العدد 340 -

السنة التاسعة والعشرون جمادى الأولى 1436هـ – آذار 2015م

حديقة الخلفاء الراشدين

بسم الله الرحمن الرحيم

حديقة الخلفاء الراشدين

أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بسنة الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم أجمعين، كما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره بإسناد صحيح: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» وكم نحن بحاجة اليوم إلى تذكر ما كانوا عليه لكي تتوق نفوسنا إلى التمثُّل الصحيح والتغيير الصحيح،  فهؤلاء كانوا خير أمثلة ونماذج يحتذى بها، وهؤلاء قد ارتبطت حياتهم بالحكم ورعاية شؤون المسلمين. وهؤلاء أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نكون على سيرتهم العطرة.

 من خلال هذا الحديث، ومن خلال الواقع الذي نعيش فيه، ترغب الوعي بالدخول إلى حديقة مواقفهم في الالتزام والدعوة والحكم والرعاية لتكون منارة لنا، ولرفع الشبهة عنهم، وللتمييز بين الدعوة والدعوى بالتمثُّل بهم…

(1)

أبو بكر الصديق رضي الله عنه

– قال النووي في تهذيبه: وما ذكرناه -من أن اسم أبي بكر الصديق عبد الله- هو الصحيح المشهور، وقيل: اسمه عتيق، والصواب الذي عليه كافة العلماء أن عتيقًا لقب له لا اسم، ولقّب عتيقًا لعتقه من النار، كما ورد في حديث رواه الترمذي، وقيل: لعتاقة وجهه -أي: حسنه وجماله- قاله مصعب بن الزبير، والليث بن سعد، وجماعة. وقيل: لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب به.

قال مصعب بن الزبير وغيره: وأجمعت الأمة على تسميته بالصديق؛ لأنه بادر إلى تصديق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولازم الصدق، فلم تقع منه هناة ما، ولا وقفة في حال من الأحوال، وكانت له في الإسلام المواقف الرفيعة منها قصته ليلة الإسراء، وثباته، وجوابه للكفار في ذلك، وهجرته مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وترك  عياله وأطفاله، وملازمته في الغار وسائر الطريق، ثم كلامه يوم بدر ويوم الحديبية حين اشتبه على غيره الأمر في تأخر دخول مكة، ثم بكاؤه حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة»، ثم ثباته يوم وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخطبته الناس وتسكينهم، ثم قيامه في قضية البيعة لمصلحة المسلمين، ثم اهتمامه وثباته في بعث جيش أسامة بن زيد إلى الشام وتصميمه في ذلك، ثم قيامه في قتال أهل الردة ومناظرته للصحابة حتى حجهم بالدلائل، وشرح الله صدورهم لما شرح له صدره من الحق -وهو قتال أهل الردة- ثم تجهيزه الجيوش إلى الشام للفتوح وإمدادهم بالأمداد، ثم ختم ذلك بمهمّة من أحسن مناقبه وأجل فضائله، وهو استخلافه على المسلمين عمر -رضي الله عنه- وتفرسه فيه، ووصيته له، واستيداعه الله الأمة، فخلفه الله -عز وجل- فيهم أحسن الخلافة، وظهر لعمر الذي هو حسنة من حسناته وواحدة من فعلاته تمهيد الإسلام، وإعزاز الدين، وتصديق وعد الله تعالى بأنه يظهره على الدين كله، وكم للصديق من مناقب ومواقف وفضائل لا تحصى؟ هذا كلام النووي.

– فصل في اسمه ولقبه:

تقدمت الإشارة إلى ذلك. قال ابن كثير: اتفقوا على أن اسمه عبد الله بن عثمان، إلا أن ما روى ابن سعد عن ابن سيرين أن اسمه عتيق، والصحيح أنه لقبه، ثم اختلف في وقت تلقيبه به وفي سببه، فقيل: لعتاقة وجهه أي: لجماله، وقيل: لقدمه في الخير، وقيل: لعتاقة نسبه -أي: طهارته، إذ لم يكن في نسبه شيء يعاب به. وأخرج الترمذي والحاكم، عن عائشة -رضي الله عنها- أن أبا بكر دخل على رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فقال: «يا أبا بكر، أنت عتيق النار»، فمن يومئذ سمي عتيقًا، وأخرج البزار، والطبراني بسند جيد عن عبد الله بن الزبير، قال: كان اسم أبي بكر عبد الله، فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: «أنت عتيق الله من النار» فسمي عتيقًا.

وأما الصديق فقيل: كان يلقب به في الجاهلية؛ لما عرف منه من الصدق ذكره ابن مسدي. وقيل: لمبادرته إلى تصديق رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فيما كان يخبر به. قال ابن إسحاق عن الحسن البصري وقتادة: وأول ما اشتهر به صبيحة الإسراء. وأخرج الحاكم في المستدرك عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاء المشركون إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسريَ به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، فقال: لقد صدق، إني لأصدقه بأبعد من ذلك -بخبر السماء غدوة وروحة، فلذلك سمي الصديق، إسناده جيد، وقد ورد ذلك من حديث أنس وأبي هريرة، أسندهما ابن عساكر وأم هانئ أخرجه الطبراني.

قال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا أبو معشر عن وهب مولى أبي هريرة، قال: لما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة أسري به، فكان بذي طوىً، قال: «يا جبريل، إن قومي لا يصدقوني» ، قال: «يصدقك أبو بكر، وهو الصديق»، أخرجه الطبراني في الأوسط موصولا عن أبي وهب عن أبي هريرة2.

وأخرج الحاكم في المستدرك عن النزال بن سبرة قال: قلنا لعلي: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن أبي بكر، قال: ذاك امرؤ سماه الله الصديق على لسان جبريل، وعلى لسان محمد، كان خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الصلاة، رضيه لديننا فرضيناه لدنيانا، إسناده جيد. وأخرج الدارقطني والحاكم عن أبي يحيى، قال: لا أحصي كم سمعت عليًّا يقول على المنبر: إن الله سَمّى أبا بكر على لسان نبيه صديقًا. وأخرج الطبراني بسند جيد صحيح عن حكيم بن سعد قال: سمعت عليًّا يقول ويحلف: لأنزل الله اسم أبي بكر من السماء الصديق، وفي حديث أحد: «اسكن، فإنما عليك نبي وصِدِّيق، وشهيدان».

فصل في منشئه:

ولد بعد مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- بسنتين وأشهر؛ فإنه مات وله ثلاث وستون سنة. وكان منشؤه بمكة، لا يخرج منها إلا لتجارة، وكان ذا مال جزيل في قومه، ومروءة تامة، وإحسان، وتفضل فيهم، كما قال ابن الدّغنّة: إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتكسب المعدوم، وتحمل الكَلّ وتعين على نوائب الدهر، وتقري الضيف.

قال النووي: وكان من رؤساء قريش في الجاهلية، وأهل مشاورتهم، ومحببًا فيهم، وأعلم لمعالمهم، فلما جاء الإسلام آثره على ما سواه، ودخل فيه أكمل دخول.

وأخرج الزبير بن بكار وابن عساكر عن معروف بن خربوذ قال: إن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- أحد عشرة من قريش اتصل بهم شرف الجاهلية والإسلام فكان إليه أمر الدّيات والغرم، وذلك أن قريشًا لم يكن لهم ملك ترجع الأمور كلها إليه، بل كان في كل قبيلة ولاية عامة تكون لرئيسها، فكانت في بني هاشم السقاية، والرفادة، ومعنى ذلك أنه لا يأكل ولا يشرب أحد إلا من طعامهم وشرابهم، وكانت في بني عبد الدار: الحجابة، واللواء، والندوة -أي: لا يدخل البيت أحد إلا بإذنهم- وإذا عقدت قريش راية حرب عقدها لهم بنو عبد الدار، وإذا اجتمعوا لأمر إبرامًا أو نقصًا لا يكون اجتماعهم إلا بدار الندوة، ولا ينفذ إلا بها، وكانت لبني عبد الدار.

فصل في عفته:

أخرج ابن عساكر بسند صحيح عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: والله ما قال أبو بكر شعرًا قط في جاهلية ولا إسلام، ولقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الجاهلية. وأخرج أبو نعيم بسند جيد عنها، قالت: لقد حرّم أبو بكر الخمر على نفسه في الجاهلية. وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن الزبير قال: ما قال أبو بكر شعرًا قط.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *