العدد 447 -

السنة الثامنة و الثلاثون، ربيع الآخر 1445هـ الموافق تشرين الثاني 2023م

خصائص ومقومات الحضارة الإسلامية معجزة! فكيف استبدل المسلمون بها غيرها!

ثائر سلامة، أبو مالك

لئن أنعمنا النظر في مقومات الحضارة الإسلامية وخصائصها التي ميزتها على غيرها من الحضارات، فإننا سنجد أنها تميزت بِرِقيِّ تَصَوُّرِها عن الكون والإنسان والحياة، ثم في تَمَثُّلِ هذا التصورِ في إطارِ منهجٍ عَقَدِيٍّ شاملٍ راقٍ كُلِّيٍّ غَائيٍّ يفسّرُ الكونَ والحياةَ، يحددُ علاقات الإنسان بالحقائق الكونية الكبرى[1]، وعلاقاتها هي بالإنسان، على وجه صحيح، ويوضح له غايته من الوجود، ويبينُ للإنسان موقعه ومسؤولياته ودوره في الحياة، رابطًا ذلك بما قبل الحياة الدنيا، وما بعدها.

ولقد صبَّ الإسلامُ ذلك المنهجَ العقديَّ الشاملَ في قالبٍ «ذاتيٍّ مستقلٍّ، وفق طبيعته الكلية، التي تخاطب الكينونة البشرية جملةً، بكل مقوماتها وطاقاتها، ولا تخاطب «الفكر البشري» وحده خطابًا باردًا مصبوبًا في قالب المنطق الذهني»[2]، فزاوج بين الإيمان والعمل الصالح! فكان عقيدةً نابضةً بالحياةِ، لا فلسفة جافَّةً باردةً، كان مفاهيمَ حيويةً تحركُ النفوسَ، وتبعثُ في أرْجَائِها السَّكِيْنَةَ والطُّمَأْنِيْنَةَ والتَّأَثُّرَ والتَّأثِيْرَ، والتَّفْكِيرَ والتَّدبُّرَ، والانطلاقَ لحملِ رسالتِهِ، والثِّقَةَ المطْلَقَةَ بالوصولِ للحقيقةِ المطلقةِ وامتلاكِها، والعمل بمقتضاها!.

وزاوج الإسلام في الأهمية بين ذلك التصور العقدي، وبين النظام المتمثل في طريقة العيش، فسنَّ الإسلامُ للإنسانِ مسؤولياتٍ وواجباتٍ وعلاقاتٍ مجتمعية، وفلسفةً متكاملةَ الأسسِ والمقوماتِ، منبثقةً من ذلك التصوُّرِ الاعتقاديِّ وتستندُ إليهِ، تتعلقُ بنفسِهِ وأسْرَتِهِ وأقاربه ومجتمعه ودولته، بل وبالبشرية جمعاء، وبالبيئة، تحقق العدل والإنصاف وتوازن بين الحقوق الفردية والمصلحة العامة والحق العام، متميزةً «بالدقة المتناهية في بناء الأحكام حتى لكأن الدارس الباحث في مسائل الفقه الإسلامي وآراء الفقهاء ونظرياتهم يشعر كأنما هو أمام ميزان حساس يوزن به الألماس، وتظهر به الفروق بين المتشابهات مهما دقت وغمضت»[3].

ولقد وسِعَ التشريعُ الإسلاميُّ واستوعبَ مشاكلَ الإنسانِ؛ فقد عالج الإسلامُ المشاكلَ علاجًا جذريًا متعلقًا بجنس الإنسان، لا علاجًا متعلقًا بِزَيدٍ أو عُبَيدٍ، وراعى في العلاج زاوية تعلُّقِ العلاجِ بالأفعال، (في حين أن العلاج في الحضارة الغربية انطلق من زاوية تحقيق الحرية، والمنفعة المادية)، وأنزل الإسلامُ الأحكام على الوقائع، وتميَّز التشريع الإسلامي «بالغنى بالنظريات القانونية في تنظيم الحقوق والالتزامات ومصالح المجتمع بصورة شملت كل شُعَبِ القانون المعروفة إلى اليوم، مبتدئة من علاقة الإنسان بأسرته من أحكام الزواج إلى الميراث وما بينهما، وتنتهي بأحكام القانون الدّولي المنظم لعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الأمم والدول سلمًا وحربًا. كل ذلك نظَّمه النظام القانوني في الشريعة الإسلامية بأعدل القواعد، وأحكم الأحكام، وأسمى المبادئ وأخلدِها وأكثرِها رعايةً للمُثُلِ الإنسانيةِ العليا، وتطعيمًا للعنصر القانوني بالعنصر الخلقي.»[4]

كما وتميَّز التشريع الإسلامي بِنَصْبِ مجموعةٍ من القيمِ الرفيعةِ، ومكارمِ الأخلاقِ[5]، والمقاييسِ المرجعيةِ للحقوقِ، والمقاصدِ التشريعيةِ، والتي بدورها ستتحول إلى قيمٍ يرادُ لها أن تتحققَ في الحياةِ، وأن تسودَ العلاقاتِ في المجتمعِ، وراعت ذلك في حال التشريع والتطبيق مما يفضي للدمج بين القوانين والتشريعات وبين غاياتها، فيُلمس أثرها في المجتمع نظامًا متجانسًا متكاملًا فعّالًا، يأخذ بعضه برقاب بعض، ويجد المرء والمجتمع وازعًا من التقوى والقيم والأخلاق حين التطبيق، فيفضي للسعادة والاستقرار، وهذا كله مما لم يدرك الشارعون البشر شيئًا منه ولا خطرَ لهم ببالٍ!

ويتميز التشريعُ الإسلاميُّ بوضعهِ للقوانين أهدافًا مرادةً من ورائها، وحِكَمًا باعثةً عليها، وأسبابًا[6]ومقاصد دافعةً اليها[7]، أي سيضع مقاييس للقوانين والتشريعات، وتشكل الإطار الذي تتحرك في نطاقه كافة القوانين في مختلف مجالات الحياة[8]، والأصل أن تتكامل القوانين فيشد بعضها أزر بعض، فنظام العقوبات مثلًا ينبني على حسن أداء النظام الاقتصادي والتكافل الاجتماعي ومسؤوليات الدولة الرعوية[9]، وهكذا، فالقوانين – شرعيةً كانت أم وضعيةً- إنما وضعت لتكون خادمةً للقيم التي يراد لها أن تسود حياة الناس[10]، (أي المفاهيم والقناعات التي يقوم عليها السلطان أي الدولة)، كقيمة العدالة، (قيل: العدل أساس الملك)، وهذه القيم نفسها قد تختلف باختلاف العقائد التي تقوم عليها المجتمعات، وهنا مربط فرسٍ، فقد تكون القيم هذه مُضَلِّلَة، لا تعدو أن تكون شعارات لا واقع لها، إذا ما وزنت بميزان الآيديولوجيات التي تحكم المجتمع، فقد تجد تلك القيم سرابًا مضلِّلًا لا أثر له في الواقع! وذلك كقيمة «التعددية» التي نادت الديمقراطية بها؛ ولكنها في الواقع قصرتها على تفرد الأحزاب العلمانية بتكوين الأحزاب السياسية التي يسمح لها بالحكم، دون غيرها من الأحزاب الآيديولوجية الأخرى، وقصر تعددية الثقافة على الناحية الفردية في المجتمع، دون تشريعات وقوانين الدولة!

فكان الأصل أن تقوم الدول على عقائد صحيحة قبل النظر في صحة تشريعاتها وقوانينها؛ لذلك فإن قيام الدولة على عقائد منقوضة فكريًّا كالعلمانية[11]، أو مستحيلة الوجود عمليًا، كالديمقراطية[12]، يضع المشرّعين في تلك الدول أمام عقبة كأداء، وهي استحالة قيام القيم التي تَدَّعِي الدولةُ تحقيقها، ومن ثم فالقانون الذي لا يخدم القيم ولا يساعد على حمايتها في المجتمع، يصبح بلا فاعلية ولا فعالية.

فإن كانت القيم نفسها خطأ أو مستحيلة التحقيق (مثل بناء الانتخاب على رأي الأغلبية)، كانت القوانين خطأ لبِنَائِها على الخطأ، فكان لا بد من وجود معايير قابلة للتحقيق، وقيم يَرجع إليها المجتمعُ لتنظيم السلوك الاجتماعي، وللحفاظ على الحقوق المشروعة لكل فرد، ولفك التصادمات بين المقاصد حين تصادمها (كأن يفضي التشريع إلى تحقيق مقصد على حساب مقصد آخر، مثل الخصوصية والأمن حين يتعارضان، فتتجسس الدولة في الغرب على الأفراد وتنتهك خصوصيتهم وحريتهم بحجة الحفاظ على الأمن.

أو أن تحقق بعض القوانين قيمًا معينةً وتناقضها قوانينُ أخرى تهدم هذه القيم، مثل تحقيق حرية التعبير وحماية حقوق المرء بالمحاكمة العادلة تتصادمان مع قانون الأدلة السرية في أمريكا والذي يحرم المتهم من معرفة جريمته ومن الدفاع عن نفسه بحجة أن عرض أدلة جريمته يهدد الأمن القومي، فلا هو يعرفها ولا القاضي، ولا يحق له الدفاع عن نفسه، فالقوانين تناقض المقاصد وتناقض بعضها بعضًا، وهذا التناقض جذري[13] ينسف أوله آخره[14]، وليس بالتناقض العرضي الذي يحل إشكاله).

وحرص الإسلام كل الحرص أن يتمثل هذا النظام وهذا التصور العقدي على صورة عُرفٍ (أعراف) مجتمعية، وأضحى الخروج على القيم والأخلاق والمقاييس والمفاهيم والقناعات التي وضعها الشارعُ جريمةً يعالجها الشارع على مستويات عدة تتناسب مع حجمها وأثرها، فمن مسؤوليات مجتمعية تتمثل في النصيحة والإرشاد والتعليم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحاسبة والإنكار والتغيير (باليد أو باللسان أو بالقلب)، ووضوح دور الفرد والأحزاب السياسية والدولة فيه، إلى الأَطْرِ على الحق أَطْرًا، ومنع مجالسة فاعل المنكر، إلى رفع السيف واستعمال القوة لتغيير المنكر، إلى مسؤوليات الدولة من العقوبات، إلى غير ذلك من الأُطُرِ التي تحافظ على سواد مجموعة القيم والمقاييس والقناعات المنبثقة عن العقيدة والتي تشكل الإِطارَ الناظمَ للشريعةِ وأحكامِها، والتي توجد نمطًا خاصًا من العيش، ونظامًا يصلح به الإنسان ويَسعَدُ به، ومنظومةً من العُرَفِ التي يعتبر نقيضها منكرًا محارَبًا منبوذًا!

يقول القاضي د. وفيق زين العابدين: «التشريع الإسلامي يحمي القيم الأخلاقية والإنسانية بنصوص أكثر فعالية من التشريعات الوضعية: فليس هناك دائرة منفصلة للتشريع عن دائرة الأخلاق، وهذه إحدى سمات التشريع الإسلامي فحسب؛ إذ تُوجَّه العقوبات في الشريعة الإسلامية قِبَلَ كُلِّ ما يَمَسُّ الأخلاقَ الفاضلةَ دون أن يتوقف ذلك على رضا المجنيِّ عليه أو تَخَلُّفِ ضررٍ ما عن الجريمة؛ لأن غرض حماية الأخلاق يعلو على غرض حماية المجنيِّ عليه في حد ذاته، باعتبار أن الغرض الأول يتعلق بالمصالح المشتركة والنظام العام للمجتمع، والتراضي بين الجاني والمجني عليه لا يجعل الفاسد صالحًا ولا يُحل ما حرم الله؛ لذا فالشريعة تعاقب على شرب الخمر والرِّدَّة والفُحش والزِّنا والفُجور والشُّذوذ بغضّ النّظر عن رضا طرفي الجريمة، ولا سلطان للحاكم في العفو عن هذه الجرائم؛ لأن التساهل في شأنها يؤدي إلى تحلُّل الأخلاق، [وتحلُّل الالتزام بالأحكام الشرعية] وفساد المجتمع واختلال أمنه ونظامه.»[15]

وقد كان الملمح الأهم للتشريع الإسلامي متمثلًا في انبثاق النظام عن المعتقد «انبثاقًا ذاتيًّا، غير مفتعل»[16]، فكان عميق الجذور، منسجمًا مع العقيدة التي قام عليها، خاليًا من التناقضات والاختلافات والنقص والخلل والعبثية، تتكامل نظمه السياسية، بشكلها المحدد، وخصائصها الرعوية، الضامنة لتحقيق العدل والأمن وإحقاق الحقوق، وفضِّ الخصومات، والرعاية الصحية والتعليم، ونشر الدعوة والحفاظ على المبادئ التي قامت عليها الدولةُ، مع فلسفته الاقتصادية الاجتماعية بكل أسسها ومقوماتها الهادفة لبناء المجتمع وفق نظامٍ ضامنٍ لكفالةِ الحاجاتِ الأساسيةِ، «تتوازن فيه حقوق المرأة وحقوق الرجل، وحقوق الفرد وحقوق الجماعة، وحقوق المجتمعات، فلا يُسحق الفرد باسم الجماعة، ولا تُهدر مصالح الجماعة لمصلحة فردٍ أو حزبٍ أو فئةٍ، ويقوم على التكامل بين الأفراد: الذكر والأنثى كلٌّ له رسالة محددة يكمل بعضهم بعضًا، وتقومُ حياة الناس بمجموعهم على التكامل لا على الصراع، وتقوم على أن يحب الفرد المسلم لأخيه ما يحب لنفسه، فَهُم كالبنيان وكالجسد الواحد يكمل بعضهم بعضًا؛ الغني مع الفقير تقوم حياتهم على التكامل والتكافل والموالاة والمسؤولية لا على الحسد والتباغض والصراع الطبقي المقيت الذي يظهر في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة، وأيضًا التكامل في المهمات المتعددة والمناشط والمواهب الإنسانية التي يكمل بعضها بعضًا، فلا يمكن للفرد أن يصنع لنفسه كل حاجاته ولكن الجماعة في الإسلام تتحقق في رحابها جميع معاني التكامل في الحياة والتكافل الذي يحقق مصالح الدنيا والآخرة»[17] وتوزيع الثروات والاستفادة من المرافق والخدمات.

ويشكل هذا التكامل ضمانة لفعالية تلك الأنظمة، وبصورة تتواءم حلوله مع فطرة الإنسان، ومع عناصر كينونته الإنسانية، فتتعامل مع مقوماتها، وطاقاتها، ملبية حاجاتها الأساسية الحقيقية المنبثقة عن طاقة الإنسان الحيوية -ممثلة بغرائزه وحاجاته العضوية- تلبيةً متَّزنةً غائيةً، راقيةً بالإنسان عن درجة البهيمية في إشباع تلك الغرائز والحاجات، غير متصادمةٍ مع أشواقه الروحية، ومتناغمةً -في الوقت ذاته- مع واقعه الإنساني الماديّ المجتمعيّ، غير قائمةٍ على الأهواء والمصالح الآنية الضيقة، كما هو الحال في سائر التشريعات والنظم البشرية السائدة في العالم اليوم!

ولقد راعت تلك التشريعاتُ الربانيةُ إنسانيةَ الإنسانِ وعقلَهُ ونفسيتَهُ، وراعت أنه يعيش في عالم مادي، يعجُّ بالمشاكل والنوازل، فكانت سمة التشريع المعجزة قدرته على النفاذ إلى أعماق المشكلات المختلفة، وما يؤثر فيها، وما يتأثر بها، والنظر إليها نظرة محيطة مستوعبة، مبنية على معرفة النفس الإنسانية، وحقيقة دوافعها وتطلعاتها وأشواقها، ومعرفة الحياة البشرية وتنوع احتياجاتها وتقلباتها، ثم وضع التشريعات الضامنة لإيجاد المجتمع الصالح والإنسان المصلح، وتحقيق المصالح للإنسان على وجه صحيح، يحقق الخير ويمحق الشر! يبسط العدل ويمحو الظلم!

ثم كانت معجزة التشريع الأخرى متجسدة في ربط التشريع بالقيم الدينية والأخلاقية؛ بحيث يكون التشريع في خدمتها وحمايتها، ولا يكون معولًا لهدمها. كما وتميزت الشريعة بما لا يوجد في غيرها من التشريعات، فقد جعلها الإسلام مقاييس مبنية على الاعتقاد، فكانت وازعًا عقديًّا يزع الإنسان للالتزام بها مخافة الله، ومحبة في الله، ورجاء في جنب الله، مما يغني الإنسان عن الحاجة إلى قوة مصلتة عليه لتردعه ليلتزم القانون، بل تجعله يخضع لسلطان الله في السر والعلن، فلا يرى الإفلات من عقوبة الحاكم في الدنيا غنيمةً ولا مكسبًا، فهو يعلم أن الله يراقبه، وعقوباتها دنيوية وأخروية.

ولقد تبلورت مجموعة القيم التي صاغتها الحضارة الإسلامية، والتي تؤسس للقناعات التي سيحيا عليها الناس، وترسخت في صميم العلاقات التي يقوم المجتمع عليها، فاقترن حفاظ الأمة والمجتمع على منظومة تلك القيم وحراستها، ومنع أضدادها أو ما يفسدها، (أي بفريضة الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر بكل أنواعها) برقي الأمة ونهضتها، وخيريتها، وانسجامها مع نفسها، واقتعادها مقعد الذروة أمام غيرها من الأمم، فكانت حصنًا منيعًا شديدًا يحمي ويحفظ.

واقترن تغلغل الخلل لفهم وسيادة تلك القيم في الأمة بهبوطها وفرقتها، وتضعضع بنيان ذلك الحصن المنيع، حتى أصبحت -حين جافت التشريع الإسلامي ونأت عنه- نهشًا لسهام أعدائها، فوضعت الأمة في مهب ريح الاستعمار والتبعية، ومع ذلك، فإن لِقُوَّةِ العقيدةِ الإسلاميةِ، وصحة ودقة الشريعة الإسلامية من الأثر ما جعل الأمة وهذه الحضارة تصمد أمام زلازل ونوازل وحملات صليبية ومغولية وأمام محاولات إفنائها مرة بعد مرة، وعلى مدى قرون طويلة، وحقب متراخية، تراوحت بين الشدة والرخاء، والتطبيق البشري الحسن والسيئ لهذا النظام الرباني. ولا يمكن أن ترتقي هذه الأمة وتقتعد مكانها السامق ثانية إلا إن حرصت على أن تسقي تلك الحضارة ومكوناتها حتى تبقى وارفة الظلال، شديدة الخضرة، فتبلور مفاهيمها -ثانية- بلورة دقيقة، تحسن فيها فهم تلك القيم ودورها في النهضة، وتُصفِّيها مما علق بها من الشوائب في عصور الانحطاط، وتربط كل فكر فيها بالوحي، وتنقيها مما أدخل عليها من مفاهيم وقيم الحضارات الأخرى، وكلما أحسنت الأمة الإسلامية ذلك كانت أقدر على النهوض والسير في معارج العلا!.

 

[1] الله، والربوبية، والألوهية، والملك والسلطان، والحاكمية، وصلة الخلق والتنظيم والتدبير.

 

[2] خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، الشهيد سيد قطب رحمه الله، كَلِمَة في المنْهج.

 

[3] الدكتور مصطفى الزرقا، خصائص التشريع الإسلامي، نشر في العدد الرابع عشر من مجلة الوعي الإسلامي السنة الثانية صفر 1386هـ 21مايو 1966م.

 

[4] الدكتور مصطفى الزرقا، خصائص التشريع الإسلامي.

 

[5] فالتاجر مثلا اختار التجارة وانتهى عن الربا وفقًا لمنظومة وإطار (الحلال والحرام)، ملتزمًا بما يسمح به الوحي وما يمنع، يمتنع عن بيع الخمر وإن كانت فيه مرابح مادية دنيوية لأنه ملتزم بإطار الحلال والحرام لا بإطار المادة وجني الأرباح، ويجب عليه أن يتحرى الصدق، وممنوع عليه الغش، وفقًا لمنظومة وإطار (الأخلاق)، وممنوع من الاحتكار (يظهر فيه استغلال حاجة الناس لجني الأرباح) (وفقًا لمنظومة الاقتصاد الذي يُعنى بعلاج مشاكل المجتمع وضمان كيفية توزيع الثروة ووصول الناس لقضاء حاجاتهم)، كما أنه أمره بالتقوى في كل حال ومع كل فعل، (مراقبة الله) وهذا إطار عام يلزم في كل فعل يضمن تحقيق غايات كثيرة تتعلق بالحرص على التزام النظام الإسلامي بشكل عام في كل شأن، وأمره بالإحسان، (وهو إطار عام يتكفل بإتقان وإحسان كل عمل يعمله)، واعتبر سعيه في الرزق طلبًا للحلال نوعًا من العبادة يؤجر عليه؛ إذ لو داخله الحرام أثم، فلا يأكل إلا حلالًا، (وهذا إطار جمع الاعتقاد بالعبادة، فهو إطار عقدي ناظم لتصوره لطبيعة نتيجة عمله المادية؛ إذ تربطه بالاعتقاد ولا يكتفي بالسعي لجني الأرباح بأي طريقة كانت)، وأمره بالأخذ بالأسباب، (وهو إطار عام مطلوب في كل عمل ليحقق غايات دينية ودنيوية، فيختار سلعًا معينة للتجارة بها، تدرُّ عليه الربح أو يحتاجها المجتمع وهكذا، فهو إطار دافع لحسن اختيار أفضل الأعمال المحققة لغايات الإنسان والمجتمع، فلم يغفل الإسلام مصلحة هذا التاجر ومنفعته وحاجات المجتمع)، والتوكل على الله، (وهو إطار عقدي جامع مانع، يتجاوز معضلة إخفاق بعض الأسباب في تحقيق المراد، فيربط عمله بالاتكال على الله ليدبر له من شأنه ما لا يستطيعه بأسبابه التي قدرها بمعطياته الإنسانية البشرية القاصرة)، وربط عمله بمفهوم الرزق أنه على الله، فلا يخاف إلا الله، وهو إطار ضامن بأن لا يعتبر التزامه بأفعال أخرى مؤْثِرًا على عمله كتاجر، كأن يقول بالحق أينما كان، ولا يخشى إلا الله، وأمره بتطهير ماله بالزكاة، والصدقة، (وهو إطار يصب في تحقيق غايات مجتمعية يتكامل فيها النظام الاقتصادي بالاجتماعي ليحقق التكافل الاجتماعي ويكفي حاجات من لا يستطيع قضاء بعض الحاجات. وهذا الإطار يتضمن أيضًا أن يقوم بهذه الصدقات والزكاة لا من باب الإحسان للفقير فقط، ولكن من باب مسؤولياته المجتمعية التي أناطها الإسلام به، ومن باب الولاية العامة بين المؤمنين بعضهم بعضًا، فهي أطر كثيرة تحقق غايات عظيمة خطيرة)، ووضع على السوق محتسبين، وأمر التجار بالفقه في الدين لمعرفة الحلال من الحرام في معاملاتهم، وهكذا تجد المزاوجة بين الأفعال وبين الأخلاق وبين القيم التي تمثل الغاية المطلوب تحقيقها من وراء تلك الأفعال، والتي يراد لها أن تسود! وبين الفعل وبين الثواب والعقاب، والتخويف من عقوبة الدنيا والآخرة، والمفاهيم العقدية، وهذا من شأنه أن يضمن تكامل الأنظمة المختلفة لتحقيق غايات مجتمعية وأخروية، وكل ذلك يجتمع في عمل واحد!

فلم يعد التاجر يمارس التجارة فقط، بل تتجسد فيه مجموعة القيم والأخلاق والمقاييس والمقاصد والمفاهيم العقدية وأنظمة الإسلام المختلفة في آن واحد وهو يمارس التجارة!

وهذا بالضبط هو ما ضمن فعالية تطبيق نظام الإسلام وسرعة الاستجابة لتشريعاته، فما هي القوانين الناظمة لعمل التاجر في الحضارة الغربية العلمانية؟ ضرائب! ممنوع غسيل الأموال (كي تعرف الدولة ما لها من ضرائب!)، التنافس الشريف، promotion of competition and fair trading، وهو ما قضت عليه الشركات الكبرى باحتكار السوق بسبب قوتها وهيمنتها والتجاء التجار الصغار إليها وإلا لم تنجح تجارتهم، فهذا = التنافس الشريف مجرد شعار غير متحقق في الواقع، حماية المستهلك، وهو ما قضت عليه الشركات الكبرى بالتجسس على هذا المستهلك لتبيع رغباته واحتياجاته للتجار الآخرين عبر منصاتها، فتجني الأرباح! وممنوع أن يبيع الدخان والخمر والقنب الهندي للقاصر، ويسمح له بيعها على ما فيها من ضرر للبالغ! لأن المهم هو كسب المال وتنميته! هل من شيء آخر؟ راجع إن شئت ما يسمى: Trade Legislation Acts andRegulations في أي بلد رأسمالي، وهذه القوانين بالطبع ليست منبثقة من المبدأ العلماني، وإنما شأنها شأن أي قوانين في الدول العلمانية تسنها الهيئات التشريعية بما تمليه عليهم مصالح الدول وتسيير شؤونها، فهذا مثال يبين الضمانات التي تحققفعاليّة تطبيق التشريع الإسلامي في الواقع، مقارنة بفشل التشريعات البشرية التي تستعمل عصا القانون لتطبيق التشريعات ولا تحيط التشريعات بأي سياجيضمنفعاليتها!.

[6] بالنسبة للشريعة الإسلامية نعني بالمقاصد والأسباب هنا: النتيجة التي تترتب على الشريعة، أي الحِكمة الناتجة عن تطبيقها، وليس الباعث على تشريعها، أي غاية الشارع التي يهدف إليها من تشريع الشريعة، لا العلة بمفهومها الأصولي، ولا تلتمس العلة الباعثة على التشريع، ولا الحِكمة إلا إذا ذكرهما الشارع، وقد جاءت آيات تبين غايات كلية وحِكَمًا تنتج عن تطبيق الشريعة مثل كونها رحمة، ومثل قيام الناس بالقسط، وما شابه، وقد استنبط الفقهاء مقاصد للشريعة كما هو مقرر في كتب الأصول، وليس البحث هنا في كل حكم شرعي، إنما في مقاصد الشريعة ككل، وأثر تلك المقاصد على القوانين الضابطة للعلاقات في المجتمع.

 

[7] من العلوم القانونية الموازية لعلم مقاصد الشريعة الإسلامية علم فلسفة القانون (أو الفقه) الذي صار يحتل مكانة رائدة في الدراسات القانونية الغربية تحت مسمى: (Philosophy of law)،نظرًا لطبيعة موضوعاته التي تركز على الاهتمام بدراسة قواعد منح السلطة وطاعتها، والغايات والحِكَم التي تكمن وراء النظم القانونية، والكشف عن العلاقة بين القانون والمجتمع، وهي عمومًا تدور حول: حماية «حقوق الإنسان»، وتحقيق العدالة والصالح العام؛ والاستقرار القانوني والأمن القانوني وكل هدف له أسس يقوم عليها ووسائل تؤدي إلى تحقيقه، ويبحث في طبيعة القانون لا سيما في علاقته بالقيم الإنسانية والممارسات والمجتمعات، والأخلاق –ارتباطه ببعض العناصر الأخلاقية؛ بحسب مذهب القانون الطبيعي، أو بالعكس: ضرورة انفصاله عنها كما أسس المذهب الوضعي للفصل هذا؛ فلا يتضمن القانون في محتواه أي عناصر أخلاقية، وتحاول تلك الفلسفة التأسيس لتشريعات بحيث تصلح لكل القوانين (لا لقانون بلد معين) فيكلالأوقات (لا في زمن معين). أنظر: مقاصدالقانونالوضعيفيضــوءمقاصدالشريعةالإسلامية،بقلمد. عليانبوزيانمنشورفيالعدد 150 منمجلةالمسلمالمعاصر، وانظر: مبادئ فلسفة القانون، ترجمة د. زهير الخويلدي، شبكة النبأ المعلوماتية، عن: الموسوعة البريطانية. وانظر: فلسفة القانون، مفهوم القانون وسريانه، البروفيسور روبرت ألكسي، تعريب الدكتور كامل فريد السالك، منشورات الحلبي الحقوقية، ص 9.

 

[8] أنظر فصل: إقامة الخلافة من مقاصد الشريعة الكبرى في كتابنا: الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي.

 

[9] مثال ذلك أن النظام الاقتصادي، والتكافل الاجتماعي، ومسؤوليات الدولة الرعوية في الإسلام تكفي الفرد حاجاته، فإذا ما سَرَقَ الفردُ بعد ذلك يكون قد اعتدى واستحق العقوبة، وحين يسرق الجائع في يومِ مَسْغَبَةٍ فإنه لا يُقْطع؛ لأن الحدود تُدْرَأُ بالشبهاتِ، وهكذا فالأنظمة تتvكامل ويأخذ بعضها برقاب بعض لأداء وظائف كلية في المجتمع!

 

[10] من أهم وأجل القيم الإسلامية قيمة تحقيق العبودية لله وحده دون غيره، بمفهوم العبودية الواسع، وبمفهومها الخاص بموضوع التشريع، واعتبار التشريع حقًا له وحده، (كتابًا وسنةً)، وأن اتباع الناس بعضهم بعضًا في التشريع هو بمثابة اتخاذهم أربابًا من دون الله!

 

[11] وقد قمنا بإلقاء إضاءات كبيرة على مفهوم العلمانية في كتابنا: «الصندوق الأسود للفكر الغربي: الإسلام والديمقراطية والعلمانية والليبرالية مقارنة للأسس الفكرية» نقضت أسسه الفكرية نقضًا.

 

[12] من ضمن القيم التي تقوم عليها الديمقراطية وتتوقف الديمقراطية عليها وجودًا وعدمًا: أولها: تحكيم رأي الأغلبية في المجتمع، ومنع تركز السلطات بيد الأقلية، أو استغلالها، وتمثيل السلطات لرأي الشعب، وهذه القيم الثلاث يستحيل تحقيقها في الواقع، والنظام الغربي كله قائم على تمازج وتداخل السلطات وتركيزها بيد الأحزاب الحاكمة، والتشريعات يقوم بها قلة من فقهاء القانون والقضاة، ولا يرجع إلى الشعب إلا في أقل القليل منها، وللموضوع تفاصيل كثيرة جدًّا أفردنا لها فصلًا خاصًّا في كتابنا: «الصندوق الأسود للفكر الغربي: الإسلام والديمقراطية والعلمانية والليبرالية مقارنة للأسس الفكرية» فراجعه، ولكن الديمقراطية فلسفة خيالية مضللة، يستحيل أن توجد في أرض الواقع!

 

[13] حين أراد حزب المحافظين في كندا تمرير قانون الأدلة السرية، كان يواجه مقاومة شديدة في البرلمان لفظاعة شكل القانون، فقام الحزب بزراعة عميل وسط شباب مسلمين، حاول إقناعهم بالقيام بأعمال إرهابية، ولفَّق لهم تهمًا إرهابية بأنهم كانوا يريدون تفجير البرلمان ومقرَّات الدولة، وثارت ضجة إعلامية كبيرة الأصداء، فلما جاء يوم التصويت لم يجرؤ على معارضة القانون أحد، ومرَّ القانون، ثم دارت الأيام ولم تثبت التهم والقضايا على أي من المتهمين، ولم يراجع أحدٌ أحدًا بتسلسل الأحداث، وأضحى القانون قانونًا!

 

[14] فحين تتجسس الدولة على قلة يهددون الأمن -بزعمهم- ثم تستمرئ الأمر فتسحب التجسس ليعم الناس كلهم بالتجسس الإلكتروني الذي يحصي على الجميع أنفاسهم وخطواتهم وتفكيرهم ورغائبهم وطبائعهم؛ لاستعمال هذا كله لتباع المعلومات للأحزاب السياسية، وللمسوِّقين للسلع، وأصحاب رأس المال، وللأجهزة الأمنية، فإن الخصوصية قد ذهبت بغير رجعة، فالقانون الثاني نسف الأول بلا رحمة!

 

[15] محاسنالسياسةالجنائيةالإسلامية، د. محمد وفيق زين العابدين، مجلة البيان العدد 288.

 

[16] أنظر: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، الشهيد سيد قطب رحمه الله، كَلِمَة في المنْهج.

 

[17] خصائص وأهداف النظام الاجتماعي في الإسلام، د. عبدالمحسن الصويِّغ. موقع الألوكة. بتصرف.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *