لوازم الفهم السياسي ورسم السياسات (2) (المعلومات السياسية، متابعة الأخبار)
19 ساعة مضت
المقالات
67 زيارة
لقمان حرزالله – فلسطين
بما أن التحليل السياسي هو فهم وليس تخيلاً، فلا بد من الحصول على مجموعة من المعلومات اللازمة ليحصل الفهم. والمعلومات اللازمة للفهم السياسي قسمان؛ فالأخبار عن الأحداث الجارية قسم، والمعلومات المرتبطة بالأحداث الجارية والمحيطة بها هي القسم الثاني، وهذا القسم الثاني هو ما نطلق عليه المعلومات السياسية.
المعلومات السياسية
فالمعلومات السياسية هي تلك المعلومات المرتبطة بالحدث والمحيطة به من حيث البعد التاريخي، والجغرافية السياسية، والشعب الذي اتصل به الحدث، والبلدان المؤثرة بالحدث، وعلاقاتها فيما بينها. وإن تناول هذه المعلومات لا يكون تناولاً نظرياً، بل يُتناول ما اتصل منها بالجانب السياسي.
والمعلومات السياسية المتعلقة بالحدث هي على النحو التالي:
أولاً: الجغرافية السياسية، حيث إن موقع الدولة وطبيعتها الجغرافية ومواردها مؤثرة في السياسة، وبالتالي فإنها مؤثرة في فهم ما يحصل من أحداث سياسية متعلقة بتلك البلد؛ فالدولة التي يكون موقعها مفتوحاً على خطوط التجارة مع العالم، يُمَكّنها موقعها من أن تُنشئ علاقات مع دول العالم، وهذا بحد ذاته عامل يساعدها على أن تكون دولة كبرى. والدولة التي يكون موقعها يحتوي على طبائع جغرافية مهمة مثل المضائق والقنوات البحرية، فإن هذا الموقع يُمَكّنها من التأثير على المارين من منطقتها، وحيازة الثروة. وإذا احتوت الدولة على موارد كبيرة من النفط أو الذهب أو المعادن الأرضية النادرة أو اليورانيوم كانت إمكانيتها في الإثراء والتأثير عالية. والتضاريس الوعرة في البلد تمكّنها من الدفاع عن نفسها، وهكذا.
ثانياً: التاريخ، حيث إن القضايا العالمية لها أبعاد تاريخية، تلقي ظلالاً على الأحداث فيها، أو تنطلق الأحداث فيها من خلال حشد الذاكرة التاريخية التي تحملها، فحين ننظر إلى العلاقة الأوروبية الروسية، لا بد من ملاحظة أن العلاقة بينهما هي علاقة عداء، وهذا العداء بعده تاريخي، حيث إن روسيا غُزيت ثلاث مرات من بواباتها الغربية من قبل الأوروبيين.
ثالثاً: صفات الشعوب، حيث إن توجهات الدولة العامة لا تنفصل عن صفات شعبها، فمثلاً إذا كان الشعب ليس فيه صفات حمل المسؤولية عن غيره، بل يحمل صفة الاقتصار على شؤون نفسه، فإن هذه الدولة تأخذ في سياستها الدفاع أكثر من الهجوم والتوسع. فكان لا بد من الانتباه إلى صفات الشعوب عند الفهم السياسي.
رابعاً: الموقف الدولي، وهو عبارة عن هيكل للعلاقات التي تحصل بين الدول في العالم. وتلك الدول التي تؤثر في الموقف الدولي هي الدول التي لها سياسة خارجية تؤثر في الدول الأخرى من خلالها، وحين تبرز قوة أو أكثر في العالم بمقومات تساعدها على التأثير فيه، تكون هذه القوة أو تلك القوى هي الأقدر على رسم هيكل هذه العلاقات، وبالتالي رسم الموقف الدولي. والدولة التي تتمكن من رسم الموقف الدولي هي الدولة الأولى في العالم، فلا بد من معرفة هذه الدولة. وبما أن الحدث قد يقع في دولة غير الدولة الأولى فإنه لا بد من معرفة واقع الدولة التي تباشر الحدث، ومعرفة علاقة الدولة التي تباشر الحدث بالدولة الأولى في العالم، وطبيعة تلك العلاقة. وإن إغفال الموقف الدولي، أو عزل الأحداث عن الدولة الأولى في العالم يضيق زاوية النظر وينتج فهماً خاطئاً، فيقلب الحدث العالمي إلى محلي.
