القولُ المقبول في فهم منهجِ الرسول (1) ومنه طريقةُ خير الأنام في إقامة دولةِ الإسلام
2015/04/30م
المقالات
2,355 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ المقبول في فهم منهجِ الرسول (1)
ومنه
طريقةُ خير الأنام في إقامة دولةِ الإسلام
صالح عبد الرحيم – الجزائر
يجد القارئ فيما يلي القولَ الثمين في عملية إقامةِ الدين بالتأسي بالصادق الأمين والأخذِ من منهج خير المرسلين، و من ذلك ما تعنيه العودةُ إلى الإسلام في هذا الزمان، فنقول وبالله التوفيق:
خرج قطار المسلمين عن السكة عندما ترك المسلمون الإسلامَ عملياً بتفريطهم في دولتهم ووحدتهم، وذلك بزوال الخلافة الإسلامية وإلغائها من الوجود في بداية القرن الماضي (أي في 1924م). لذا باتت العودة إلى الإسلام تعني بالضرورة إقامةَ الدولة الإسلامية، وباتت مسألة العودة إلى الإسلام واستئنافِ الحياة الإسلامية هي الشغل الشاغل لأبناء الأمة الذين دبَّ فيهم الوعي. وباتت مسألةُ طريقة وكيفية الوصول إلى ذلك الهدف، محلَّ البحث منذ أمد غيرِ قصير، على اعتبار أن في الشريعة الإسلامية من القرآن والسنة المعالجة الصحيحة للمشكلة القائمة، والتي هي مسألة كيفية إقامة الدين من منهج الصادق الأمين.
إلا أنه بالنظر إلى ما يُطرح عادةً كإشكال في بحث هذه القضية، وهو السؤال: ما الذي جعل المسلمين ابتداءً يتركون الإسلامَ، وبالتالي يفرطون في الدولة التي كانت تجمع شملهم وتوحِّد كلمتَهم وتمثِّل جماعتَهم؟؟ فبالنظر إلى هذا الإشكال يصير بلا ريب زوالُ الخلافة نتيجةً وليس السببَ الأولَ فيما طرأ على حال المسلمين، هذا السبب الذي هو بدون شك ما حل بعقولهم وقلوبهم من ضعف الإيمان والابتعادِ عن فهم الإسلام فهماً صحيحاً كما جاء به من عند الله محمدٌ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذه النقطة بالذات يتَّفق الجميع. إلا أن زوالَ الدولة الإسلامية عند أكثر المسلمين اليوم، وخصوصاً عند من يحمل في عقله وقلبه وبين أضلعه ولو بعضاً من مرض فصلِ الدين عن السياسة وعن الدولة، هو من قبيل الأعراض والنتائج في آخر السلسلة، وهو أبعد ما يكون في نظرهم عن السبب في ما يشاهدُ من حال الأمة. بمعنى أنهم يقولون: عندما ترك المسلمون الإسلامَ زالت دولتهم. فكأن زوال الدولةِ ليس من التفريط في الدين. ونحن نقول: إن عملَ إقامة الدولة هو من جنس إقامة الدين، كما أن ضياعَ دولة الإسلام هو نفسه من التفريط في الإسلام وعدمِ التمسك بالدين. ثم إنَّه بِذهاب دولة الإسلام تَضاعفَ سوءُ فهم الإسلام، بل عدمُ فهم الإسلام، لدى أكثر المسلمين في أرجاء المعمورة، وبالتالي ابتعادُهم عن أحكامه. وزادت محنتُهم، واشتدَّ كربُهم، وذهبت وحدةُ المسلمين وعّزتُهم وقوَّتُهم وحلَّت مكانها أضدادُها ولا عجب. والفرق بين الفهمين يظهر جلياً عند التصدي للمعالجة: فيكون إصلاح حالِ الأمة عند أصحاب هذا الفهم هو أولاً تفهم الإسلام تفهماً صحيحاً ومُركَّزاً وسريعاً من قِبل المسلمين، في جماعة متكتلة تكتلاً سياسياً يستهدف أخذَ الحكم، ومباشرة إقامة الدولة على أساس الإسلام في بلاد المسلمين، وهو ما سوف يعالج أمورَهم من جذورها ويصلحُ حالهم جميعاً جملةً وتفصيلاً! بينما يرى أصحاب المنهجِ المقلوب أن حال الأمة ساءت في الأصل بسبب عدم التمسك بالإسلام، وليس من ذلك في أذهانهم التفريطُ في الدولة، رغم أنها – أي الدولة – من أمهات أحكام الشريعة الإسلامية التي بضياعها تتعطل كل أحكام الشريعة بالجملة وبالتفصيل؛ لأنها ببساطة هي في أذهانهم مفصولة عن الدين، وذلك بفعل الثقافة الغربية التي ركزها في أعماقهم الاستعمارُ الغربي. كما أنها – إن وردت في تصورهم – تأتي في المرحلة الأخيرة من تسلسل النتائج و الأسباب فيما يُرى من تراجع المسلمين بين الأمم، ومن خراب ديار المسلمين وضَياعهم على جميع الأصعدة وتأخُّرهم على طول الخط! فكان العلاج في نظرهم طبيعياً أولاً بعودة الأفراد إلى الإسلام – وليس من ذلك (كما أسلفنا) لا في تصوراتهم ولا في أعمالهم، الاستهدافُ المباشر لإقامة الدولة، ولا جزء واحد من ألف جزء من ذلك. بل ما تعنيه هذه العودة إلى الإسلام عندهم (بطبيعة مسلكهم) إنما هو تربية آحاد الناس واستقامة الأفراد، ثم تأتي الدولة طبيعياً في مرحلة ثانية أو ثالثة أو عاشرة لاحقاً! فكأنها ليست من الإسلام ابتداءً، ولو أنها مطلوبةٌ عند أكثرهم مرحلياً (فيما يقولون). ولهذا نجد طبيعياً أنهم يضعون مسألةَ قيام الدولة أو إقامتِها في مؤخرة أولويات العمل، بل هي ليست منها، لأنها تتقدمها مراحل (غير منتهية في حقيقتها)، منها إعداد أفراد المسلمين بالكثرة المطلوبة واستقامتهم بوصفهم أفراداً ليتكوَّن من مجموعهم المجتمعُ الصالح، وليس من ذلك كما قلنا حملُهم على إيجاد دولة الإسلام!!! ولهذا أيضاً – وهذا من غرائب الأمور ومن عجائب ما فعل الغزو الثقافي الاستعماري في بلاد المسلمين – أصبحوا يرون طبيعياً أنهم باستقامتهم على هذا النحو فإنهم هم أيضاً (في منطوق بعضهم على الأقل) يعملون لإقامة الدولة، ولكن على المدى البعيد!! بل باستقامتهم على هذا النحو – ولو باستقامة كل فرد منهم على حدة – أي بإعداد وتربيةِ ما يكفي من أنفسهم ومن أفراد المجتمع، بالأغلبية العددية المطلوبة كمّاً، سوف يتحول المجتمع آليّاً نحو تطبيق الإسلام، وهو المرحلة الأخيرة. وهذا خيال!! فكأن أعداءَ الإسلام من كل صنف ولون هم في انتظارهم لإنجاز هذا التحول شيئاً فشيئاً بالتدرج حتى يتغير المجتمعُ بهذه الطريقة الكمية تدريجياً ويحصل التحول في النهاية.
والحقيقة التي يجب أن يتم إدراكها في هذا المسألة، هي أن إعادةَ دولة الإسلام إلى الوجود ليست في حقيقة الأمر في برنامج العمل عندهم إلا وهماً، وذلك بسبب دهاء وفطنة مصممي هذا المنهج المقلوب، الذين أمعنوا في إيهامهم أنهم بمنهجهم هذا يكونون قد أخذوا بشمولية الإسلام، الذي هو عندهم دين ودولة، فكأن الدولة ليست من الدين ابتداءً! فصار البدء عندهم بما يرونه من الدين عاجلا،ً والانتهاء بالدولة لاحقاً، وهما مرحلتان مختلفتان منفصلتان في أذهانهم وفي ممارساتهم. والحقيقة أن الأولى غيرُ منتهية أبداً. وهو أمر لا نجده – ولا شيئاً مما يشبهه – لا في سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ولا في فهم الصحابة، ولا في خبر الأولين من السلف، ولا نجد أيَّ أثرٍ له في الإسلام مطلقاً، وهو أمر ليس من الإسلام في شيء – كما سيتبين!
إن من أهم الأمور التي تبين عظمةَ الشريعة الإسلامية، وتتجلى فيها قدرةُ الخالق عز وجل، أن نصوص الوحي (الآيات والأحاديث)، وإن كانت جاءت من عند الله الحكيم الخبير مربوطةً بأسباب نزول الوحي خلال ثلاثة وعشرين عاماً من حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وهي حياة مليئة بالصراع، بل كلها صراع بين الحق والباطل، بمعنى أن تلك النصوص الشرعية، وإن كانت نزلت مربوطةً – بتدبير من العزيز العليم – بأحداثٍ وحوادثَ في حياة البشر وقتئذ وفيهم رسولُ الله، إلا أنها في حقيقة الأمر جاءت لتعالج المشاكل الإنسانية (بوصف الإنسان إنساناً، فرداً أو مجتمعاً) إلى قيام الساعة أي إلى يوم القيامة، بغض النظر عن الظرف، والمقصود بالظرف هو الزمان والمكان وجميع الملابسات والأحوال. لذا كان لا غنى للمجتهد في الشرع عن دراسة علم القرآن والحديث إلى جانب ما يلزم من علوم اللغة العربية والأصول وغير ذلك، وكان لا مفر خاصةً لمن ينشد معالجة حالِ المسلمين في هذا الزمان، المتمثلةِ في الوضع المزري للأمة الإسلامية اليومَ (والذي لا يخفى على أحد)، من دراسة وفقهِ سيرةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم على وجه التحديد، ومن فهم السنةِ النبوية الشريفة ولا بد.
والناظر في ما يقوم به المتصدون لهذا الشأن، أي لمهمة معالجةِ وضع الأمة في هذا الزمان، يجد إشكالاً كبيراً هم واقعون فيه. فهم وإن اقتنعوا واتفقوا جميعاً على أن الحل يكمن في العودة إلى الإسلام، إلا أن هذه العودة تكاد تعني شيئاً مختلفاً تماماً عند كل واحد منهم! فمن متمسكٍ بالظاهر والقشور إلى غائصٍ إلى الأعماق والجذور، وكلهم يقول إنه يأخذ من السنة ومن السيرة! إلا أنَّ مما طغى مِن أفهامٍ مغلوطة لدى المسلمين في هذا الزمان لا نجد أشطَّ وأبعدَ عن الحق من خطأ التماسِ صلاح حال الأمة من خلال تقويم آحادها عند المطالبة بالعودة إلى الإسلام. وهو ما نسميه – فيما نحن بصدد بيانه الآن – المنهج المقلوب في معالجة أوضاع الأمة الإسلامية وإصلاح شؤونها وتصحيح مسارها.
وإذا كانت العودة إلى الإسلام على مستوى الفرد تعني بناء الفرد عقدياً بناءً سليماً، أي بناءَه إيمانياً بغرس العقيدة الإسلامية عميقاً في عقله وقلبه، وتعني كذلك التزامَه بتفاصيل الشريعة بحيث يُرى أثرُ ذلك في سلوكه، فإنه بالتدقيق يُرى جلياً أنه ليس بإمكان هذا الفرد أن يتجاوز في درجة الالتزام بالإسلام – بغية إصلاحِ نفسه – ما جاء في الوحي مما هو متعلق بتقويم الأفراد ولا يتعداه! وهو ما لا يكاد يخرج على العموم، فيما هو من الأحكام الشرعية، عن دائرة العبادات والأخلاق والمطعومات والملبوسات. وليس من ذلك شيء مما يعالج علاقةَ الفرد بغيره من الناس، أي ما يُقوِّم علاقاتِ الناس فيما بينهم وأحوالَهم مع غيرهم بوصفهم مجتمعاً. ثم من عجائب ما رأينا في هذا الزمان أن المصلحين لا يزالون في مجمل خطابهم يدعون المسلمين على المنابر إلى العودة إلى الإسلام بهذه الطريقة السطحية المغلوطة، لا يزالون مصرين عليها بالإلحاح وبالتكرار، رغم تبيُّن عقمِها وضحالة نتائجها، والجميعُ في انتظار تغير حال الأمة شيئاً فشيئاً حتى يبلغ مداه كمّاً، فيحصل التحول في المجتمع – كما في أذهانهم – من حال الانكسار والذلة والهوان إلى حال الخيرية المطلوبة في هذه الأمة وحالِ العز والرفعة المنشودة لها بين الأمم؛ وهذا وهم. والسببُ في ذلك يعود إلى ما تركز في أذهانهم من نظرة مقلوبة لتركيبة المجتمع جراء ما وفد إلى ديار المسلمين (خلال أكثر من قرنين من الزمن) من سموم فكرية وثقافة غربية، قلَبتْ (وما زالت تقلب) كلَّ التصورات لدى معظم المسلمين، وفعلت فعلها في عقولهم وقلوبهم، بما في ذلك علماؤهم. حتى صارت العودة إلى الإسلام في هذا الزمان معضلةً حقيقيةً!!
والحقيقة أنه ليس في الشريعة ما يوحي بهذه النظرة الكمية للمجتمع مطلقاً لا من قريب ولا من بعيد، بل إن في الشريعة كل ما يُناقض هذه النظرة تماماً. ذلك أن متطلَّباتِ تقويم الأفراد أي آحاد الأمة تختلف كلياً عن كيفية تقويم حال الجماعة والمجتمع. كما أن هذه الطريقة المقلوبة في العمل من أجل تغيير حال الأمة إلى أحسن حالٍ تنطوي على كثير من التفاهة والسفاهة، فضلاً عن كونها مخالفةً للشرع ومعاكسةً لفعل الرسول (كما سيتبين)، فإذاً مِن أين هي جاءت؟! ولا شك أن الحل للمعضلة القائمة اليومَ بالتدقيق فيما جاء به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو استهداف إقامة الدولة على أساس العقيدة الإسلامية، أي إعادة الخلافة سريعاً، لكي تعود الأمور إلى نصابها، وحتى لا تزداد أوضاع المسلمين سوءاً مع الزمن، في زمن هيمنة أعدائهم عليهم كما هو مشاهدٌ اليوم. وهو – أي استهدافُ إعادة الخلافة – أمرٌ لا يمكن حتى على مستوى التصور (فضلاً عن العمل) أن يكون هدفاً مسطَّراً لدى من ينشد إصلاحَ أو تغييرَ واقع المسلمين بهذه الطريقة المقلوبة باتجاه العودةِ إلى الإسلام وإيجادِ المجتمع الإسلامي، كما قد يزعم أصحابها، حتى على أبعد تقدير، أي على أبعد أمدٍ ممكن في الزمن. ولو أن المسلمين كل المسلمين أو عقلاءهم – أخذوا من الإسلام لمعالجة أحوالهم – أي أنهم لو تداعَوا إلى إصلاح أوضاع الأمة قبل زوال الخلافة العثمانية (وهي آخر دولة إسلامية) بالمحافظة على بقاء الدولة وعلى وحدة الدولة، أي بالطريقة الشرعية الضامنة لبقاء الإسلام حياً على المستوى العالمي، وموجوداً في حياتهم بوصفهم أمةً، بمعنى المحافظة على سلطان الأمة وسيادةِ الشرع في دولتهم مهما كان الموقف ومهما تعقَّد الوضع، وهي (أي الدولة) أحكام شرعية ملتصقة بالعقيدة ومن صميم الدين، ولو أنهم سارعوا إلى إعادة دولةِ الإسلام في لحظة سقوطها قبل عقود، لأمكنهم بدون شك تفادي أو تداركُ أكثر ما حل بهم فيما بعدُ من مصائب ونكبات. ولكن كان الحال خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين أن وُجد من بين المسلمين (ومن غيرهم من داخل الدولة) مَن بدأ ينظر للدولة والمجتمع والحياة عموماً نظرةَ الغربيين لها – بفعل الغزو الفكري والثقافي الاستعماري، وبفعل الكيد الأجنبي الأوروبي بواسطة الجواسيس والعملاء. وكان هؤلاء الغربيون قد أقاموا دولاً قويةً في أوروبا على أساس فكرة مدنية الدولة وإبعاد الدين عن السياسة، أي على أساس معاداة المسلمين فكرةً وطريقةً، وبالأخص الإنجليز، الذين استطاعوا فيما بعدُ القضاءَ على دولة المسلمين مع مطلع القرن العشرين. ومِن هؤلاء – أي مِن كفار الإنجليز – جاء الشر كله. فمن هذه الحقبة التاريخية جاءت هذه الطريقةُ الواقعية المقلوبة لتستبق وتقطعَ كلَّ سبيل على أي محاولة من عقلاء المسلمين لتصحيح أوضاعهم والخروج من محنتهم. فصار المسلمون اليومَ بعد زوال دولتهم وتفرق كلمتهم وتشتت أوضاعهم وتقطع أوصالهم، يعملون لمعالجة حالهم، أي ما حلَّ بأنفسهم وما وقعَ في بلادهم – بعد أن أيقنوا الآن أن الداء استفحل فيهم، وأن خنجر الأعداءِ قد فعل فعلَه فيهم، وأن المصيبة تحولت اليومَ إلى كارثة عظيمة على كل المستويات في بلادهم – صاروا يعملون لمعالجة حالهم وتصويب أمرهم بما هو من جنس ما كان سبباً في جميع أدواءهم!! وهذا بلا شك من براعة كفار الإنجليز في إفساد أحوال الشعوب والأمم.
