تصريحات نتنياهو عن «إسرائيل الكبرى» وتداعياتها: تقويض أوسلو وصفعة على وجوه المُطبِّعين
يومين مضت
كلمات الأعداد
145 زيارة
في تصريح صادم يكشف النزعة التوسعية الراسخة لدى كيان يهود، أعلن رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو تبنّيه الصريح لرؤية “إسرائيل الكبرى”. فعندما سُئل في مقابلة مع قناة i24 العبرية إن كان يؤمن بـ«رؤية إسرائيل الكبرى»، أجاب نتنياهو “قطعيًا” ثم أكّد أنه «مُتعلِّق جدًا» بهذه الرؤية. وهذه الرؤية تعني في مفهومها التوسعي ضم جميع الأراضي المحتلة في فلسطين التاريخية وأجزاء من الدول العربية المجاورة؛ إذ يشمل مشروع “إسرائيل الكبرى” المطروح احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، وأجزاء من لبنان وسوريا ومصر والأردن. إنها رؤية استعمارية قديمة جديدة تستحضر أوهام الصهاينة بأرض تمتد حدودها “من النيل إلى الفرات” وتضع كل الاتفاقيات والتسويات السابقة على مذبح الأطماع التاريخية.
لقد أثارت تصريحات نتنياهو هذه عاصفة من «الإدانات اللفظية» حتى من عواصم مَرَدَتْ على التطبيع والتعاون الأمني مع الاحتلال. فقد اعتبرت 31 دولة عربية وإسلامية مجتمعة – بينها حكومات وقّعت اتفاقيات سلام مع الكيان – تلك التصريحات “انتهاكًا جسيمًا وخطيرًا للقانون الدولي وتهديدًا مباشرًا لأمن الدول العربية واستقرارها”. واعتبرت القاهرة أن «كلام نتنياهو يُزعزع الاستقرار الإقليمي ويُظهر رفضًا لمسار السلام في المنطقة». وكأن زلزال غزة لم يزعزع تلك الأحلام، وكأن المنطقة مستقرة وفيها هذا العدو الغاصب!
أما الأردن الذي وقع اتفاقية وادي عربة مع الاحتلال عام 1994، فقد اعتبر التصريحات «تصعيدًا خطيرًا مستفزًا وتهديدًا لسيادة الدول»، ووصف هذه المطامع بأنها “أوهام” تبثّها العناصر المتطرفة في حكومة نتنياهو، محذرًا من أنها تشجّع على استمرار دوّامة العنف في غزة والضفة. ولعمري إن المرء ليعجب من هذه المواقف الباهتة، التي لا تخرج عن دائرة الشجب المصحوب بجسر بري لوجستي يصل الإمارات بالسعودية بالأردن بكيان يهود يوفر على الكيان أكثر من 80% من تكلفة البضائع عبر الطريق البحري، ويمد الكيان بأسباب البقاء وهو في ذروة عدوانه على غزة ومحيط الأرض المقدسة كله! وكان وزير مالية الاحتلال قد قام بتسلية جمهور متطرف في باريس بخريطة مزعومة لـ(إسرائيل الكبرى) تضم المملكة الأردنية نفسها، فعدّت عمان ذلك «انتهاكًا لاتفاقية السلام بين البلدين».
ضربة قاضية لأوسلو؟ أم تصفية للسلطة الفلسطينية؟
تكشف تصريحات نتنياهو عن إسرائيلالكبرى الهوّة السحيقة بين الواقع الجديد وسيرَ ما يسمى بعملية السلام القديمة، والتي ما كان الكيان الغاصب يوما يعير لها أدنى اهتمام، إلا ما يصب في خدمة مصالحه. فكان من الطبيعي أن يضع «رصاصةالرحمة» علىماتبقىمناتفاقياتأوسلو التي وُقِّعت في التسعينات وأسست للسلطة الفلسطينية على «أمل» الوصول إلى حل الدولتين. منذ توقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993، تحوّل الاحتلال من مُطارَدٍ دائم إلى كيانٍ آمنٍ يحتمي بأجهزة السلطة الفلسطينية. لقد منحته أوسلو اعترافًا رسميًا، وفتحت له باب التطبيع على مصراعيه، بينما أسندت السلطة لنفسها دور الحارسالأمين للكيان الغاصب. فبدل أن تُوجَّه البنادق نحو المحتل، أُنشئت أجهزة أمنية قوامها نحو ثمانين ألفعنصر لاحتواء المقاومة، حتى بلغ عدد اتفاقيات التنسيق الأمني الموقعة عشرات البنود. ومنذ انتفاضةالأقصى 2000 أدّت السلطة دور السد المنيع أمام اندلاع مواجهة شاملة، فقمعت المظاهرات وحاصرت كتائب المقاومة. وفي 2007 وبعد الانقسام، تحولت الضفة إلى سجن كبير؛ حيث حملات ملاحقة يومية لمقاتلي حماس والجهاد واعتقالات طالت آلاف الشباب، بالتوازي مع اجتياحات جيش الاحتلال. وفي 2014 إبان عدوان غزة، نفذت أجهزة السلطة حملات واسعة لإحباط أي انتفاضة في الضفة، بل اعتدت على المتظاهرين المؤيدين للمقاومة. ثم في 2021 و2022 استمرت سياسة التنسيق حتى في عزّ هبّات الأقصى، حيث كان جنود الاحتلال يقتحمون المخيمات نهارًا لتصفية المقاومين، بينما تلاحق السلطة من بقي حيًّا ليلًا. ومؤخرا في جنين 2023، وثّقت الشهادات كيف انسحبت الأجهزة الأمنية حين اجتاح الاحتلال المخيم ثم عادت لقمع المظاهرات الغاضبة. هكذا تحوّلت السلطة إلى أداة لتكريس الاحتلال، تفرّط بحقوق الأمة وتحمي عدوها بدماء أبناء شعبها، في مشهدٍ لا يضاهيه إلا خيانة الأنظمة المطبّعة!
لقد دأبت حكومات اليمين الصهيوني على نسف أسس أوسلو تدريجيًا عبر توسيع الاستيطان وفرض الأمر الواقع، لكنها أبقت على هيكل السلطة قائمًا، بصفة شريك أمني يخدم نهج “إدارةالصراع” دون حله. أما الآن، فيبدو أن ائتلاف نتنياهو الحاكم – وهو الأكثر تطرفًا في تاريخ الكيان – قد وجد في أجواء الحرب على غزة فرصة سانحة للانقلاب الكامل على ترتيبات أوسلو. وتشير دراسات إستراتيجية إلى أن حكومة نتنياهو الحالية تستغل تداعيات 7 أكتوبر 2023 لتنفيذ أجندة معلنة منذ تشكيلها: التخلي عن الوضع القائم الذي أرسته أوسلو، وتصعيد تقويض السلطة الفلسطينية ماليًا وأمنيًا وصولًا إلى تفكيكها، وتسريع وتيرة الاستيطان وضمّ أراضي الضفة فعليًا. وبالفعل، لم تمض أيام على تصريحات نتنياهو حتى أعلن وزير ماليته بتسلئيل سموتريتش عن الدفع قدمًا بآلاف الوحدات الاستيطانية الجديدة في الضفة المحتلة، مؤكدًا أن هذه الخطوة “تدفن فكرة الدولة الفلسطينية” نهائيًا. وعلى نفس المنوال، كان الكنيست قد تبنّى في وقت سابق قرارًا يرفض إقامة دولة فلسطينية بأغلبية 68 صوتًا مقابل 9، وهي خطوة رمزية، لكنها تعكس تحوّلًا رسميًا عن التزامات أوسلو. كما صعّد الاحتلال إجراءات خنق السلطة وعزلها؛ فقطعت حكومة نتنياهو عائدات الضرائب عن السلطة أو اقتطعت مبالغ كبيرة منها، ودفعت نحو سنّ تشريعات تسمح بمقاضاة السلطة ماليًا بحجة دعم عائلات الشهداء، إلى جانب منع دخول آلاف العمال الفلسطينيين لداخل الكيان الغاصب من أجل لقمة عيشهم. وتوسع العدوان ليشمل اجتياحات عسكرية متكررة للمناطق المصنفة (أ) حسب أوسلو، بل وأعلن الاحتلال سحب صلاحيات أمنية من السلطة في بعض مناطق (ب) بذريعة إقامة “محميات طبيعية” تحت سيطرته المباشرة، أي عمليًا إنهاء التقسيمات الإدارية لأوسلو من طرف واحد. منذ أوسلو (1993–1995)، صار ما يقارب 75% من موازنة السلطة يعتمد على إيرادات الضرائب التي يجمعها الاحتلال نيابةً عنها، ثم يتحكمون في تحويلها أو حجبها متى شاؤوا. وبين 2019 و2024، اقتطع الكيان الغاصب نحو 3.54 مليارشيكل (ما يقارب مليار دولار)، أي نحو 5% من الناتج المحلي الفلسطيني في 2023، بذريعة تمويل السلطة أسر الشهداء والأسرى، ثم تضاعفت الاقتطاعات منذ أكتوبر 2023 لتبلغ 275 مليون شيكل شهريًا، أي ما يعادل كامل رواتب موظفي قطاع غزة للعاملين بالسلطة. أضِف إلى ذلك، أن الاحتلال منع ما يصل إلى 143000عامل فلسطيني من الوصول إلى أعمالهم داخل الكيان، بين أكتوبر وديسمبر 2023، ما ضرب مردود أسر بأكملها، ودفَع بالاقتصاد إلى حافة الانهيار. في الوقت ذاته، كثفت السلطة قمع الانتفاضات؛ ففي مخيم جنين وفي القدس، كانت أجهزة الأمن تحت قيادة السلطة تسجن المقاتلين أو تسلّمهُم للاحتلال، بينما ارتفعت الحواجز ونقاط التفتيش إلى ما يقارب 900 حاجزوعبّارة في الضفة، تحاصر الناس وتجعل من التنقل معركة يومية ، وهكذا غدت السلطة سوطًا بيد الاحتلال، تُسخِّر أجهزتها لحراسة أمنه، وخنجرا مسموما يطعن ظهر شعبها بالاعتقالات والتنسيق الأمني، بينما تُسلَب أموالها وتُحاصر لقمة عيش أبناء فلسطين، بينما شباب غزة والضفة يُذبحون جوعًا وحصارًا، وسيول الدم تُسيل على أرض تئن من الوجع والخذلان.
إن هذه التطورات تضع مصير السلطة الفلسطينية على المحك غير المسبوق منذ نشأتها. فالسلطة باتت اليوم مجرد كيان هش مكبَّل، يتآكل دوره يومًا بعد يوم، حتى منعت الولايات المتحدة وفد السلطة من الحصول على تأشيرة لدخول البلاد ومقرات الأمم المتحدة. وقد وصفت قيادة السلطة تصريحات نتنياهو بشأن إسرائيل الكبرى بأنها “تجاهل صارخ للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني واستفزاز خطير يهدد أمن المنطقة واستقرارها”، ولعل الأصوب القول: تهديد استمرار الوضع الذي مكّن للفاسدين نهب الخيرات والتواطؤ الرخيص مع الاحتلال، لا أمن المنطقة، ولا استقرارها، إذ لم تكن يوما آمنة ولا مستقرة منذ الاحتلال، ومع ذلك تجد السلطة نفسها عاجزة عن أكثر من الشجب اللفظي، فيما مشروع الاحتلال يمضي لتفريغها من أي مضمون سياسي. في المقابل، تحذّر مراكز أبحاث داخل الكيان من أن انهيارالسلطة – سواء بانفجار داخلي أو بانقلاب «إسرائيلي» مكتمل الأركان – سيفجّر فراغًا خطيرًا ستكون عواقبه وخيمة على الجميع بمن فيهم الكيان الصهيوني نفسه، كيف لا، ووظيفة السلطة ما نعلم، تقوم بدور حماية الكيان الغاصب أكثر مما يفعله جيشه! ففي غياب السلطة قد تندلع انتفاضة شعبية شاملة لأن الفلسطينيين سيفقدون الأمل نهائيًا في مسار المفاوضات. كما أن عشرات آلاف العناصر المسلحة التابعة لأجهزة السلطة قد يفقدون مخصصاتهم ويجد بعضهم نفسه مضطرا للانضمام إلى المقاومة في مواجهة الاحتلال بدلًا من التنسيق الأمني معه، بل إن تفكك السلطة سيعني نهاية “عصر الاتفاقات” وإقرارًا مدوّيًا بفشل نهج «التسوية السلمية»، ما قد يؤخر تطبيع بعض الدول العربية المتلهفة للتطبيع مع الكيان. وعلى جانب الكيان الصهيوني الغاصب، سيتعيّن على الاحتلال تحمل عبء إدارة حياة ملايين الفلسطينيين مباشرةً في الضفة وغزة وما يعنيه ذلك من كلفة مالية وأمنية باهظة. بكلمات أخرى، إن سعي حكومة نتنياهو لتحقيق أضغاث أحلام “إسرائيل الكبرى” عبر تهميش السلطة الفلسطينية أو إسقاطها ينذر بفتح أبواب جحيم فوضى أمنية وإقليمية محمودة عقباها، وهو ما يتجاهله نتنياهو متعمّدًا في سبيل إرضاء غلاة مستوطنيه وضمان بقائه السياسي.
منذ أوسلو، بات أكثر من واحد من كل ستة فلسطينيين في الضفة عاملين في الأجهزة الأمنية للسلطة، التي تُنفق على أمنها أكثر مما تنفقه على التعليم والصحة مجتمعتين، وقد تجاوزت موازنة التحصين الأمني لديها مليار دولار سنويًا (28 ٪ من إجمالي ميزانيتها) . وفي جنين (كانون الأول/ديسمبر 2024)، اندلعت أعنف اشتباكات لحملات السلطة ضد المقاتلين، وأسفرت عن سقوط شهداء من مقاتلي جنين، وأكدت مرة أخرى هشاشة القيادة الأمنية وشُحّ دعمها الشعبي، في ظل توجيه اتهامات لها بكونها الأداة التي تحقق “الأمن” للاحتلال وليس للأمة. ولا تقل خطورة عن ذلك استماتة السلطة في قمع شعبها: ففي عام 2015 وحده، سجّلت أكثر من 1,274 اعتقالًا تعسفيًا و1,089 استدعاءً بحق معارضين، بينهم طلبة ومدافعون عن حقوق الشعب، تحت ذرائع أمنية، وفي غياب تهم حقيقية، مع توثيق ممارسات تعذيب داخل سجونها . وتشير مؤسسات استطلاع الرأي مثل استطلاعات مركزالقدس للبحوث والاستطلاعات السياسية – PCPSR (آخرها في عام 2023) إلى أن 79% من الفلسطينيين في الضفة يعتقدون بوجود فساد في مؤسسات السلطة، ما يؤشر إلى شُحّ ثقة شعبي بات يرى أن السلطة أصبحت مأوى للمال الفاسد وليس للحقوق الوطنية. وفي استطلاع ArabBarometerلعام 2021–2022، أكد 85% من الفلسطينيين وجود فساد “إلى حد كبير أو متوسط” في السلطة. وفي بيانات تكميلية، بلغت نسبة المواطنين الذين يرون السلطة “عبئًا على الشعب” أكثر من 62%، هذا الاستنكار الشعبي لا يُستغرب في ظل تفكّك مؤسسات السلطة وممارسات الفساد المستحكمة، فلم تشغل السلطة نفسها منذ أوسلو إلا بتثبيت أمن الاحتلال، وقمع قضيتها الداخلية، وتكميم الأفواه. قد ذهبت نزعتها الخيانية إلى حد أن أجهزة أمنية باتت مهمتها الأولى ردعشعبها،لاحمايته.
في المقابل، استفاد الاحتلال استفادةً استثنائية من السلطة كجسرٍ لدولته، إذ جعلها تتحمّل عن كاهله وظيفتين متناقضتين ومهلكتين: فهي من جهةٍ تصدّ مقاومته بالنيابة عنه، ومن جهةٍ أخرى تحمي الكيان الغاصب، وتقاتل أبناء شعبها، وتغطّي فسادها، بينما ينهب الكيان أراضيها ويضمّها واحدةً تلو الأخرى. وفي هذا الثالوث الموبوء تجلّى دور السلطة الفلسطينية امتدادًا وظيفيًا له؛ حاجزًا أمنيًا متقدّمًا يتولّى بالنيابة عنه ما يستهلك جيوشه وأجهزته: قمعَ المقاومة، وملاحقةَ المعارضين، وتجفيفَ منابع الانتفاضة والمقاومة. لقد تحوّلت مؤسساتها إلى أداةٍ إدارية–أمنية بيد الاحتلال، تحمي مستوطناته وتوفّر له بيئةً آمنة للتوسّع، وتترك شعبها يواجه البطالة والجوع والرصاص وحده.
وادي عربة في مهب الريح… والأردن ومصر على المحك
لا تقف تداعيات مشروع “إسرائيل الكبرى” عند حدود فلسطين المحتلة، بل تهدد بشكل مباشر دول الجوار وتنسف معاهدات السلام القائمة معها. فحين يتحدث نتنياهو عن ضم أجزاء من الأردن وسيناء إلى كيانه، فهو يطعن ضمنيًا في اتفاقيتي وادي عربة (1994) وكامب ديفيد (1979) اللتين اعترفتا بتلك الحدود الدولية. وقد لمّح متطرفون في حكومته سابقًا إلى نظرية “الوطن البديل” للفلسطينيين في الأردن، ولوّحوا بأن الضفة الشرقية قد تكون جزءًا من الحل الصهيوني النهائي. هذه التصورات تدق ناقوس الخطر في عمّان التي تنظر إلى الضفة الغربية بصفة عمق إستراتيجي وأمن قومي لها. لكنّ الحدث الجلل كان يقتضي من عمّان مواقف بحجم التحدي، لا بيانات باهتة. كان الأولى بالنظام الأردني – وهو يرى كيانه مهدَّدًا في جوهر وجوده – أن يخطو خطوات عملية حازمة: طرد سفيرالكيان من عمان واستدعاء سفيره من تل أبيب، وإنهاء العلاقات الدبلوماسية الآثمة مع الكيان الغاصب، ووقف العمل بمعاهدة وادي عربة وبنودها الأمنية والاقتصادية، وإنهاء التنسيق الأمني الحدودي الآثم الذي ضمن أمن الكيان منذ نشأته، وإنهاء اتفاق الغاز المشؤوم الذي كبّل رقاب الأردنيين لسنوات. كان عليه أن يقوم بخطوات سياسية قوية تمنع الاحتلال من اقتحام الأقصى، وهو الذي من المفروض أن يكون تحت «الوصاية الهاشمية».
كان الأجدر به أن يترجم غضبه إلى أفعال: إبراز الجدية بتحركات عسكرية تؤكد أن الأردن ليس خاصرة رخوة يعبث بها العدو، ذلك العدو الذي يخرج الآن من حرب أنهكته ولم تبق لديه أي قوة ردع، ناهيك عن قوة الهجوم، ذلك العدو الذي مرغت كتائب القسام والجهاد الإسلامي وجهه في التراب في السابع من أكتوبر وأسقطت أسطورة «جيشه الذي لا يقهر» فقهرته، وما زال لا يستطيع أن يسجل نصرا في جبهة غزة العزة، ولا أن ينجز هدفا واحدا من أهداف حربه هناك، أفما كان من الأجدر بالجيش العربي الأردني الذي سبق وهزم جيش الاحتلال في معركة الكرامة 1968 فقتل أكثر من مائتي جندي غاصب ودمر نحو 40 دبابة ومركبة مدرعة، واضطر جيش الاحتلال الذي كان قوامه أكثر من 15 ألف جندي مدعومين بالطيران والدبابات للانسحاب الذليل، الجيش الذي منع سقوط القدس الشرقية بيد الاحتلال في حرب النكبة بصمود مجاهديه ودفاعهم، حين خاضوا معركة اللطرون في أيار- حزيران 1948 وأوقعوا خسائر فادحة في صفوف جيش الاحتلال وعصاباته، والذين استبسلوا في الدفاع عن القدس في حزيران 1967 وقاوموا حتى نفاد الذخيرة في القدس الشرقية، بفعل عقيدة أبناء هذا الجيش الإسلامية الراسخة، وإيمانهم بوجوب دحر عدوهم. كان الأجدر بالجيش الأردني هذا أن يفتح جبهة حرب ضد الكيان الغاصب تزامنا مع إنطلاقة طوفان الأقصى ليحرر البلاد والعباد. كذلك كان الأولى أن يفتح النظام الأردني صدره لشعبه ويطلق العنان للهبات الشعبية المؤيدة لفلسطين بثقل يخيف العدو، بدل أن يقمعها، ليجعل من الشارع قوة ردع تُحرج العدو وحلفاءه الأمريكان وتظهر رفض الأمة لوجود القواعد العسكرية الأمريكية على أرضه. إن أقلّ ما كان يُنتظر من النظام الأردني في مواجهة أوهام “إسرائيل الكبرى” هو أن يظهر شيئا من الاعتبار لكرامة الدولة وسيادتها، لا أن يكتفي برسائل احتجاج لا تسمن ولا تغني. في هذا السياق، عكَس تصريح لوزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي مدى النهج “الدبلوماسي البارد” في المواجهة؛ إذ قال إن هذه الادعاءات الصهيونية “لن تؤثر على الأردن والدول العربية” ولن تنتقص من حقوق الفلسطينيين، وكأنه بيان صحفي روتيني لمراسل الجزيرة، أقرب منه إلى رد فعل دولة يتهددها الخطر!
أما مصر – صاحبة أول اتفاق خيانة عربي مع الكيان الصهيوني الغاصب – فتواجه هي الأخرى إحراجًا إستراتيجيًا. فحين يلمّح نتنياهو إلى أطماع في سيناء أو يتجاهل عن عمد دور القاهرة الإقليمي، فإنه يضرب عرض الحائط بعقود من التعاون المصري «الإسرائيلي». ولا يختلف رد الفعل المصري الرسمي عن الرد الأردني في تخاذله وضعفه واستخذائه، والاكتفاء بالتنديد والشجب، والدفع نحو المزيد من المفاوضات ومسار السلام المزعوم، وكأن عقودا طويلة من الفشل غير كافية لإظهار مراد الكيان الغاصب، حتى صفع الكيان المصري بهذه الصفعة ليقول لهم بأن الكيان الغاصب لا يحفل بأي اتفاقات، ولا عهود، وأن أطماعه تصل من الفرات إلى النيل.
إن ما يخشاه النظام المصري على الحقيقة هو أن تنزلق المنطقة مجددًا نحو شفير الانفجار بسبب غلواء الصهاينة، مما يهدد استمرار تحكم الكيان المصري في البلاد وتسلطه على رقاب العباد، زد على ذلك أن ما يجعل غضبة الشارع المصري تصل إلى حد الغليان ما كان على ظاهر الكف من تواطؤ الكيان المصري مع الكيان الصهيوني، وكأنهما وجهان لعملة واحدة، فقد تعرضت القاهرة لانتقادات شعبية خلال العدوان الأخير على غزة بتهمة التواطؤ الضمني الحقيقي مع الحصار الإسرائيلي – وهو ما تمثل بإغلاق معبر رفح معظم الوقت وتقييد الدعم الإغاثي – حرصًا على تفاهماتها مع واشنطن وتل أبيب، وتنفيذا لأجنداتهما في خدمة مشاريعهما الاستعمارية في غزة. ومع ذلك، ضرب الكيان الصهيوني الغاصب بكل خدمات الكيان المصري عرض الحائط، واستمر في قصف غزة بوحشية ومضى نحو آخر الشوط. ثم ها هو نتنياهو يكافئ القاهرة بإعلانه مطامعه التوسعية التي تهدد سيادتها (في سيناء) أو تزعزع دورها الإقليمي. إنه الاستخفاف بعينه بكل ما قدمته مصر من تعاون أمني وسياسي للكيان الغاصب طوال العقود الماضية. لم يكن موقف القاهرة من محور فيلادلفيا إلا وجهًا آخر للتواطؤ، إذ تركت الكيان الصهيوني الغاصب يفرض رؤيته على الحدود دون مقاومة تذكر. ففي مايو 2024 أعلن جيش الاحتلال أنه بات يملك السيطرة التكتيكية على ممر فيلادلفيا الحدودي مع مصر، في خرق واضح لاتفاقية كامب ديفيد، بينما اكتفت الخارجية المصرية ببيان احتجاج باهت لم يُترجم إلى أي فعل عملي. أما معبر رفح، فقد تحوّل إلى أداة خنق بيد القاهرة؛ إذ أظهرت بيانات رويترز أن متوسط الشاحنات التي يُسمح لها بالمرور لا يتجاوز 30 إلى 50 شاحنة يوميًا من أصل 200–300 تصل إلى الحدود، والبقية تُترك لتتعفن في المستودعات أو على الطرقات (رويترز 13 آب 2025). هذا فضلاً عن أن مصر كثيرًا ما تُغلق المعبر لأيام وأسابيع بحجج واهية، تاركة مئات آلاف المرضى والجوعى محاصرين حتى الموت. وفي مفاوضات وقف إطلاق النار، كشفت مصادر غربية أن المخابرات المصرية غيّرت نص اتفاق كان الكيان الصهيوني الغاصب قد وافق عليه وأعادت تقديمه بصيغة بديلة إلى حماس، ما أدى إلى انهيار التفاهم قبل أن يرى النور، في سابقةٍ تُظهر حجم التلاعب والتآمر. هكذا انكشف الدور المصري: حارسًا للحدود في وجه غزة، وممرًا ضيقًا للغذاء والدواء، ومسهّلًا لحلول يفرضها العدو. لقد اختارت القاهرة أن تكون شريكًا في الحصار بدل أن تكون صمام أمان لغزة، فصارت سياساتها عبئًا على شعب محاصر، وعلى أمة الإسلام جمعاء، ومكسبًا إستراتيجيًا للكيان الغاصب.
ولا يختلف الحال كثيرًا بالنسبة إلى سوريا، وإن كانت خارج فلك التطبيع الرسمي مؤقتا. فمشروع “إسرائيل الكبرى” في بعض صيغه يضع الجولان السوري المحتل وأجزاء من جنوب سوريا في مرمى الأطماع الصهيونية. لم يعد خافيًا أنّ نظام دمشق يقدّم نموذجًا فجًّا للتخاذل المزدوج؛ فبينما تتوالى غارات الكيان الصهيوني الغاصب على عاصمته ومطاراته، وتتمادى تل أبيب في دعم القوى الانفصالية شرق الفرات، لا يرى النظام بأسًا في التفاوض المباشر مع عدوّه برعاية أمريكية. فلا صاروخ يردّ العدوان، ولا موقف يوقف الاقتحام، بل صمت يُغري نتنياهو – وقد فشل في غزة – بالبحث عن صورة نصر على أنقاض دمشق ليظهر بمظهر القوي. إنّه نظامٌ تعوّد أن يحني رأسه للعاصفة، حتى يصل الرأس إلى موضع الركوع الذليل للعدو، حتى صار وجوده مرادفًا لغياب الإرادة، وذريعته الوحيدة أن «موازين القوى لا تسمح»، مع أنّها الذريعة ذاتها التي رسّخت الاحتلال وأطلقت يد العدو في سماء الشام وأرضها. وغاية ما يؤكده النظام تجاه الكيان الغاصب استعادة اتفاق فك الاشتباك 1974 في الجولان وضمان الاستقرار على حدودها!
أنظمة التطبيع: تنديد باهت وانبطاح مستمر
تكشف هذه التطورات طبيعة العلاقة المختلّة بين الكيان الغاصب وحلفائه من الأنظمة العربية المُطبّعة أو المتعاونة معه أمنيًا. فمن الواضح أن الكيان الصهيوني الغاصب لم يُقم وزنًا لما قدّمته تلك الأنظمة من خدمات وضمانات طوال السنوات الماضية. بل على العكس، يرى نتنياهو وشركاؤه في خنوع هؤلاء الحكام ضوءًا أخضر للمضي أبعد في مشاريعهم العدوانية. كيف لا، وقد شهدنا خلال العدوان على غزة 2023-2025 كيف مدّت بعض الحكومات العربية يد العون للكيان بشكل مباشر أو غير مباشر: فهناك من كبَتَ صوت الشارع الغاضب، وكبّل الجيوش الجرارة عن القيام بدورها، فحال دون أي تحرّك فعلي لنصرة غزة، بل إن السلطة الفلسطينية نفسها واصلت تنسيقها الأمني مع الاحتلال في الضفة الغربية لقمع أي انتفاضة تضامنية، في وقت كان جيش العدو يرتكب مجازر يومية في أهل غزة! لقد توهمت تلك الأنظمة أن خدماتها هذه ستمنحها رصيدًا لدى حكام تل أبيب أو واشنطن، أو أنها ستحمي مصالحها الضيقة. لكن الردّ جاءهم سريعًا على لسان نتنياهو: إننا ماضون في مشروعنا الإمبريالي ولا اعتبار لأي يدٍ مُمدودة لنا. إن مشهد الخذلان يتكرر؛ فقبل سنوات قايضت الإمارات والبحرين خيانة القضية الفلسطينية بالتطبيع الكامل مع الكيان الصهيوني الغاصب على أمل كبح شهيتها الاستيطانية، وما كانت شروطها تلك إلا ذرا للرماد في العيون، إذ كانت النتيجة أن حكومة نتنياهو واصلت توسيعالمستوطناتبلاهوادة ومنحت الشرعية للبؤر العشوائية، بل وكادت تقدم في 2023 على ضم أجزاء واسعة من الضفة لولا مناورة تأجيل مؤقتة لكسب اتفاقيات أبراهام. لم يُعر الكيان الصهيوني الغاصب أي احترام لتلك الاتفاقيات إلا بقدر ما تخدم مصالحه الآنية؛ فها هو أحد وزرائه (سموتريتش) يصرّح صراحةً أنه لاوجود لشعب فلسطيني أصلاً بينما كان يجلس أمام خريطة تضم الأردن وفلسطين معًا ضمن إسرائيل الكبرى، في استفزاز صارخ لأقرب حلفاء التطبيع.
إن أنظمة التطبيع والتعاون الأمني تجد اليوم نفسها في موقف المهان المُستغفَل. فبينما يتغنّى نتنياهو بمهمة “تاريخية وروحية” لتحقيق أحلام أجيال الصهاينة – أحلام تتضمن التوسع على حساب سيادة دول عربية – تكتفي تلك العواصم بإصدار بيانات التنديد التي لا تسمن ولا تغني من جوع. لم نرَ سفيرًا واحدا للكيان الصهيوني الغاصب يُطرد، ولا معاهدة تُعلّق، ولا تعاونًا استخباريًا يُجمَّد، ولا جسرا لوجستيا حيويا يمد الكيان الغاصب بأسباب البقاء يتوقف، ردًا على تطاول نتنياهو. هذا الصمت المطبق عمليًا هو ما يشجّع الكيان الغاصب على المضي أبعد في ازدراء تلك الحكومات. فها هو وزير الأمن القومي للكيان الصهيوني الغاصب المتطرف إيتمار بن غفير يقتحم المسجد الأقصى مرارًا تحت حراسة شرطةالاحتلال – ست مرات منذ توليه منصبه – غير عابئ بوصاية الأردن التاريخية على المقدسات. وتصف الخارجية الأردنية هذه الاقتحامات بأنها “استفزاز متعمَّد” وانتهاك للوضع التاريخي والقانوني القائم في الأقصى، ورغم ذلك، تواصل سلطات الاحتلال فرض الأمر الواقع بقوة السلاح في أولى القبلتين دون أي اعتبار للتحذيرات الأردنية الخجولة. لقد بات واضحًا أن الكيان الصهيوني لا يقيم وزنًا لأي التزامات إذا تعارضت مع مطامعه؛ فهو مستعد حتى لأن يضرب بعرض الحائط مصالح أوثق حلفائه العرب إن أعاقت مشروعه الإحلالي والاستيطاني. ومن المؤسف أن رد فعل تلك الأنظمة لا يرتقي لحجم الإهانة، إذ لا يتجاوز الشجب الإعلامي وتوسل المجتمع الدولي، بدل مواقف حازمة تليق بمن يزعمون السيادة والكرامة الوطنية.
مواقف أمريكية وغربية… حرص على المصالح أم رفع للعتب؟
على الجانب الدولي، يكشف مشهد “إسرائيل الكبرى” حرجا في مواقف الحلفاء الغربيين التقليديين. فمن جهة، تواصل الولايات المتحدة والدول الأوروبية دعمها السياسي والعسكري للكيان الصهيوني الغاصب، بل وتوفير الغطاء الدبلوماسي له في المحافل الدولية؛ ومن جهة أخرى لا تستطيع إنكار خطورة الخطاب التوسعي الإسرائيلي على ما تبقى من استقرار إقليمي. وقد شهدنا في واشنطن تصريحات غيرمعتادة إثر تجاوزات وزراء حكومة نتنياهو: فوزارة الخارجية الأمريكية وصفت دعوة سموتريتش لمحو بلدة حوّارة الفلسطينية بأنها “مقززة ومستهجنة” وعدّت تصريحاته المطالِبة بطمس قرية بأكملها تحريضًاخطيرًا على العنف. كذلك انتقدت الخارجية بلسان المتحدث فيدانبت باتيل إنكار سموتريتش لوجود الشعب الفلسطيني ووصفت كلامه بأنه “غير دقيق وخطير”. بل إن الإدارة الأمريكية وجّهت انتقادات نادرة لتشريعات الكنيست الأخيرة التي تسمح بعودة مستوطنين إلى أربع بؤر أخليت عام 2005، واصفة ذلك بأنه “خطوةاستفزازية” تناقض تعهدات الكيان الصهيوني الغاصب لواشنطن وتزيد حل الدولتين ابتعادًا. هذه اللغة قد تكون حازمة نسبيًا ولكنها تعكس قلقًا أمريكيًا حقيقيًا من اندفاع حكومة نتنياهو نحو المجهول. فقد استثمرت واشنطن عقودًا في بناء هيكل أمني إقليمي قائم – نظريًا – على أفق الدولتين لضمان مصالحها، وها هو نتنياهو يقوّض هذا الهيكل بخطوات أحادية تهدد بانفجار شامل. حتى صحف النخبة الأمريكية التي طالما دعمت الكيان الصهيوني الغاصب بدأت تدق ناقوس الخطر. فعلى سبيل المثال، رأى الكاتب الشهير توماس فريدمان في نيويورك تايمز أن حكومة نتنياهو الحالية “لم تعد حليفًا لأمريكا” لأنها “تتصرف بطرق تهدد المصالح الأمريكية الجوهرية في الشرق الأوسط”. وذهب أبعد من ذلك ليخاطب الرئيس الأمريكي قائلاً إن “نتنياهو ليس صديقًا لنا”. وأشار فريدمان إلى أن أجندة حكومة نتنياهو الحقيقية باتت واضحة: ضم الضفة الغربية وطرد سكان غزة وإعادة المستوطنات إليها – وهو نهج يصطدم مباشرةً مع الأسس التي قامت عليها الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة منذ عقود والتي ترتكز على حل الدولتين ولو نظريًا. وحذّر الكاتب من أن خطة نتنياهو لغزة تقوم على احتلال دائم للقطاع بهدف دفع الفلسطينيين للهجرة الجماعية، واصفا ذلك بأنه “وصفة لتمرد طويل الأمد… فيتنام على شواطئ المتوسط”. بل نبه فريدمان إلى أن استمرار إسرائيل في هذا النهج سيؤدي إلى تهم بجرائم حرب جديدة ويزعزع استقرار حلفاء واشنطن كالأردن ومصر، وهي ملاحظة بالغة الدلالة. وحتى النخب الأمريكية تدرك أن أنظمة كامب ديفيد ووادي عربة في خطر من سياسات نتنياهو! وختم فريدمان بتحذير صارخ لواشنطن: إن لم يتم لجم نتنياهو، فسوف تجدون إسرائيل وقد تحوّلت إلى “دولة منبوذة” عالميًا. في السياق نفسه، نجد البرلمان الأوروبي والأمم المتحدة قد رفعا لهجة الانتقاد؛ إذ تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا بأغلبية ساحقة أواخر 2023 يطالب الكيان الصهيوني الغاصب بإنهاء احتلاله خلال فترة محددة، كما أحال ملف الاحتلال إلى محكمة العدل الدولية التي خلصت في رأي استشاري إلى أن الوجود الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية غير شرعي وأن استمرار الاستيطان ربما يرقى إلى جريمة فصل عنصري أو إبادة.
وحتى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي – على جرأتها المحدودة – أصدرت مذكرات توقيف بحق نتنياهو ووزير دفاعه غالانت على خلفية جرائم الحرب في غزة.
كل هذه المواقف الدولية، رغم أهميتها القانونية والخلقية، تصطدم بصلف إسرائيلي معتاد وبفيتو أمريكي جاهز عند اللزوم. إذ يستغل نتنياهو الانحياز الغربي التقليدي وعدم وجود إرادة فعلية لفرض عقوبات، للمضي قُدمًا في مشروعه، وكأن هذه الانتقادات مجرد عاصفة في فنجان للاستهلاك الإعلامي. ولعل ضعف رد الفعل العربي الرسمي يُغري واشنطن والعواصم الأوروبية بالاكتفاء ببيانات الشجب دون الانتقال إلى ضغوط حقيقية؛ فهذه العواصم تعلم أن “المستَهدفين” المباشرين لتوسع الكيان الصهيوني الغاصب – من أنظمة عربية وغيرها – لن يتحركوا لحماية أنفسهم بما يكفي. وهكذا نجد الموقف الغربي متواطئًا ضمنيًا: ينتقد باللسان ويُسلّح باليد، يحرص على مصالحه الآنية (التحالف مع الكيان الصهيوني الغاصب، واسترضاء الشارع الداخلي الذي يتعاطف مع الفلسطينيين بقدر ما) دون أن يرتقي لمستوى التحدي التاريخي الذي تطرحه رؤية “إسرائيل الكبرى” على الاستقرار الإقليمي والدولي.
خاتمة:
لا شك أن تصريحات نتنياهو حول “إسرائيل الكبرى” قد نزعت آخر ورقة توت عن حقيقة سياسات الكيان الغاصب. فقد أكّدت بما لا يدع مجالًا للشك أن هذا الكيان لا يعرف حدودًا لأطماعه، ولا يعير أي احترام لاتفاق أو عهد إذا تعارض مع مشاريعه الاستيطانية والتهجيرية. إنها لحظة فارقة تُظهِر طبائع هذا الكيان العدوانية بلا أقنعة ولا تجميل؛ فهو يَعدّ نفسه في “مهمة تاريخية مقدسة” لتحقيق حلم أجداده الصهاينة، ولو جاء ذلك على أنقاض الأنظمة التي طالما كانت ردءا للكيان الغاصب تمده بأسباب الحياة والبقاء والأمن، وشعوبها التي ترفض ذلك كله. وفي المقابل، أبرزت هذه الأزمة مدى المهانة والهوان الذي انزلقت إليه الأنظمة العربية المتعاونة مع العدو.
فبالرغم من كل ما قدّمته تلك الأنظمة – سرًا وعلنًا – خدمةً لأمن الاحتلال واستقرار حكوماته، لم تحصد سوى الازدراء. ضرب نتنياهو بعرض الحائط أيديهم الممدودة خلال محارق غزة، وركل وعودهم وتطميناتهم غير عابئٍ بمصيرهم أمام شعوبهم. لقد أثبتت الأحداث أن رهان المطبّعين على “حسن نوايا” المحتل هو رهان خاسر ومدمر.
فهذا المحتل لا يفهم إلا لغة القوة والمصلحة؛ يحترم من يُرغمه على احترامه، ويزدري من يتذلل له طوعًا. لقد ظن حكام العرب المهرولين للتطبيع أن ارتماءهم في أحضان الكيان الصهيوني الغاصب وأمريكا سيحفظ عروشهم ويجلب لهم الرخاء، فإذا بهم يكتشفون – متأخرين وربما دون اعتراف علني – أنهم مجرد أدوات مؤقتة سيستغني عنها الصهاينة متى استنفدت أغراضها.
إن إحياء نتنياهو لفكرة إسرائيل الكبرى في هذا التوقيت، بعد عجزه عن تركيع غزة الأبية عسكريًا، يؤكد أنه يسعى لتعويض فشله العسكري بانتصار سياسي-أيديولوجي وهمي على حساب أنظمة عربية خانعة ذليلة.
لقد عجز جيشه عن إخضاع بضعة آلاف من المقاومين في غزة، فراح يستعرض عضلاته على حكومات مستسلمة يعلم أنها لن تجرؤ على اعتراض طريقه. هذه هي الحقيقة المُرّة التي ينبغي لشعوب الأمة إدراكها: الكيان الغاصب عدو وجودي لا يكترث بأي تحالفات إذا تعارضت مع أطماعه، والتعويل على الأنظمة المتواطئة لحماية قضايانا هو ضرب من الوهم. فلا مصر ولا الأردن ولا سوريا ولا السلطة الفلسطينية استطاعت أن تحرّك ساكنًا أمام التغوّل الصهيوني – بل سلّمت غزة لمصيرها المحتوم ووقفت عاجزة أمام ابتلاع الضفة وتهويد القدس – فكيف ننتظر منها صدّ مشروع إسرائيل الكبرى وهو يجتاح المنطقة؟ إن المعادلة التاريخية تثبت يومًا بعد يوم أن حقوق الأمة لن يحميها إلا أن تنهض الأمة فتقيم دولة خلافة راشدة على منهاج النبوة تنسي الكيان الغاصب وساوس الشيطان.
أما الأنظمة الراضخة للعدو فقد اختارت موقعها في مكبات نفاية التاريخ، ولن تكسب سوى الذل المهين على يد من ظنّت يومًا أنه حليفٌ وضامنٌ لبقائها. لقد أهانها نتنياهو أيَّما إهانة، فهل تعتبر قبل فوات الأوان؟ أم تستمر في انبطاحها التام حتى تأتي اللحظة التي يلفظها فيها العدو ذاته بعد أن يكون قد استنفد آخر أوراقها؟ لا نشك ولا للحظة في أنها ستستمر في الانبطاح الذي لم تعرف غيره، إلا أن تنهض الشعوب وتقتلعها وتختط لنفسها طريق عزتها ومجدها ورضا ربها. لكن المؤكد الآن أن “إسرائيل الكبرى” لن تكون إلا على أنقاض ما تبقى من كرامة هؤلاء المطبّعين. وإن غدًا لناظره قريب.
1447-04-03