فمثلاً حصل انقلاب في النيجر عام ٢٠١٠، ومن المعلوم أن النيجر كانت تابعة لفرنسا، وتستغلها لاستخراج اليورانيوم منها، فأطاح الانقلاب بعميل فرنسا محمد تانجا. فالنيجر كانت دولة تابعة لدولة كبرى هي فرنسا، وكانت الدولة الأولى في العالم في ذلك الوقت هي أمريكا، وكانت تسعى إلى سحب البساط من تحت أقدام فرنسا في إفريقية، وحين نطلع على تصريحات الأمريكان نجد أنهم ألقوا باللوم على محمد تانجا ولم يدعوا إلى إعادة الرئيس ولا إلى الحوار بين الانقلابيين والرئيس المخلوع، فإن هذه المعلومات تصب في خانة أن أمريكا هي وراء الانقلاب.
خامساً: المشاريع السياسية المتعلقة بالدولة التي تباشر الحدث. فحين حصل اقتتال في السودان عام ٢٠٢٣ مثلاً، وحين نظرنا في الأمر لفهمه وعرفنا الموقف الدولي، وعلاقة السودان بالدولة الأولى في العالم، فإن هذه المعرفة لا تكفي؛ بل لا بد من النظر في المشاريع السياسية المرسومة للسودان، فيقفز إلى الذهن مشروع تاريخي متعلق بتقسيمها منذ حكمها من قبل الإنجليز، حيث بنوا تقسيماتها الإدارية على نمط يساعدهم على تقسيمها لاحقاً، وهذا المشروع متفق عليه عند الغرب، والمشروع الآخر المتعلق بها هو مشروع حديث تحاول فيه أوروبا أخذ حكم السودان لطرفها، وهو مشروع الحكم المدني الذي استغل ثورة السودان على عمر البشير لتحقيقه، فإنه لا يصح عزل هذه المشاريع حين النظر في الأحداث. فإذا لم يكن هناك مشروع سياسي أخذ البحث بعداً مختلفاً.
سادساً: الظروف القريبة، فحين يحدث حدث في دولة أو منطقة، ويكون الموقف الدولي مفهوماً وعلاقة الدولة التي تباشر الحدث بالدولة الأولى في العالم مدركة، ولم يكن ثمة مشروع مباشر متعلق بالدولة التي تباشر الحدث، فإنه ينظر إلى الظرف القريب. فحين عملت أمريكا على إحياء الحلف مع أستراليا والهند واليابان عام ٢٠١٧، وعلمنا أنه ليس لديها مشروع معين لأي من تلك الدول، ولكن هذا الحلف يتم إحياؤه في الفترة التي أعدت فيه أمريكا مشروعاً لتحجيم الصين وباشرته في الفترة الرئاسية الأولى لدونالد ترمب وما بعدها، فإنه لا بد أن ينصرف الذهن باتجاه هذا المشروع باعتباره الظرف القريب، فيفهم أن التحالف هذا تم إحياؤه في سياق تحجيم الصين.
سابعاً: الرجال المباشرون للحدث، حيث إن السياسة يصنعها الرجال، فإنه لا بد من النظر فيمن يباشرون صناعة الأحداث، وبذلك يظهر الاتجاه الذي يذهب الحدث إليه، من خلال معرفة الاتجاه الذي يميل إليه من يباشر الحدث. فحين حصلت حرب على غزة عام ٢٠٢٣، وحينها رئيس وزراء يهود هو بنيامين نتنياهو، وكنا نعلم الموقف الدولي، والظرف القريب، لا بد لنا من إلقاء نظرة على من هو بنيامين نتنياهو، فنجد أن هذا الرجل له علاقات مع الآيباك في أمريكا ويتلقى دعماً منه، وله علاقة مع جمهوريي ترمب المنافس الشرس للرئيس الأمريكي في ذلك الوقت جو بايدن، حيث كانت تلك السنة في أمريكا سنة انتخابية، وأن له مشروعاً لكيان يهود يخالف مشروع الدولتين الأمريكي، وهو الذي سعى جاهداً ليستمر فصل غزة عن الضفة الغربية، وعليه ملفات فساد في المحكمة، فإننا نفهم ساعتها لماذا يعطل صفقات التهدئة وتبادل الأسرى التي اشتغلت أمريكا على تنفيذها، ولو كان رئيس وزراء يهود شخصاً آخر من رجال أمريكا في كيان يهود، لكان سلوك الدولة مختلفاً.
ثامناً: المستفيدون من الحدث بحثهم مفيد، لكنه يحتاج إلى قرينة أخرى غيره لمعرفة الحالة الحقيقية الحاصلة، لأن الحدث حين يحصل، قد يستفيد منه أكثر من طرف، بعضهم خطط له، وبعضهم لم يشارك في التخطيط، فإذا اقتصرت المعلومة عليه كان الفهم الناتج في مهب الريح ولا يُعتمد عليه.
هذه هي المعلومات اللازمة للفهم السياسي، وسنأخذ بعضها بشيء من التفصيل.
متابعة الأخبار
ذكرنا أنه لا بد للفهم السياسي من معلومات حتى يحصل إنتاجه، وهذه المعلومات منها ما هو من قبيل متابعة أخبار الأحداث الجارية، ومنها ما هو من قبيل المعلومات السياسية. ومتابعة الأخبار لا تكون متابعة تصفح عارض، إنما تكون متابعة مقصود فيها تتبع الأخبار.
وكلمة التتبع تقتضي لغة ربط السابق باللاحق، فتتبّع الخطى يقتضي أن تُعرف الخطوة الأولى، ثم ينطلق منها إلى التي تليها. وهكذا يكون تتبع الأخبار، وهو يكون من خلال الاستماع إلى الأخبار وقراءتها. وتتبّع الأخبار يعني تتبّع كل الأخبار مُهِمِّها وتافِهِها، وتَكَلّف عناء البحث عن المعلومة المفيدة، فإن الخبر غير المهم قد يحوي معلومة متصلة بالحدث، وقد لا يحتوي عليها، وبما أن المستمع للأخبار لا يدري متى تأتي المعلومة المفيدة، فلا بد له من التنقيب عنها حتى يجدها.
والمتابع للأخبار إما أن ينقب عن معلومة يرجح وجودها، أو أن ينقب عن مجرد معلومة. والمعلومة المرجح وجودها تتحصل في الذهن حين يجد صورة ناقصة عن حدث، ولا بد من وجود زاوية معينة تُكْمِل الصورة، فيكون بحثه عن هذه الزاوية بحثاً محددًا، ولكن حين تكون الصورة التي في الذهن بدائية أو لمّا تتكون بعد، فإنه لا بد له من التنقيب عن أية معلومة مهمة، حتى لو لم تكن معالمها واضحة، وحين يجدها سيعلم أنها مهمة من نوعيتها. فهناك معلومات سياسية تتحدث عن الحدث نفسه، وهناك معلومات تتحدث عما يتصل بالحدث سياسيا أو الأشخاص المباشرين للحدث أو المشروع السياسي المتعلق بالحدث أو الظرف القريب من الحدث، فهذه المعلومات تؤخذ، أما ما لم يكن من قبيل هذه المعلومات فلا يؤخذ، وذلك مثل ما اتصل بالحدث من قصص تبثها القنوات الإعلامية لحصد المشاهدات.
وإن الأخبار التي يتابعها الباحث، إما أن تكون خبراً عن الحدث ومتعلقاته، أو مقالاً يصف الحدث ومتعلقاته، أو مقال رأي لكاتب من الكتاب يبدي رأيه في الحدث. وهنا يلزم السياسي أن يفرق بين ما يأخذه وما لا يأخذه من هذه الأخبار، فإن الاستماع إلى الخبر لا بد أن يعقبه حالة ذهنية تصنفه إلى خبر يؤخذ وخبر يترك، والخبر الذي يؤخذ هو ما يكون فيه معلومة متصلة بالحدث، أما كل معلومة لا تتصل بالحدث وكل تحليل أو رأي فإنه يترك، وذلك لأن السياسي لا بد له من أن يبني التحليل من نفسه، وأن لا يعتمد على تحليل غيره، حيث إن كاتب الرأي لا يتفق بالضرورة مع السياسي الباحث في المفاهيم السياسية التي ينطلق منها، بل إن بعض المحللين لا ينطلق من مفاهيم مبلورة، ويكثر المحللون الذين يبنون الرأي على الفروض والتخيلات والمنطق، فضلاً عن أولئك الذين يتعمدون التضليل، أو يبنون رأيهم على ميلهم باتجاه طرف من أطراف الحدث، أو أولئك الذين تجرفهم العاطفة خلال النظر للأحداث. ولذلك ترى أن الأخبار والمقالات أهم من مقالات الرأي، ولكن مقالات الرأي يمكن أن توجد فيها معلومة مهمة تحصّل عليها كاتبها، ولذلك فإنها تبقى ضمن الأخبار التي تُتابَع، مع اعتبار أن أولويتها متأخرة عن غيرها.
وأما المصادر التي يستقي منها السياسي الأخبار والمقالات، فهي قنوات الأخبار المحترمة والصحف الرصينة، أي هي المصادر التي تهتم بتوثيق أخبارها، على أنه لا يصح للسياسي أن يسلم بما تقوله هذه المصادر تسليماً مطلقاً، وليتذكر دائماً أنه يبحث عن المعلومة المفيدة التي قد يجدها في هذه المصادر وقد لا يجدها. كما يلزم الانتباه إلى ميول هذه القنوات والصحف، فالصحف التي تميل إلى اليمين يراعى ميلها إلى اليمين حين أخذ الخبر منها، والصحف التي تميل إلى اليسار يراعى فيها ذلك أيضا. إن المعلومة قد تكون واحدة، ولكن صحف اليمين تصوغها بشكل، وتصوغها صحف اليسار بشكل آخر، فلا يصح أن يقع المتابع في فخ الصياغة اللغوية. ويجدر الانتباه إلى كاتب المقال الصحفي، حيث إن من الكتّاب والصحفيين من يَظهَر اتصاله بالحدث والمباشرين للحدث واهتمامه بدقة أخباره، فهؤلاء يكونون أولى من غيرهم في الانتباه إلى ما يصدر منهم من مقالات وأخبار.
كما أنه لا بد للسياسي من أن يتابع كل ما يصدر من المباشرين للأحداث أو المتأثرين بها، فإذا حصل حدث في منطقة الشرق الأوسط، وعقد وزير الخارجية الأمريكي مؤتمراً صحفياً عنه، فلا بد أن يسمع هذا المؤتمر الصحفي، ومثله رئيس أمريكا ومستشار الأمن القومي والناطق باسم البيت الأبيض وغيرهم ممن يتصلون بصناعة الحدث، وذلك باعتبار أن أمريكا هي الدولة الأولى في العالم في هذا الوقت، وأنها تبسط سيطرتها على الشرق الأوسط إجمالاً.
وهنا قد نصطدم في كثير من الأحيان بالتعارض بين الأقوال الصادرة من المسؤولين، أو التعارض بين الأقوال والأفعال، ولفك هذه المعضلة فإنه لا بد من تمييز الخبر الصحيح من القول المضلل، وذلك بالنظر في الظرف المرتبط بالتصريح، فقد يصرح الرئيس الأمريكي تصريحين يظهر فيهما التناقض، يكون واحد منهما موجهاً إلى الداخل الأمريكي، والآخر موجهاً للقضية أو الحدث، فإذا وُضع كل تصريح في سياقه سهل عليه معرفة التصريح الصحيح من التصريح المضلل. كما أنه لا بد من مقارنة التصريح بالأفعال على الأرض، ومقارنتها بالمعلومات المتاحة عن الحدث، وبالأهداف التي رسمتها الدولة التي صدر التصريح منها للحدث المعين أو المنطقة المعينة، فإذا كان التصريح متوافقاً مع المشروع والفعل متعارضاً مع المشروع السياسي المتعلق بالحدث يكون التصريح صادقاً والفعل تضليلاً، وإذا كان العكس فالعكس صحيح، فلا يمكن عزل الخبر عن الحالة أو الصورة العامة المتعلقة به.
وإن التضليل يحصل في الأفعال كما يحصل في الأقوال، وهو من المهارات التي تلزم السياسي، والسياسي الكافر يكذب ليضلل، لكن السياسي المسلم لا يكذب، بل يُعَرّض تعريضا يُفهم منه معنى قريب، ويكون قصده هو المعنى البعيد، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل السرية باتجاه مغاير لاتجاه هدفها، حتى إذا بلغت مبلغاً أمن فيه العدو وظن أنه غير مقصود بهذا التحرك أو الفعل، غيرت السرية اتجاهها إليه. وهذا يحصل في الأعمال السياسية كما يحصل في الأعمال العسكرية.
إن متابعة الأخبار وانتقاء الصحيح منها، وأخذ المفيد منها أمر بحاجة إلى مراس، حتى تتحصل الملكة فيسهل الأمر على صاحبها.[يتبع]
1447-01-06