وأسوأ من هذا أن يقول أمثلهم طريقةً أن ليس في الشريعة طريقة مُتعيَّنة لإيجاد المجتمع الإسلامي ابتداءً، على اعتبار أن السيرةَ في نظرهم تجربة تاريخية ليست قابلة للاستنساخ فضلاً عن أن تكون وحياً يُتبع في كل عصر. وإذْ قرَّروا أنها تاريخ قد مضى، فمن أين لهم بالتالي أن يأخذوا حلولَهم؟! خصوصاً وأن الغربيين بوصفهم رأسماليين نفعيين ومستعمرين ماكرين (يخالف ظاهرُهم باطنَهم) برعوا في قلب الصورة عن شخصيتهم، في مقابل سذاجة محزنة لدى هؤلاء المسلمين وسطحية مفرطة تنطوي على كثير من العاطفة وإثارة المشاعر والدروشة على حساب الكياسة والفطنة والعقل والفهم. وكثيراً ما ينظر هؤلاء إلى مَن ينظرون في السيرة لاستنباط طريقةِ النهوض بالأمة نظرةَ ازدراء متهمين إياهم بالقِدَم والالتصاق بالماضي، علماً أن حياة المصطفى بعد بعثته أي طوال فترة نزول الوحي، وإن كانت حياةً بشريةً إلا أنها كانت مؤيدة من السماء، أي بما كان ينزل من عند الله قرآناً وسنةً على محمد بن عبد الله الذي لم يكن بشراً أيَّ بشرٍ وإنما كان بشراً رسولاً (يوحى إليه). ولهذا كانت سنته من مصادر الهدى والتشريع في الإسلام، تماماً كما هو القرآن. ولو كانت حياته صلى الله عليه وسلم كما ينظر إليها هؤلاء وأمثالُهم، لما كان في الشريعة الإسلامية لِلَفظ السُّنة فضلاً عن معناها أيُّ اعتبار، وليس الأمر كذلك باتفاق، إذْ هي صنو الكتاب في شريعة الإسلام ولا ريب. فكان لا بد أن يكون في السنة من سيرة الصادق الأمين منهجُ إقامة الدين، وهو ما ذكرناه في أول الكلام، من وجوب صحيح النظرِ في سيرته عليه الصلاة والسلام، لاستنباط هديِ خير الأنام لمعالجة حال الأمة في هذا الزمان.
والمدقق في الأمر يجد أن مسألة وجوب التأسي بفعل الرسول ليست واردة – وإن زعموا – عند أصحاب هذه الطريقة المغلوطة والمقلوبة البتة، وإنما هي مأخوذة من واقع تسلط القيم والمفاهيم الغربية على حياة المسلمين، أي من واقع هيمنة الغرب الحاقد عدوِّ المسلمين على كل تفاصيل حياة الأمة الإسلامية! فكثير منهم بات يرى أن الدولة وشكلَها مسألة تقنية ليس للشرع ما يقول فيها (ككيفية بناء جسر مثلاً). فمِن أين سيأتي تغيُر حال الأمة إلى ما تريده الأمةُ حقيقةً (وهو العودة إلى الإسلام) وفق هذا المنهج السقيم؟! كما يجد المدقق أكثر، أن البنية الفكرية والثقافية لأكثر الدعاة والمصلحين اليومَ خصوصاً مَن وُضعوا على المنابر، والذين عادةً ما يغلب عليهم الحفظ على حساب الفهم، تُفسِّر تلقائياً – في أحسن الأحوال – مسألةَ التأسي والاقتداء برسول الله (عند من يقول بلزومه) تفسيراً يصرفه عن معناه، إما إلى الفردية في الاقتباس من شمائل الرسول بهدف إبعاد مسألة الدولة عن الأذهان، أو إلى الحَرْفية والتمسكِ بأشكال وأساليبِ الماضي وذلك بقصد تشويه الإسلام (كونهم من توابع الأنظمة)، وإما إلى تفسير السنة تفسيراً يوافق العصرَ في زمن هيمنةِ الغرب، وذلك بغرض تحريفه أو تمييعه. وليس كل ذلك من الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء. وذلك كما يفعل اليومَ مثلاً من يجهد لاستنباط مفهوم الدولة المدنية أو مفهوم المواطنة (المستورد من الغرب) من فعل الرسول ومن الخطب التي خطبها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن العهود والمواثيق التي أبرمها عند وصوله إلى المدينة عند قيام الدولة الإسلامية الأولى. فصار بذلك هؤلاء أيضاً من أدوات الأنظمةِ في تنفيذ برامج الغربِ وإبعاد المسلمين عن الجادة، كونهم يحملون ثقافةَ الغرب ويروجون بين المسلمين مفاهيمَه عن الحياة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
والحقيقة أن قطارَ المسلمين بوصفهم أمةً خرج عن السكة يوم ألغيت دولتُهم من الوجود، لأن ذلك إنما يعني تخلِّيهم عن تطبيق الإسلام وحملِ رسالة الإسلام عملياً، ثم باتت بعد ذلك العودةُ إلى الإسلام أمنيةً كثيراً ما نسمعها تتردد على المنابر في الأدعية كقولهم «اللَّهم رُدَّنا إلى الإسلام رداًّ جميلاً»! كما باتت لا تعني في تصور أكثر المسلمين سوى التمسك بما يمكنهم أن يلتزموا به من أحكام الإسلام بوصفهم أفراداً، تاركين ما يُصلح المسلمين بوصفهم مجتمعاً. فكأنَّ الواحدَ منهم بتمام صلاحِ نفسه يصير ينتظر صلاحَ الآخرين! وهذا النهج في الدعوة هو أبعد ما يكون عن تحقيق عودة الأمة إلى الإسلام بوصفها أمةً، مهما التزم هؤلاء الأفراد بما يمكنهم من مقومات الفرد ومهما كثر عددهم، وطال أمدهم، إذ مقومات المجتمع تختلف عن ذلك اختلافاً كلياً، وهذا السبيل في الدعوة هو ما نسميه المنهج المقلوب. فلا شيء في الحقيقة يوقف تدهور حالِ المسلمين، ويضمن وجود الإسلام حياً في حياة الناس، ويضمن وجودَ الإسلام والمسلمين عالمياً، أي وجودَ الإسلام على المسرح الدولي، سوى طريقته في ضمان كل ذلك، وهي دولة المسلمين. وهي الخلافة. ثم إن من عجائب ما صنع الغربيون أنهم نجحوا نجاحاً باهراً بالمكائد والخدع المميتة في قهر المسلمين سياسياً وعسكرياً وبرعوا في إفساد حياتهم، بأن غزَوهم في عقر دارهم وقضَوا على دولتهم واحتلُّوا أوطانَهم وأخذوا ما بأيديهم بعد أن قسَّموا بلادَهم وحكموا شعوبهم بأنفسهم وبعملائهم، فأي مصيبة أعظم من هذه؟ فكأنهم بذلك أثبتوا لأنفسهم وللعالم «تفوُّقَ» حضارتهم على ما سواها، وأثبتوا للمسلمين – لضعاف العقولِ منهم – أن زمنَ الإسلام قد مضى، وأن الإسلام لم يعد يواكب عجلة التاريخ ولا ركب العالَم والعلم والحضارة والعصر، ولا ما توصلت إليه الإنسانية على أي صعيد. فكان من نتائج وعجائبِ ما صنعوا أن أوجدوا من بين المسلمين من يحمل هذا السمَّ وهذا السقم. فمن رحم هذه المصيبة خرج هذا المنهج المقلوب في فهم الإسلام وفي ما تعنيه العودةُ إلى الإسلام، فليكن ذلك معلوماً.
ثم إن المدقق في هذه النظرية المقلوبة في الإصلاح يجد أيضاً مُصادرة مميتة للمطلوب، بمعنى أن أصحابَ هذا الفهم المغلوط يكونون بهذه الطريقة الواقعيةِ قد أسَّسوا على مستوى العمل – كما أسَّسوا على مستوى التصور – لِما من شأنه أن يحول دون تغيُّرِ حال المجتمع مهما كثر العمل وطال الزمن. وهو المطلوب عند مَن وضع أسسَ هذا المنهج الواقعي السقيم! ولهذا أيضاً نجدهم على منابر الخطابة في المساجد وقاعات المحاضرات في الجامعات وعلى أمواج الإذاعات والفضائيات يُكثرون من المطالبة بالعودة إلى الإسلام، وهو قول نسمعه خاصةً في كل جمعة في كل مسجد في أكثر البلاد الإسلامية (على مدى عقود!)، بل ويسابقون فيه على كل منبر وعلى لسان كل داعية ينشد معالجةَ حال الأمة، دون أن يُحدث ذلك أيَّ تحول يذكر في أحوال هذه الأمة، إن لم نقل أن هذه المطالبةَ بالفعل باتت تأتي بالنتائج العكسية والتداعيات السلبية، أي أنها أصبحت بطريقة عجيبة تَغرس الفرديةَ في الناس وتكرس الواقعَ وتعزز تثبيتَ الأوضاع التي يحافظ عليها الحكامُ العملاء للاستعمار الذين ينصِّبون بدورهم (كما نصَّبهم أسيادُهم) كلَّ من يتحدث ويخاطب الناسَ من على هذه المنابر مهما تعددت، ومن خلال المؤسسات التي أقاموها لهذا الغرض مهما كثرت، ويمنعون منها كلَّ مَن يجعل إيجادَ الدولة، أي الخلافة، في مقدمة ما تعنيه هذه العودة إلى الإسلام التي يطالب بها الجميع. فليكن معلوماً لدى هؤلاء أن العودةَ إلى الإسلام إنما تعني عملياً إقامةَ دولة الإسلام، وهو عينه استئناف الحياة الإسلامية وإقامة الدين! وهو قول لا يجرؤ عليه في خطب الجمُعات على المنابر إلا من هدى الله! لأنه قول لا ينسجم مع تعليمات مَن وضعوهم في ذلك المكان الذي هم فيه! فليتقوا الله في أمة محمد وليقولوا قولاً سديداً!
وإذا ثبت هذا، يثبت معه حتماً أن ما نراه اليوم من حراك في أرجاء الأمة في وجه الحكام بسبب ما دبَّ أو بدأ يدب في الأمة من وعي على خلفية سخط الناس وتذمرهم من سوء الرعاية (أو انعدامها) في بلاد المسلمين بسبب البعد عن مبدأ الأمة، بمعنى غيابِ الدولة الإسلامية، ليس بالتأكيد – ولا يمكن أن يكون – بسبب وجود مثل هذه الحركات الواقعية فيها. وذلك لأنها حركات واقعية ترقيعية تثبيطية تكرس الواقع وتثبِّت الأوضاعَ القائمة ويسهل توظيفُها من قِبل الأنظمة العميلة، كما أنها بطبيعة نشأتها وتركيبتها تُغطي على منابع الفسادِ الحقيقية في المجتمعات، وتنطلي عليها في كل نازلةٍ جميعُ حيل الغرب وأساليبه، فكانت بذلك متواطئة فضلاً عن كونها تسحب إلى الخلف. بل كثيراً ما يُؤتى بها إلى الواجهة مرحلياً ويَلجأ إليها الحكامُ ومَن وراءهم في حال الشدة والعسر لإخماد الثوراتِ المزعجة وكبت أي تحركاتٍ قد تزعزعهم، ولإطفاء غضب الشعوب واحتواء أي حراك من قِبل الأمة في اتجاه تحررها من قيود الهزيمة والتبعية للغرب. وذلك بما يمتلك أفرادُها من «حكمة وحنكة» ووسطية واعتدال (بين الأمة وأعدائها)، كونهم أرباب التنازلات والتوفيقات والحلول الوسط في مسائل الدنيا كلها. والأمثلة صارخة أمامنا على خيبات الأمل المتلاحقة التي تَنتج دائماً فيما بعدَ امتصاص غضبِ الناس وعودةِ الأمور إلى «نصابها» لصالح الغرب! فكان الهدف من إيجادها ابتداءً إنما هو تثبيت الواقع وتفويت الفرص وتضييعها على المسلمين في كل مرة. وفي كل خيبة ونكسة تُنفق الأمة عادةً (زيادةً على الدماء والأموال) عشراتِ السنين من أثمن أوقاتها لإزالة آثارها. ثم إن الغربَ – بعدما تفوق سياسياً وعسكرياً – عمد منذ أمد إلى استخدامها في عملية التفاعل العكسي في داخل الأمة، أي في تفاعل أفكار الغرب ومفاهيمه مع أبناء الأمة في مجتمعات المسلمين، وهو اليومَ (أي الغرب) في حالة القوة بدُوله، وهم في حالة الضعف بغياب دولتهم! كما أنه برع في توظيفها وامتطائها في عملية تسويق وتسهيل استساغةِ وابتلاعِ مفاهيم الحضارةِ الغربية باعتبارها حضارةً إنسانية عالمية تصلح لجميع الناس (من قبيل العلم والتكنولوجيا)، وهو ما أبعدَ المسلمين عن الإسلام وقرَّبهم من وجهة نظر الغرب ونظرته إلى شؤون الحياة، ومن أهمها الحكم والاقتصاد. فصار يكفي أن تُضاف كلمة «إسلامي» أو «إسلامية» لأي بضاعةٍ أو مفهوم غربي ليتم إدخاله إلى حياة المسلمين! كما يُشاهد هذا التوظيف لأصحاب هذه الحركات في كل ما تفعله الدولُ الغربية اليومَ على كافة الأصعدة (وعلى رأسها أميركا وبريطانيا) لتحويل المسلمين إلى الرأسمالية المقيتة بأساليب جد خبيثة لا تَنتج عنها سوى الضربات الموجعة والنكسات المتتابعة، والواقع يشهد على ذلك.
فاعلم – رحمك الله – أن هذا هو سببُ وسر عدم تغير حالِ الأمة بهذه الدعوات المفتوحة العقيمة (من العُقم) على كل المنابر، وبهذه الدروس المبتذلة وكثرةِ المؤلفات (المسموح بها في المكتبات) والخطبِ المملولة والمموَّلة بالطرق الذكية و الأساليب الخفية الخبيثة من الحكومات المتفننة في تضليل المسلمين وإبعادهم عما يُصلح حالَهم حقيقة لا وهماً، وهو الدور المنوط بها (أي بالحكومات) من حيث إن القوى الاستعمارية الغربية – بوصفها دولاً حقيقية – كانت قد دخلت منذ أمد بعيد مرحلةَ استباق كل ما من شأنه أن يُحدث أيَّ بصيص من الأمل لدى أمة محمد صلى الله عليه وسلم في استعادة وعيها وسؤددها وسلطانها، وفي انعتاقها واسترداد مكانتها، فإلى أين المهرب إن لم يكن إلى الله؟!
ثم إن الأسوأ من ذلك كله أن أصحاب هذا المنهج المقلوب لا يترددون في اعتبار هذه «الدول» التي صنعها الاستعمار في البلاد الإسلامية – على أنقاض الخلافة العثمانية – دولاً إسلامية. فمن هذه الزاوية أيضاً يثبتُ أن إقامة دولة الإسلام ليس ولم يكن يوماً من برنامج عملهم أصلاً – فما دور أصحابِ هذه الحركات إذن؟ كما يبدو كذلك من هذه الناحية بالتالي منهجُهم مبرراً، كون الدولة المنشودة موجودة – وإن تعددت، وأن المطلوبَ إنما هو إصلاح أفراد مجتمعات المسلمين وتقويمهم بما يصلح حالهم، وبذلك يصير الواجب هو أن ينصرف العملُ إلى هذا النوع من الإصلاح، وهو ما سوف يحقق المبتغى في نظرهم في النهاية، وكان طبيعياً أن يتصدى الدعاة على هذه الشاكلة إلى معالجة مقومات الأفراد، وكان هذا عندهم هو معنى تحقيق المجتمع الإسلامي، وهو المطلوب! ونحن نقول: هيهات!
والأسوأ من هذا الأسوأ أنهم يعتبرون فهمهم هذا مستنبطاً من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدخرون جهداً في التأسيس له من فعل الرسول على طريقة من يقرر أولاً ثم يعمد إلى تكييف النصوص لكي تؤدي المعاني المطلوبة والمقصودة، ولو بأي وجه من الوجوه، وهو ما خلط الأمورَ منذ عقود في أذهان المسلمين ويخلط الأمورَ اليومَ على أكثر المسلمين في هذا الشأن، إلى درجة عدمِ تبين الليل من النهار. فاعلم أنه لا بد من العلم الصحيح والفكر العميق المستنير قبل العمل. [يتبع]
2015-04-30