العدد 445 -

السنة الثامنة و الثلاثون، صفر 1445 هـ الموافق أيلول 2023م

الحضارة وأثرها على البشرية

أبو مصطفى

تشكل الأفكار من فلسفة الحضارات منعطفات أساسية لما سيكون عليه واقع الناس على حياتهم حين العمل بها. فمنها ما هو خطير وشاذ للفطرة الإنسانية، ومنها ما هو راحة ومساعدة للبشرية. فالحضارات هي وجهات نظر عن الكون والإنسان والحياة، ولها مفاهيمها وثقافتها في تشكيل المجتمعات ودولها، ولها الأثر في انحطاط الإنسان أو رقيه.

فالحضارة الغربية (الرأسمالية) ادَّعت أنها جاءت من أجل استقلال الشعوب وحريتها، فإذا استقرأنا تكوينها الفكري والعقدي نرى أنها خرجت من عقلية عاشت حقبة زمنية متأثرة بتاريخها المظلم وسوء رعايتها من حكام وملوك وقياصرة استغلوا جهل الناس؛ حيث كانوا مستبدين وطغاة همهم السلطة والاستحواذ والاستمتاع بالحياة وزينتها وتحقيق مصالحها على حساب حقوق وراحة الشعوب واستقرارها، ثم إنها جعلت من الدولة مطية لابتزاز الشعوب والاستحواذ على خيرات البلاد باسم حمايتها وحماية حضارتها وباسم السلام والأمان والكرامة والتطور. وإذا ما عدنا إلى أساسياتها الفكرية نرى أنها لم تنظر وتبصر نتائج تلك الأفكار ونتائجها الكارثية وما سببته من فساد وظلم وانحراف في مجتمعاتها، والشقاء والمعاناة التي تعيشها الشعوب؛ حيث إن هذه الأفكار والثقافة النابعة من الفكر العلماني ونظامها الرأسمالي الذي صور الشعوب الجاهلة والمخدوعة بأنها البلسم الشافي في إشباع رغبات الناس وطموحاتهم، والتي تكتوي بنارها تلك الشعوب، ومع عدم مراعاة القناعة العقلية وملاءمة فطرتها لها وطمأنينة القلب، وأخذها دون نظر، وما تسببت تلك الأفكار والمفاهيم من تراكمات مركبة لمشاكل مستجدة… كل ذلك كان مدعاة لإعادة النظر في أخذ تلك الحضارة الزائفة والفاسدة والجشعة، ناهيك عما أحدثته من إفساد في العقليات البشرية وطريقة تفكيرها.

إن فلسفة الأفكار المنبثقة من تلك الحضارة تحتاج إلى معرفة صدقها وانطباقها بالرجوع إلى أصل تكوينها وأساسيات الثقافة التي تشكلت عليها، فليس كل ما يقال أو يشاع يصلح لأن يأخذه المجتمع وسياسة الدولة التي تسير بحسبه. فما نشهده اليوم مما أفرزته تلك الأفكار الغربية المنبثقة من حضارتها خير شاهد على فسادها، فهي واهية وخيالية وإن جمُّلت بعبارات رنّانة أو زينت، فكل ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع، فهي ساقطة عقائديًّا وثقافيًّا وأخلاقيًّا، فمثلًا نرى أن أنظمته قمعية تكمِّم الأفواه بالمنع والاعتقال والقتل أو الاغتيالات، ويتشدقون معها بحرية الرأي، ويقولون بالكرامة الإنسانية، والنساء عندهم تباع وتشترى بشرفها، وتراهم يبيحون الخمور والمخدرات ويعلنون مكافحتها بحجة حماية الإنسان وصحته… أما الروابط الاجتماعية الأسرية فتراها متفسخة ومتفككة والأنانية بارزة والمتع الجسدية من الناحية النفسية للإنسان فاقدة الحس والشعور والتفكير في الأبوة والأمومة والأخوة حتى أصبح المجتمع والأسرة كأنه مجتمع بهيمي أو أشد… أما الناحية الاقتصادية فأصبحت فيه محتكرة لخيرات البلاد، وأصبحت الشعوب تلهث لسد رمقها من أجل العيش وسد حاجاتها… وأما السياسة الدولية فأصبحت تحتل البلدان وتستعمرها باسم الإرهاب أو الاستثمار كما حصل في فلسطين والعراق وأفغانستان وسوريا واليمن… وهكذا كثير من بلاد العالم الإسلامي الذي يرزح تحت هيمنة الغرب، وجعلوا الإعلام والأوساط السياسية من المحسوبين على مجتمعاتنا تطبل وتزمر ليل نهار بلا حياء ولا خجل لمشاريعهم الاستعمارية باسم الثقافة والحوار واحترام الرأي الآخر واحترام الأديان، واشتروا ذمم ضعفاء النفوس وأنشؤوا حركات وأحزابًا ليستمروا بإلقاء قذاراتهم الحضارية وأفكارهم التي تدعي الديمقراطية، وقادوا الشعوب الإسلامية وغير الإسلامية من سيئ إلى أسوأ، ومن أزمة إلى أخرى بحجة الحداثة والتطور حتى أصبحت عند الشعوب المسلمة أنها بالية وخاوية ولا وجود للعدالة فيها، فلم تعد تنطلي عليهم تلك الأفكار المنبثقة من حضارتهم العفنة. ولولا حكمهم بالحديد والنار وأنظمتهم القمعية لَهَوت عروش وسقطت دول هي أنشأتها. ولكننا نقول: عسى الله أن يجعل بعد عسر يسرًا، وسيعلم الذين كفروا أي منقلب ينقلبون.

