العدد 445 -

السنة الثامنة و الثلاثون، صفر 1445 هـ الموافق أيلول 2023م

مع القرآن الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى:(الٓمٓصٓ١كِتَٰبٌ أُنزِلَ إِلَيۡكَ فَلَا يَكُن فِي صَدۡرِكَ حَرَجٞ مِّنۡهُ لِتُنذِرَ    بِهِۦ وَذِكۡرَىٰ ِلۡمُؤۡمِنِينَ ٢ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَۗ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ٣)

جاء في خواطر الشيخ محمد متولي الشعراوي، رحمه الله:

(قبل أن نبدأ خواطرنا في سورة الأعراف لابد أن نلاحظ ملاحظة دقيقة في كتاب الله، الله يقول: (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٞ رَّحِيمُۢ) [الانعام: 165]. ونقرأ الكلمة الأخيرة في سورة الأنعام (رَّحِيمُۢ ) ونجدها مبنية على الوصل؛ لأن آيات القرآن كلها موصولة، وإن كانت توجد فواصل آيات، إلا أنها مبنية على الوصل، ولذلك تجد (غَفُورٞ رَّحِيمٞ) وعليها الضمة وبجوارها ميم صغيرة؛ لأن التنوين إذا جاء بعده باء، يقلب التنوين ميمًا، فالميم الصغيرة موجودة على رحيم، قبل أن تقرأ (بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ)، وتصبح القراءة: (غَفُورٞ رَّحِيمٞ)(بِسۡمِ ٱللَّهِ). وكل آيات القرآن تجدها مبنية على الوصل، فكأن القرآن ليس أبعاضًا. وكان من الممكن أن يجعلها سكونًا، وأن يجعل كل آية لها وقف، لا، إنّه سبحانه أراد القرآن موصولًا، وإن كان في بعض الآيات إقلاب، وفي بعضها إدغام، وهذا بغُنَّة، وهذا بغير غُنَّة.

 ويقول الحق: (الٓمٓصٓ)وفي هذه الآية فصل بين كل حرف، فنقرأها: (ألف) ثم نسكت لنقرأ (لام) ثم نسكت لنقرأ (ميم) ثم نسكت لنقرأ (صاد). وهنا حروف خرقت القاعدة لحكمة؛ لأن هذه حروف مقطعة، مثل (الم، حم، طه، يس، ص، ق) وكلها مبنية على السكون؛ مما يدل على أن هذه الحروف وإن الحروف وإن خيل لك أنها كلمة واحدة؛ لكن لكل حرف منها معنى مستقلًا عند الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنةٌ، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن أَلِفٌ حرف، ولامٌ حرف، وَمِيمٌ حرف». والرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن هذه الحروف بها أمور استقلالية، ولا تكون كذلك إلا إذا كانت لها فائدة يحسن السكوت والوقوف عليها، فهمها من فهمها، وتعبَّد بها من تعبَّد بها، وكل قارئ للقرآن يأخذ ثوابه بكل حرف، فلو أن قارئًا قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ونطق بعد ذلك بحرف أو بأكثر، فهو قد أخذ بكل حرف حسنة، وحين نقرأ بعضًا من فواتح السور، نجد أن سورة البقرة تبدأ بقوله الحق: (الٓمٓ) [البقرة: 1]. ونقرأ هنا في أول سورة الأعراف: (الٓمٓصٓ) [الأعراف: 1] حروف مقطعة، نطقت بالإِسكان، وبالفصل بين كل حرف وحرف. ويلاحظ فيها أيضًا أنها لم تقرأ مسمَّيات، وإنما قُرئت أسماء، ما معنى مسمَّيات؟ وما معنى أسماء؟. أنت حين تقول: كتب، لا تقول: (كاف) (تاء) (باء)، بل تنطق مسمى(الكاف) (كَ)، واسمها كاف مفتوحة، أما مسماها فهو(كَ) .إذًا، فكل حرف له مسمى، أي الصوت الذي يقوله الإِنسان، وله اسم، والأمي ينطق المسميات، وإن لم يعرف أسماءها. أما المتعلم فهو وحده الذي يفهم أنه حين يقول: (كتب) أنها مكونة من كاف مفتوحة، وتاء مفتوحة، وباء مفتوحة، أما الأمي فهو لا يعرف هذا التفصيل. وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تلقى ذلك وقال: ألف لام ميم، وهو أمي لم يتعلم. فمن قال له انطق مسميات الحروف بهذه الأسماء؟. لابد أنه قد عُلِّمَهَا وتلقاها، والحق هو القائل: (فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ١٨) [القيامة: 18].

فالذي سوف تسمعه يا محمد ستقرؤه؛ ولذلك تجد عجائب؛ فأنت تجد (الٓمٓ) في أول البقرة، وفي أول سورة آل عمران، ولكنك تقرأ الآية الأولى من سورة الفيل: (أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ ١) [الفيل: 1]. ما الفرق بين الألف واللام والميم في أول سورة البقرة، وسورة آل عمران وغيرهما، والحروف نفسها في أول سورة الفيل وغيرها كسورة الشَّرْح؟ أنت تقرؤها في أول سورة البقرة وآل عمران أسماء. وتقرأها في أول سورة الفيل مسميات. والذي جعلك تفرق بين هذه وتلك أنك سمعتها تقرأ في أول البقرة وآل عمران هكذا، وسمعتها تقرأ في أول سورة الفيل هكذا. إذًا فالقراءة توقيف، وليس لأحد أن يجترئ ليقرأ القرآن دون سماع من معلم. لا، لابد أن يسمعه أولًا حتى يعرف كيف يقرأ.
ونقرأ 
(الٓمٓصٓ) في أول سورة الأعراف، وهي حروف مقطعة، ونعرف أن الحروف المقطعة ثمانية وعشرون حرفًا، ونجد نصفها أربعة عشر حرفًا في فواتح السور، وقد يوجد منها في أول السورة حرف واحد مثل: (قٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡمَجِيدِ ١) [ق: 1]. وكذلك قوله الحق:(صٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ١) [ص: 1]، وكذلك قوله الحق: (نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ ١) [القلم: 1]. ومرة يأتي من الحروف المقطعة اثنان، مثل قوله الحق: (حمٓ١) [الأحقاف: 1]. ومرة تأتي ثلاثة حروف مقطعة مثل: (الٓمٓ١) [البقرة: 1]. ومرة يأتي الحق بأربعة حروف مقطعة مثل قوله الحق: (الٓمٓصٓ)[الأعراف: 1]. ومرة يأتي بخمسة حروف مقطعة مثل قوله الحق:  (كٓهيعٓصٓ١) [مريم: 1].

وإذا نظرت إلى الأربعة عشر حرفًا وجدتها تمثل نصف الحروف الأبجدية، وهذا النصف فيه نصف أحكام الحروف، فبعضها منشور، أو مهموس، أو مخفي، أو مستعلٍ، ومن كل نوع تجد النصف، مما يدل على أنها موضوعة بحساب دقيق. ومع أن توصيف الحروف، من مستعلٍ، أو مفخَّم، أو مرقَّق، أو منشور، أو مهموس، هذا التوصيف جاء متأخِّرًا عن نزول القرآن؛ ولكن الذي قاله يعلم ما ينتهي إليه خلقه في هذه الحروف المقطَّعة وله في ذلك حكمة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميَّا، ولم يجلس إلى معلم، فكيف نطق بأسماء الحروف، وأسماء الحروف لا يعرفها إلا من تعلم؟! فهو إذًا قد تلقَّنها، وإننا نعلم أن القرآن جاء متحديَّا العرب؛ ليكون معجزة لسيد الخلق، ولا يُتَحَدَّى إلا من كان بارعًا في هذه الصنعة.
وكان العرب مشهورين بالبلاغة، والخطابة والشعر، والسجع وبالأمثال؛ فهم أمة كلام، وفصاحة، وبلاغة، فجاء لهم القرآن من جنس نبوغهم. وحين يتحدى الله العرب بأنه أرسل قرآنًا لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، فالمادة الخام- وهي اللغة- واحدة، ومن حروف اللغة نفسها التي برع العرب فيها. وبالكلمات نفسها التي يستعملونها، لكنهم عجزوا أن يأتوا بمثله؛ لأنه جاء من رب قادر، وكلام العرب وبلاغتهم هي من صنعة الإنسان المخلوق العاجز. وهكذا نعلم سر الحروف المقطَّعة التي جاءت لتثبت أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم تلقى القرآن من الملأ الأعلى لأنه أمي لم يتعلم شيئًا؛ لكنه عرف أسماء الحروف، ومعرفة أسماء الحروف لا يعرفها- كما قلت- إلا المتعلم، وقد علمه الذي علم بالقلم وعلم الإنسان ما لم يعلم، ويمكن للعقل البشري أن يحوم حول هذه الآيات، وفي هذه الحروف معان كثيرة، ونجد أن الكثير من المفكرين والمتدبِّرين لكلام الله وجدوا في مجال جلال وجمال القرآن الكثير، فتجد متصوفًا يقول إن (المص) جاءت هنا لحكمة، فأنت تنطق أول كلمة ألف وهي الهمزة من الحلق، واللام تنطقها من اللسان، والميم تنطقها من الشفة، وبذلك تستوعب مخارج الحروف من الحلق واللسان والشفَّة. قال المتصوف ذلك ليدلك على أن هذه السورة تتكلم في أمور الحياة بدءًا للخلق من آدم. إشارة إلى أولية خلق الإنسان، ووسطًا وهو المعاش، ونهاية وهو الموت والحساب ثم الحياة في الدار الأخرة، وجاءت (الصاد) لأن في هذه السورة قصص أغلب الأنبياء.

هكذا جال هذا المتصوف جولة وطلع بها، أنردها عليه؟ لا نردها بطبيعة الحال، ولكن نقول له: أذلك هو كل علم الله فيها؟. لا؛ لأن علينا أن نتعرف على المعاني التي فيها وأن نأخذها على قدر بشريتنا، ولكن إذا قرأناها على قدر مراد الله فيها فلن نستوعب كل آفاق مرادات الله؛ لأن أفهامنا قاصرة. ونحن البشر نضع كلمات لا معنى لها لكي تدل على أشياء تخدم الحياة، فمثلًا نجد في الجيوش من يضع (كلمة سر) لكل معسكر فلا يدخل إلا من يعرف الكلمة. من يعرف (كلمة السر) يمكنه أن يدخل. وكل كلمة سر لها معنى عند واضعها، وقد يكون ثمنها الحياة عند من يقترب من معسكر الجيش ولا يعرفها. (الٓمٓصٓ) [الأعراف: 1]. ونجد بعد هذه الحروف المقطعة حديثًا عن الكتاب، فيقول سبحانه: (كِتَٰبٌ أُنزِلَ إِلَيۡكَ فَلَا يَكُن فِي صَدۡرِكَ حَرَجٞ مِّنۡهُ لِتُنذِرَ بِهِۦ وَذِكۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ ٢)وساعة تسمع (أنزل) فافهم أنه جاء من جهة العلو أي أن التشريع من أعلى. وقال بعض العلماء: وهل يوجد في صدر رسول الله حرج؟. لننتبه أنه ساعة يأتي أمر من ربنا ويوضح فيه (فَلَا يَكُن فِي صَدۡرِكَ حَرَجٞ)، فالنهي ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما النهي للحرج أو الضيق أن يدخل لرسول الله، وكأنه سبحانه يقول: يا حرج لا تنزل قلب محمد.
لكن بعض العلماء قال: لقد جاء الحق بقوله سبحانه:
(فَلَا يَكُن فِي صَدۡرِكَ حَرَجٞ) لأن الحق يعلم أن محمدًا قد يضيق صدره ببشريته ويحزن؛ لأنهم يقولون عنه ساحر، وكذاب، ومجنون… وإذا ما جاء خصمك وقال فيك أوصافًا أنت أعلم منه بعدم وجودها فيك فهو الكاذب؛ لأنك لم تكذب ولم تسحر، وتريد هداية القوم. وقوله سبحانه: (فَلَا يَكُن فِي صَدۡرِكَ حَرَجٞ) قد جاء لأمر من اثنين: إما أن يكون الأمر للحرج ألا يسكن صدر رسول الله، وإما أن يكون الأمر للرسول طمأنة له وتسكينًا، أي لا تتضايق لأنه أنزل إليك من إله، وهل ينزل الله عليك قرآنًا ليصبح منهج خلقه وصراطًا مستقيمًا لهم، ثم يسلمك إلى سفاهة هؤلاء؟ لا، لا يمكن، فاطمئن تمامًا… (فَلَا يَكُن فِي صَدۡرِكَ حَرَجٞ مِّنۡهُ لِتُنذِرَ بِهِۦ وَذِكۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ) [الأعراف: 2]. والإِنذار لا يكون إلا لمخالف؛ لأن الإِنذار يكون إخبارًا بشر ينتظر من تخاطبه. وهو أيضًا تذكير للمؤمنين مثلما قال من قبل في سورة البقرة… (هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ) وهنا نلاحظ أن الرسالات تقتضي مُرْسِلًا أعلى وهو الله، ومُرَسَلًا وهو الرسول، ومُرْسَلًا إليه وهم الأمة، والمرسَل إليه إما أن يستمع ويهتدي وإما لا، وجاءت الآية لتقول: (كِتَٰبٌ أُنزِلَ) من الله وهو المرسِل، و(إِلَيۡكَ) لأنك رسول، والمرسَل إليهم هم الأمة، إما أن تنذرهم إن خالفوا، وإما أن تذكرهم وتهديهم وتعينهم أو تبشرهم إن كانوا مؤمنين.

ويقول الحق بعد ذلك:(ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَۗ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ٣)وما دام العباد سينقسمون أمام صاحب الرسالة والكتاب الذي جاء به إلى من يقبل الهداية، ومن يحتاج إلى النذارة لذلك يقول لهم: (ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ) [الأعراف: 3]، وينهاهم عن الشرك وعدم الاستهداء، أي طلب الهداية، فيقول: (وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَۗ قَلِيلٗا مَّاتَذَكَّرُونَ)[الأعراف:3].
وحينما يأتي الحق سبحانه في مثل هذه الآيات ويقول:
(وَذِكۡرَىٰ) أو (وَذَكِّر) إنما يلفتنا إلى أن الفطرة المطبوع عليها الإِنسان مؤمنة، والرسالات كلها لم تأتِ لتنشئ إيمانًا جديدًا، وإنما جاءت لتذكر بالعهد الذي أخذ علينا أيام كنا في عالم الذر، وقبل أن يكون لنا شهوة اختيار: (وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِيٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَآۚ) [الأعراف: 172]. هذا هو الإقرار في عالم الذر؛ إذًا، فحين يقول الحق:  (قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ ) فنحن نلتفت إلى ما نسي الآباء أن يبلغوه للأبناء؛ فالآباء يعلمون الأبناء متطلبات حياتهم، وكان من الواجب أن يعلموهم مع ذلك قيم هذه الحياة التي تلقوها؛ لأن آدم وحواء لما نزلا إلى الأرض قال لهما الحق: (فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ) [طه: 123].وهكذا نعلم أن هناك (هدى) قد نزل على آدم، وكان من الواجب على آدم أن يعلمه للأبناء، ويعلمه الأبناء للأحفاد، وكان يجب أن يظل هذا (الهدى) منقولًا في سلسلة الحياة كما وصلت كل أقضية الحياة. ويأتي سبحانه لنا بحيثيات الاتِّباع: (ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ)[الأعراف: 3].
فالمنهج الذي يأتي من الرب الأعلى هو الذي يصلح الحياة، ولا غضاضة على أحد منكم في أن يتبع ما أنزل إليه من الإله المربي القادر. الذي ربّى وخلق من عدم، وأمد من عدم، وهو المتولِّي للتربية، ولا يمكن أن يربي أجسادنا بالطعام والشراب والهواء ولا يربي قيمنا بالأخلاق:
(وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَۗ ).ومادام قد أوضح: اتبعوا ما أنزل إليكم من أعلى، فلا يصح أن تأتي ممن دونه وتأخذ منه، مثلما يفعل العالم الآن حين يأخذ قوانينه من دون الله ومن هوى البشر. فهذا يحب الرأسمالية فيفرضها بالسيف، وآخر يحب الاشتراكية فيفرضها على البشر بالسيف. وكل واحد يفرض بسيفه القوانين التي تلائمه. وكلها دون منهج الله لأنها أفكار بشر، وتتصادم بأفكار بشر، والأولى من هذا وذاك أن نأخذ مما لا نستنكف أن نكون عبيدًا له.(وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَۗ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ) الأعراف: 3].
وتذكر أيها المؤمن أن عزتك في اتِّباع منهج الله تتجلّى في أنك لا تخضع لمساوٍ لك، وهذه ميزة الدين الذي يجعل الإنسان يحيا في الكون وكرامته محفوظةً، وإن جاءته مسألة فوق أسبابه يقابلها بالمتاح له من الأسباب مؤمنًا بأن رب الأسباب سيقدم له العون، ويقدم الحق له العون فعلًا فيسجد لله شاكرًا، أما الذي ليس له رب فساعة أن تأتي له مسألة فوق أسبابه تضيق حياته عليه وقد ينتحر.
ثم بعد ذلك، يبين الحق أن موكب الرسالات سائر من لدن آدم، وكلما طرأت الغفلة على البشر أرسل الله رسولًا ينبههم. ويوقظ القيم والمناعة الدينية التي توجد في الذات، بحيث إذا مالت الذات إلى شيء انحرافي تنبه الذات نفسها وتقول: لماذا فعلت هكذا؟. وهذه هي النفس اللوامة. فإذا ما سكتت النفس اللوامة واستمرأ الإنسان الخطأ، وصارت نفسه أمارة بالسوء طوال الوقت؛ فالمجتمع الذي حولهيعدله.
وهذه فائدة التواصي بالحق والصبر، فكل واحد يوصَّى في ظرف، ويوصِّي في ظرف آخر؛ فحين تضعف نفسه أمام شهوة يأتي شخص آخر لم يضعف في هذه الشهوة وينصح الإنسان، ويتبادل الإنسان النصح مع غيره، هذا هو معنى التواصي؛ فالوصية لا تأتي من جماعة تحترف توصية الناس، بل يكون كل إنسان موصيًا فيما هو فيه قوي، ويوصي فيما هو فيه ضعيف، فإذا فسد المجتمع، تتدخل السماء برسول جديد ومعجزة جديدة، ومنهج جديد؛ لكن الله أمن أمة محمد على هذا الأمر، فلم يجىء رسول بعده لأننا خير أمة أخرجت للناس. والخيرية تتجلى في أننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، فالتواصي باقٍ إلى أن تقوم الساعة:
(كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ..) [آل عمران: 110].
وهذه خاصية لن تنتهي أبدًا، فإن رأيت منكرًا فلابد من خلية خير تنكره وتقول: لا، وإذا كان الحق قد جعل محمدًا خاتم الرسل، فذلك شهادة لأمته أنها أصبحت مأمونة، وأن المناعة الذاتية فيها لا تمتنع وتنقطع، وكذلك لا تمتنع منها أبدًا المناعة الاجتماعية فلن يأتي رسول بعد سيد الخلق محمد
صلى الله عليه وسلم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *