو قبسٌ من نوره صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمةً للعالمين.
جلال الذكر واستمداد العون
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نسي شيئًا، وضع جبهته في راحته الشريفة، وقال: «اللهم ذكِّرني ما نسيت، يا مُذكِّر الشيء وفاعله، ذكِّرني ما نسيت» ، دعاءٌ يكشف أدبًا رفيعًا في التوجّه إلى الله عند أدقّ أحوال الإنسان. فهو صلى الله عليه وسلم لا يعتمد على ذاكرته وحدها، بل يربط كلّ توفيقٍ بالله الذي لا يضلّ ولا ينسى. وهكذا يعلّمنا أن الذكرَ في مواطن النسيان عبادة، وأن الاستعانةَ بالله هي مفتاح العلم والهداية.
سُنَن التعامل والوفاء
من سنته صلى الله عليه وسلم ردُّ القرض، وهو تسليم الشيء بشرط إرجاع مثله، والعارية، وهي أخذ الشيء للانتفاع به ثم ردّه إلى صاحبه. وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن خياركم أحاسنكم قضاءً» (رواه مسلم)، أي أتمّكم وفاءً وأدقّكم أداءً. وفي هذا تعليمٌ بليغ بأن الوفاء في المعاملات جزءٌ من الإيمان، وأن من استقامت ذمته استقام دينه، وأن الأمانة ليست في العقود الكبرى وحدها، بل في كلّ صغيرةٍ من شؤون الحياة.
كما جاءت سنته صلى الله عليه وسلم بقرى الضيف – أي إكرامه وتطييب قلبه – فقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» (متفق عليه). فإكرام الضيف ليس عادة اجتماعية، بل عبادةٌ خالصة تُعبّر عن سلامة القلب وكرم النفس.
روح الذكر والاستعانة
وكان صلى الله عليه وسلم يُكثِر من قوله: «لا حول ولا قوة إلا بالله»، وهي كنز من كنوز الجنة، كما وصفها في الحديث الصحيح (رواه البخاري). هذه الكلمة ليست مجرّد تكرارٍ على اللسان، بل إعلانُ تسليمٍ كاملٍ لله في كلّ حركةٍ وسكون. فمن قالها بصدقٍ أراح الله قلبه من ثِقَل التكليف، وأبدله عجزَهُ حولًا، وضعفَهُ قوةً.
رحمته بالناس وأدبُ اللقاء
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآه أحدٌ يصلّي، فجلس ينتظره، خفّف صلاته وأقبل عليه، وقال برفقٍ: «ألك حاجة؟»، أيّ قلبٍ هذا الذي لا يشغله مناجاة ربّه عن قضاء حاجة محتاج؟! لقد جمع صلى الله عليه وسلم بين العبادة والخدمة، بين الصلاة والتواضع، بين الخلوة بالله والعناية بخلقه. وهكذا يعلّمنا أن العبادة الحقّة لا تُقصي الناس، بل تحتضنهم.
النظافة والجمال من سنته صلى الله عليه وسلم
وكان صلى الله عليه وسلم يحبّ الطيب والنظافة، ويقول: «إن الله جميل يحب الجمال» (رواه مسلم). ومن سنته صلى الله عليه وسلم تقليم الأظفار، وتنشيط الشعر، وإزالة شعر الإبط والعانة، ودفن الشعر والظفر والدم؛ تأديبًا للنفس على الطهارة الظاهرة والباطنة معًا. وكان يكتحل بالإثمد، وهو كحلٌ معروف في الحجاز يقوّي البصر ويزيد العين نورًا.
وكان لا يعرض له طيب إلا تطيّب، يحبّ المسك والعود وسائر الطيب، حتى قال أنس رضي الله عنه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يردّ الطيب» (رواه البخاري). فالجمال عنده صلى الله عليه وسلم عبادة، والنظافة من الإيمان، والطيب سكينةٌ تملأ المكان كما تملأ القلوب.
جمعة النور والطِّيب
وإذا كان يوم الجمعة ولم يكن عنده طيب، دعا بعض نسائه فصبّت في الماء، ثم وضعه على وجهه الشريف؛ ليُظهر الفرح هذا اليوم العظيم الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «خير يومٍ طلعت عليه الشمس يوم الجمعة» (رواه مسلم).
وكان يقصّ شاربه ويقلّم أظفاره قبل خروجه إلى الصلاة، ويتطيب بأجمل ما يجد، حتى تبقى حسناته جاريةً ما دامت رائحة الطيب عليه.
أدب الكلام وبلاغة البيان
وكان صلى الله عليه وسلم إذا حدّث حديثًا أو أجاب عن سؤالٍ كرّره ثلاثًا حتى يُفهَم عنه، كما ورد في الصحيح. وهذا من أدب التعليم والرحمة بالسامع، ليعي المعنى ويبلّغه كما سمعه. فالكلمة عنده صلى الله عليه وسلم أمانة، لا تُقال عبثًا، ولا تُلقى إلقاءً، بل تُوزن بميزان الحكمة. ولهذا قال الله تعالى عنه: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ ٣ إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ ٤) [النجم: 3-4]. فكلّ حرفٍ منه صلى الله عليه وسلم يهدي، وكلّ سكونٍ منه يعلّم، وكلّ ابتسامةٍ منه تبني قلبًا.
المساجد رياض الأنبياء
وقال صلى الله عليه وسلم: «المساجد مجالس الأنبياء»، ومن السنة إذا دخلت المسجد أن تستقبل القبلة وتجلس بسكينة، فلا ترفع فيه صوتًا ولا تشغل نفسك بحديث الدنيا. فالمسجد مدرسة القلوب، وفيه تتنزّل السكينة وتعلو الأرواح، ومن دخله طاه[ر القلب والجسد خرج منه مشرق الوجه موصول القلب بالله.
إشراق القدوة النبوية
لقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم منهجًا متكاملاً في الأدب الإلهي: في نومه وقيامه، في كلامه وسكوته، في أكله ولباسه، في عطائه وابتسامته. كلّ لحظةٍ من حياته نورٌ يهدي إلى مكارم الأخلاق التي قال فيها: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (رواه مالك).
فمن أراد أن يُصلح نفسه فليتأدّب بأدبه، ومن أراد أن يطهّر قلبه فليتأسّ بسنّته، فإنها ليست طقوسًا جامدة، بل سبيل حياةٍ راشدةٍ تُزهر بها القلوب وتستقيم بها المجتمعات.
ختام
يا من تبحث عن الطمأنينة في زمنٍ مضطرب، انظر إلى سيرته صلى الله عليه وسلم تجد اليقين. ويا من أثقلك همّ الحياة، تأمّل قوله: «لا حول ولا قوة إلا بالله» تجد السلوى. ويا من تنشد الجمال والصفاء، اقتدِ بطهارته وطيبِه وسكينته.
فإن السعيد من جعله الله من أهل سنته، والمفلح من لزم طريقه حتى يرد حوضه. اللهم ارزقنا حسن الاقتداء بنبيك صلى الله عليه وسلم، واجعلنا من أهل شمائله وأدبه ونوره، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
1447-05-08