وأما الحضارة الإسلامية ومنطلقاتها الفكرية والثقافية فقد كان أثرها إيجابيًّا على كافة المستويات في الفرد والمجتمع والدولة في انتشال الشعوب من جهلها وخرافاتها العقدية، فقد كانت الحضارة الإسلامية حين تطبيقها والأخذ بأفكارها وأحكامها ترينا كيف ساد فيها العدل والراحة في عيش تلك البشرية والإنسانية؛ حيث إن الحضارة الإسلامية تحمل في ثناياها الرقي بالإنسان في مجتمعه، وتساموا فيه من علي إلى أعلى، وتساموا بالعقول والنفوس عند إدراك الإسلام من قبل الفرد والمجتمع والدولة. على أن تلك الحضارة تبين للإنسان أنه مخلوق وليس خالقًا، وأن التشريع هو لخالق الكون والإنسان والحياة، وأن الله هو الذي دبَّر للإنسانية أمرها، ويجب أن تسير بحسب رسالة الله، وأن العقل البشري مناطه التكليف وليس التشريع؛ لكونه فيه الاحتياج والنقص والعجز. فهو أي الإنسان بحاجة ماسة إلى من يدبر له أمره في هذا الحياة وصولًا إلى الغاية التي من أجلها خلق. فمنذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم والذي كان رحمة للبشرية جمعاء، والذي قلب موازين الحكم ونقل العباد نقلة نوعية من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن طغيان الروم والفرس ومشركي العرب إلى سيادة الحق الإلهي على البشرية… فكان الإسلام محط أنظار الناس، وعلى كافة المستويات من علماء ومتعلمين وسياسيين وقادة وحكامًا ومحكومين، ومن أنظمة مستبدة إلى نظام الإسلام، فقد كان لنظام الإسلام المنبثق من الحضارة الإسلامية وسياسة الدولة المطبقة لأحكامه في سياستها الأثر الأكبر على واقع الفرد والمجتمع والدولة، كان أثرًا منقطع النظير فعقيدته روحية سياسية، ونظام حكمه المتمثل بالخلافة التي رعت شؤون الناس رعاية جعلت الشعوب تستظل فيه حين شدتها ورخائها، فقد كانت الخلافة الإسلامية هي الواقية لكل من يتعدى أو يظلم، وقد كانت الحامية لمصالح الشعوب، وكان فيها العزة والرفعة لما تحمله من أفكار وثقافة ومفاهيم. فحري بالشعوب المسلمة أن تسعى لقلب وتغيير الواقع من تلك الأنظمة المجرمة وأفكارها المأخوذة من الحضارة الغربية التي لا تمت للإنسانية بصلة؛ حيث إنها أي الحضارة الرأسمالية هي عبارة عن تحقيق مصالح ذاتية أنانية لا تنظر إلى المجتمعات بعين الرحمة والإنسانية، فما خلفته من مأسي وما أحدثته وتحدثه من حروب مصطنعة وانتهاكات صارخة للإنسانية وتشريد وتهجير وقتل للبشرية خير شاهد… فالخلافة في نظر الإسلام هو من أولويات الفروض. ففي وجودها يتم تطبيق الإسلام، وفيها تكون الرعاية الحق، وفيها يتحقق رضى الله أولًا، وفيها تُحمى الثغور، وفيها تُرعى الشؤون، وفيها تُرد المظالم، وفيها تُعز الأمة الإسلامية لقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به» وأفكارها ترينا أنها قادرة على حماية الملكيات الفردية والعامة وأملاك الدولة من النهب والسلب، وأنها، أي الخلافة بأنظمتها، لا تحول من كان ضمن مسؤوليتها ورعايتها من تقديم الخدمات إلى المجتمع، فلا تحول مؤسساتها الخدمية التي هي ضمن مسؤوليتها إلى مؤسسات استثمارية يستحوذ عليها بعض الأفراد، وأنها لا تجعل في المجتمع أي صراع طبقي، وأنها من مسؤولياتها صون الأعراض والمقدسات، سواء أكانت إسلامية أو أعراض ومقدسات لطوائف أخرى. فالإسلام ينظر للمجتمع الذي يحكمه باعتبارات إنسانية وليس باعتبارات قبلية أو عشائرية أو طائفية أو قومية، فلا عزة بدونها، وقد قال سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه: «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلَّنا الله».

فإلى عزة يرضاها الله ورسوله أيها المسلمون، ونور تستنير به العقول وتحفظ فيه النفوس، وخلافة تصان وتحرَّر بها الشعوب. قال تعالى:(وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَعۡلَمُون). 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *