العدد 450-451-452 -

السنة الثامنة والثلاثون، رجب – شعبان – رمضان 1445هـ الموافق شباط – آذار – نيسان 2024م

ما وراء الدعوات الأمريكية الأوروبية الأخيرة لدمج كيان يهود في المنطقة؟

عبد الستار عبد الله

الأرض المقدسة فلسطين

لوحظ بعد عملية طوفان الأقصى استخدام سياسيين أمريكيين وأوروبيين، وبشكل أكبر، كلمة «دمج» في حديثهم عما يريدونه ويرونه بشأن العلاقة بين كيان يهود والدول العربية الإسلامية في المنطقة. فقد أكد على سبيل المثال وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن «أن دولًا عربية عدة أصبحت مستعدة لدمج (إسرائيل) في المنطقة، وإقامة علاقات معها» (17/1/2024م)، وقال أيضًا في مؤتمر الأمن الذي عقد في ميونيخ (17/2/2024م) إن «هناك فرصة استثنائية لدمج إسرائيل بالشرق الأوسط مع رغبة الدول العربية في تطبيع العلاقات معها»، كما اقترحت وثيقة أوروبية في بروكسل (22/1/2024م) خطة سلام تتضمن حل الدولتين، ودمج كامل مع (إسرائيل) في المنطقة.

دلالة مصطلح «الدمج»

مصطلح «الدمج» أو «الدمج السياسي» ببساطة يعني عملية انضمام واختلاط ناجحة بين جهتين (دولتين، أحزاب..إلخ) أو جهات سياسية مختلفة؛ بحيث تصبح هذه الجهات، التي يراد لها أن تندمج، جهة واحدة في الفكر والسلوك السياسي. والدمج بهذا المعنى يقتضي توافق كامل بين الجهات المندمجة في جميع التصورات والأهداف والحلول السياسية.

في ضوء ذلك فإن الدمج الذي يدعو إليه الغرب بين كيان يهود والدول العربية يعني قبول كامل من الدول العربية بوجود (إسرائيل) ككيان شرعي وطبيعي في المنطقة، ويعني سلام كامل وتام معها، ويعني إقامة علاقات طبيعية معها، وفي كافة المجالات، كما يعني أن يصبح كيان يهود عضوًا كاملًا في الهيئات السياسية الإقليمية، كجامعة الدول والعربية، مثل شقيقاتها العربية سواء بسواء!!   

والدمج أعلى وأخطر من التطبيع. فتطبيع العلاقات (في الاصطلاح السياسي) يشير إلى جعل العلاقات طبيعية بين الكيانات السياسية المختلفة، بعد فترة من التوتر أو الصراع أو الحرب أو القطيعة بينها، لأي سبب كان؛ حيث تعود العلاقة طبيعية بينها، وكأن لم يكن هناك خلاف أو صراع سابق. أما الدمج فيقتضي أن تصبح هوية الكيانات المندمجة هوية سياسية واحدة وموحدة، في السرَّاء والضرَّاء، وفي العلن قبل السر!!!.

أمريكا تقود الغرب في الدعوة للدمج

إن من خطة أمريكا في المنطقة، ومنذ قيام كيان يهود، جعله كيانًا طبيعيًّا مدمجًا بأقرانه من دول سايكس بيكو العميلة لها في المنطقة. فهذا آخر رئيس للولايات المتحدة (بايدن) يؤكد على ذلك في أول زيارة له لكيان يهود، بعد تنصيبه في صيف 2022م حين قال: «نريد أن نعزز دمج إسرائيل في المنطقة…نريد أن نبني هيكلًا للأمن والاقتصاد بين الدول في المنطقة في ضوء اتفاقيات إبراهام (الدين الإبراهيمي المزعوم)»!! ومن نافلة القول التأكيد على أن يهود طالما حلموا بهذا الدمج الذي يجعلهم يسيطرون ويهيمنون على المنطقة بإشراف أمريكا.

لكن وتيرة حديث أمريكا عن «الدمج» تصاعدت مؤخرًا بسبب تداعيات ما حصل في 7 أكتوبر (عملية طوفان الأقصى). فهذه العملية كشفت بجلاء الحقيقة التي طالما حاول يهود والغرب والأنظمة في المنطقة إخفاءها، وهي أن كيان يهود كيان كرتوني زائل لا محالة، وأن انتهاءه من الوجود مسألة وقت وأمر ميسور، وأن استمراره في الوجود سببه دعم الغرب له وخيانة الأنظمة، وأن الأمة حيَّة وتتململ باتجاه تغيير حالها. فزلزال طوفان الأقصى، ولأول مرة منذ قيام (إسرائيل) جعل يهود يلمسون، لمس اليد، أن نهايتهم وشيكة، وجعل أمريكا ترتعب وتخشى على وجودها هي واستعمارها للمنطقة على وجه الحقيقة، بعد أن لمست وأدركت أن كيان يهود يهدده الزوال الحقيقي.   

من أجل كل ذلك، وفي هذه الأوقات الحاسمة، فإن أمريكا تعي الحاجة إلى رعاية وتسويق خطاب سياسي يعيد الأوضاع، على الأقل، إلى ما قبل السابع من أكتوبر، تحافظ  فيه على مصالحها في المنطقة، وخصوصًا في إدارتها لملف فلسطين. أما خطابها السياسي الذي تدعو وتعمل له اليوم فهو ما تسميه «حل الدولتين» و«الدمج». وعلى الرغم من أن يهود يقاومون حل الدولتين بشدة لأنهم يهود ولا يعطون الناس نقيرًا، وأنه حل بات صعب التجسيد كحل عملي وميداني الآن في فلسطين، فإن «الدمج»، الذي يطمئن يهود على وجودهم فيه، ويجعلهم يسودون في المنطقة، ويديم استمرار هيمنة أمريكا في المنطقة، هو أمر مطلوب لدى يهود، وحاجة سياسية أكيدة لدى الإدارة الأمريكية؛ لذلك فإن حديث أمريكا ليهود اليوم عن «الدمج» وتسويق ذلك عندهم يمكن اعتباره رشوة سياسية قوية جدًّا تقدمه أمريكا لهم، علَّهم يقبلون بحل الدولتين الذي يرفضونه!! هذا من جانب يهود، أما الأنظمة العميلة الوظيفية في المنطقة فهي مستعدة لأن تندمج مع الشيطان، حربًا على الإسلام، وخدمةً للكفار. 

مكاسب أمريكا ويهود من «الدمج»

أما أبرز مكاسب أمريكا ويهود من «الدمج» المزعوم مع الكيانات الصفرية في المنطقة فالتالية: 

  1. تأكيد واستمرار الوجود والهيمنة الأمريكية في المنطقة، وتكريس وجود يهود كدولة متفوقة ومُهابة في المنطقة.

  2. إنهاء حالة الحرب المزعومة بين يهود وبين الأنظمة القائمة في بلاد المسلمين، وإقامة سلام تعيش فيه (اسرائيل) بأمان، واعتراف كامل بها، وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة معها، وفتح الحدود أمام تجارتها وأفرادها ومخابراتها، وإقامة علاقات معها على كل الصعد.

  3. تعهد أنظمة الخيانة والعمالة والتبعية بملاحقة كل من يفكر بإيذاء يهود، أو يدعو إلى تحرير فلسطين.

  4. الهيمنة على ثروات المنطقة على اختلاف أنواعها، والتحكُّم بها، خصوصًا في المياه والنفط والغاز والزراعة.

  5. ولعل أبرز مكسب ليهود وأمريكا من الدمج إزالة الحاجز النفسي بين يهود والمسلمين بحيث يتقبلهم المسلمون كدولة طبيعية بين ظهرانيهم، وينسَون أنهم جسم سرطاني خبيث يتوجب اجتثاثه.

ولا شك أن التطبيع والدمج الثقافي بين يهود والأنظمة يعتبر الدعامة الرئيسية لكل مفاصل الدمج ومقدمة لازمة له، وهدفه استئصال العداء ضد يهود من العقل المسلم، ويمكن تحقيقه عندهم من خلال العمل على تغيير المناهج الدراسية، وإنشاء المراكز الأكاديمية المشتركة، وتبادل الزيارات بين أساتذة الجامعات، والمؤتمرات العلمية، والرياضة، والسينما والتلفزيون، والفكر والأدب. 

 

الدمج مع كيان يهود، والحكم الشرعي فيه

إن الدمج الذي تدعو له أمريكا اليوم هو حلم صهيوني قديم، وهدف عميق عند قادة يهود منذ قيام دولتهم فوق فلسطين المسلمة المغتصَبة. ولا شك أن التطبيع بين يهود والأنظمة الذي تسارعت وتيرته مؤخرًا، بشكل سافر وفاضح، ليس جديدًا، بل كان موجودًا؛ لكن في الخفاء، فكان تطبيع أنظمة منسلخة عن شعوبها. أما إعلانه اليوم، والسير فيه بقوة، ومحاولة فرضه تطبيعًا شعبيًّا، فسببه احتدام الصراع بين الأمة الإسلامية من جهة، وبين كل من يحارب نهضتها وعودتها إلى دينها في خلافتها: أعداء الدين في الغرب الكافر الصليبي، وكيان يهود، والأنظمة الجبرية في بلادنا. وهو بشارة للأمة أنها مهابة، ودليل صارخ على أن أعداءها يخشونها بقوة، والذين فكروا وقدروا، وباتوا يرمونها بكل ما لديهم من أسلحة، ظاهرها قبل خفيِّها، رفعوا في وتيرة الحرب عليها.

إن الدعوة اليوم إلى دمج كيان يهود والأنظمة ليست إلا إعلان حرب شاملة على الأمة الإسلامية، كانت خفية وأصبحت معلنة، كما أسلفنا، وهي تشي بأن أعداء الأمة لم يعودوا يأبهون بالتضليل والتدليس على الأمة، فأخذوا القرار بمواجهتها كفاحًا، وها هم يستخدمون التطبيع المكشوف، والدعوة إلى الدمج، ومحاولة فرضه واقعًا مسلَّمًا به، كأحد أسلحتهم الأخيرة في حربهم ضد الأمة.

إن كيان يهود لم يكن يومًا في خصومة مع أنظمة الحكم الجبري، بل كان الطرفان في وئام تام، وعلاقة مودة وتعاون وثيق، منذ قيام دولة يهود في فلسطين، كيف لا والطرفان يشتركان في سبب وجودهم، وهو الحرب على الإسلام وأمة الإسلام. إن هذا التطبيع المدعوم من الغرب الصليبي، تطبيع زائف ومضلِّل؛ لأنه لم يأتِ بعد حرب وخصومة حقيقية مع الدول الكرتونية التي نحيا فيها، والتي لم تؤذِ يهود يومًا، بل كانت حارسًا أمينًا لكيانهم، وداعمًا قويًّا لوجودهم؛ لكن يهود يحرصون على إظهار عكس ذلك؛ من أجل إبراز انتصارهم على محيطهم، والفتِّ في عضد الأمة، تلبيسًا وتضليلًا؛ حتى لا تفكر في النهوض وتحرير فلسطين. ومن ظنَّ أن أنظمة سايكس بيكو كانت في حرب وخصومة ومقاطعة وعلاقة سياسية غير طبيعية مع كيان يهود، فهو غافل واهم. 

إن الدعوة إلى دمج كيان يهود والأنظمة هو رد على الأمة الإسلامية التي لا تموت، المستعصية على الخضوع والخنوع، رغم برامج كسرها وتدجينها. وحتى ينجح هذا الدمج (وسيفشل بإذن الله) فإن أمريكا أمرت حكام المسلمين العملاء بالمجاهرة بخيانتهم لدينهم وأمتهم دون مواربة، كما أن أمريكا رفعت وتيرة اضطهاد المسلمين وقتلهم وتهجيرهم، وتخريب بلادهم وممتلكاتهم، وإثارة الفتن والنعرات الطائفية والعرقية والمذهبية بينهم، حتى يشتغلوا في أنفسهم، ويجبنوا عن رفع صوتهم. وما يحصل في الشام واليمن وليبيا والعراق ومصر، وللأقليات المسلمة الروهينجا في مينامار والإيغور في الصين، إلا شواهد على ملاحقة الإسلام والمسلمين حول العالم.

ومن خططهم في إنجاح دمجهم المزعوم تجييشهم لعلماء السوء والمثقفين العلمانيين وأدوات الإعلام المضللة في الصد عن دين الله، وتمييع أحكامه، ومحاربة الإسلام السياسي لتخويف وتخذيل أبناء الأمة من العمل لاستعادة خلافتهم المفقودة.

 أخيرًا نقول: بعد هذا البيان لواقع ومفهوم «الدمج» وخطره، لا بد من بيان حكم الله فيه، وكيف يكون التصدِّي له.

إن مقتضيات دمج كيان يهود المزعوم يعني بالمفهوم الشرعي إقرار يهود على اغتصابهم لفلسطين، والتفريط بأولى القبلتين وثالث الحرمين، ناهيك عن موالاة أشد الناس عداوة لله وللمؤمنين، والذي حرَّمه الله بقوله: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلنَّصَٰرَىٰٓ أَوۡلِيَآءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ) [المائدة: 51]. وهذا من أعظم الجرائم في الإسلام، وخيانة لله ولرسوله والمؤمنين، فاليهود: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ) [المائدة: 82]، وهذا يفرض أن تكون العلاقة معهم هي حالة حرب فعلية، فهم قد احتلوا أرضًا إسلامية، وعلى الأمة واجب السعي لتحريرها، قال تعالى: (وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ) [البقرة: 191]، وليس الصلح والاستسلام أو التطبيع والدمج.

إن التطبيع والدمج من كبائر الإثم والعدوان، وإن كانت مقدِّماته ماضية (إلى الآن) بفعل حكام الخِسَّة والنذالة والعمالة، إلا أن الأمة تُجمع على رفضه، وتعي أنه فرع لأصل، والفرع يموت تلقائيًّا إذا قطع الأصل وهو كيان يهود. إن الدمج والتطبيع كلمات زائفة في قاموس الهزائم المستمرة على يد أنظمة سايكس بيكو العميلة، ابتداءً من وعد بلفور إلى خيانة التطبيع والدمج العلنية اليوم. وكما أسلفنا، فإن ما يحصل اليوم من تطبيع سريع ومكشوف، إضافة إلى دعوة الدمج الحرام، خير بإذن الله، قال تعالى: (لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ) [النور: 11]؛ لأنه يضع الأمة على مفترق طرق حقيقي في التغيير، بعد أن تأكَّد لها عمالة حكامها، دون استثناء، في مصر وتركيا والأردن والمغرب ودول الخليج وآل سعود المجرمين، وغيرهم.   

إن الدعوة إلى الدمج والتطبيع المتسارع كشف ضعف أعداء الأمة، من غرب كافر ويهود وأنظمة الخسة والعمالة، وكشف قوة الأمة التي باتت تعي وتلمس أن استرداد فلسطين لا يكون من خلال الحكام وأنظمتهم الوظيفية، بل من خلال تغيير الواقع الفاسد الذي يحيونه بإقامة الخلافة الإسلامية الموعودة، التي بشَّرنا بها رسولنا وقدوتنا، عليه الصلاة والسلام: «ثم تكون خلافة على منهاج النبوة» مسند الإمام أحمد، وهي التي ستقتلع كيان يهود من جذوره، فيهود مقطوع حبلهم مع الله، وموصول مع أعداء الدين، قال تعالى:(وَقُلۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ لِبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱسۡكُنُواْ ٱلۡأَرۡضَ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ جِئۡنَا بِكُمۡ لَفِيفٗا١٠٤) [الإسراء: 104]، وقال: (فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ لِيَسُ‍ُٔواْ وُجُوهَكُمۡ وَلِيَدۡخُلُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوۡاْ تَتۡبِيرًا) [الإسراء: 7]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تقاتلكم اليهود فتسلَّطون عليهم، ثم يقول الحجر: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله» رواه البخاري.

إن الدعوة للدمج مع يهود حرام شرعًا، ولا يغيِّر من الواقع شيئًا. فكافة الاتفاقيات والتفاهمات مع كيان يهود، وما ترتَّب عليها من التزامات محرَّمة ومنعدمة وباطلة وغير نافذة شرعًا، وتحرم طاعة حكام المسلمين فيها، وسيضعها خليفة المسلمين القادم تحت قدميه، إن شاء الله تعالى، قال سبحانه: (وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ) [يوسف: 21] صدق الله العظيم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *