العدد 443 -

السنة الثامنة و الثلاثون، ذو الحجة 1444هـ الموافق تموز 2023م

مع القرآن الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ ٣٠) [البقرة: 30].

 

جاء في تفسير الشعراوي للآية:

بعد أن أخبرنا الحق سبحانه وتعالى أنه خلق جميع ما في الكون، أراد أن يخبرنا عمن خلفه لعمارة هذا الكون. فكأن القصة التي بدأ الله سبحانه وتعالى بها قصص القرآن كانت هي قصة آدم أول الخلق. ولقد وردت هذه القصة في القرآن الكريم كثيرًا لتدلنا لماذا أخبرنا الحق سبحانه وتعالى بهذه القصة؟ وجاءت لتدلنا أيضًا على صدق البلاغ عن الله، واقرأ قوله تعالى: (نَّحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ نَبَأَهُم بِٱلۡحَقِّۚ) [الكهف: 13].

وكلمة قصة مأخوذة من قص الأثر، بمعنى أن يتبع قصَّاصُ الأثر في الصحراء الآثار التي يشاهدها على الرمال حتى يصل إلى مراده، عندما يصل إلى نهاية الأثر. ومادمنا قد عرفنا أن الله يقص الحق. نعرف أن قصص القرآن الكريم كلها أحداث وقعت فعلًا. ولكل قصة في القرآن عبرة. أو شيء مهم يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا إليه. فمرة تكون القصة لتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت المؤمنين: واقرأ قوله تعالى: (وَكُلّٗا نَّقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ فُؤَادَكَۚ)[هود: 120]. فكل قصة تثبت فؤاد الرسول والمؤمنين في المواقف التي تزلزلهم فيها الأحداث. وقصص القرآن ليست لقتل الوقت؛ ولكن الهدف الأسمى للقصة هو تثبيت ونفع حركة الحياة الإيمانية. والعبرة في قصص القرآن الكريم أنها تنقل لنا أحداثًا في التاريخ تتكرر على مر الزمن. ففرعون مثلًا هو كل حاكم يريد أن يُعْبَدَ في الأرض. وأهل الكهف مثلًا هي قصة كل فئة مؤمنة هربت من طغيان الكفر وانعزلت لتعبد الله. وقصة يوسف عليه السلام هي قصة كل إخوة نزغ الشيطان بينهم فجعلهم يحقدون على بعضهم. وقصة ذي القرنين هي قصة كل حاكم مصلح أعطاه الله سبحانه الأسباب في الدنيا ومكَّنه في الأرض فعمل بمنهج الله وبما يرضي الله. وقصة صالح هي قصة كل قوم طلبوا معجزة من الله فحققها لهم فكفروا بها. وقصة شعيب عليه السلام هي قصة كل قوم سرقوا في الميزان والمكيال… وهكذا كل قصص القرآن قصص تتكرر في كل زمان، حتى في الوقت الذي نعيش فيه تجد فيه أكثر من فرعون، وأكثر من أهل كهف يفرون بدينهم، وأكثر من قارون يعبد المال والذهب ويحسب أنه استغنى عن الله؛ ولذلك جاءت شخصيات قصص القرآن مجهلة إلا قصة واحدة هي قصة عيسى بن مريم ومريم بنة عمران، لماذا؟ لأنها معجزة لن تتكرر؛ ولذلك عرفها الله لنا فقال (مريم بنة عمران) وقال (عيسى بن مريم) حتى لا يلتبس الأمر، وتدعي أي امرأة أنها حملت بدون رجل مثل مريم. نقول: لا، معجزة مريم لن تتكرر… أما باقي قصص القرآن الكريم فقد جاءت مجهلة، فلم يقل لنا الله تعالى من هو فرعون موسى، ولا من هم أهل الكهف ولا من هو ذو القرنين ولا من هو صاحب الجنتين. إلى آخر ما جاء في القرآن الكريم؛ لأنه ليس المقصود بهذه القصص شخصًا بعينه، لا تتكرر القصة مع غيره. وبعض الناس يشغلون أنفسهم بمن هو فرعون موسى؟ ومن هو ذو القرنين… إلخ، نقول لهم لن تصلوا إلى شيء لأن الله سبحانه وتعالى قد روى لنا القصة دون توضيح للأشخاص؛ ولكن المقصود هو الحكمة من القصة.

والقصص في القرآن لا ترد مكررة، وقد يأتي بعض منها في آيات، وبعض منها في آيات أخرى؛ ولكن اللقطة مختلفة. تعطينا في كل آية معلومة جديدة؛ بحيث إنك إذا جمعت كل الآيات التي ذكرت في القرآن الكريم تجد أمامك قصة كاملة متكاملة، كل آية تضيف شيئًا جديدًا. وأكبر القصص في القرآن الكريم قصة موسى عليه السلام. ويذكرنا القرآن الكريم بها دائمًا لأن أحداثها تعالج قصة أسوأ البشر في التاريخ. وفي كل مناسبة يذكرنا الله بلقطة من حياة هؤلاء.

وهكذا قصة آدم. جاءت لنا في آيات متعددة؛ لتعطينا في مجموعها قصة كاملة. وفي الوقت نفسه كل آية لها حكمة يحتاج إليها التوقيت الذي نزلت فيه… فالله سبحانه وتعالى يروي لنا بداية الخلق… وقصة عداوة إبليس لآدم وذريته… فتكلم الله سبحانه وتعالى عن أول البشر، عرفنا اسمه وهو آدم عليه السلام. وتكلم عن المادة التي خلق منها، وتكلم عن المنهج الذي وضعه لآدم، وحدثنا عن النقاش الذي دار مع الملائكة،كما أخبرنا بأن آدم سيكون خليفة في الأرض، وأنه علمه الأسماء كلها ليقود حركة حياته، وعلمنا منطق علم الأشياء وعلم مسمياتها، وحدثنا عن الحوار الذي حدث بين إبليس أمام ربه حينما أبى السجود، وبيَّن لنا حجة إبليس في الامتناع عن السجود، وخطة إبليس ومدخله إلى قلوب المؤمنين بالإغواء والوسوسة وغير ذلك؛ إذًا فهناك أشياء كثيرة تتعرض لها قصة آدم، ولو أن بشرًا يريد أن يؤرخ لآدم ما استطاع أن يأتي بكل هذه اللقطات. ولكن الحق سبحانه وتعالى جعل كل لقطة تأتي للتثبيت.

وهنا تأتي الآية الكريمة التي نحن بصددها، فقوله تعالى: (وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ) أي أن الله سبحانه وتعالى يطلب من سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أن يقول أنه عند خلق آدم، خلقه خليفة في الأرض. والكلام هنا لا يعني أن الله سبحانه وتعالى يستشير أحدًا في الخلق. بدليل أنه قال (إِنِّي جَاعِلٞ) إذًا فهو أمر مفروغ منه؛ ولكنه إعلام للملائكة.. والله سبحانه وتعالى عندما يحدث الملائكة عن ذلك فلأن لهم مع آدم مهمة؛ فهناك المدبرات أمرًا، والحفظة الكرام. وغيرهم من الملائكة الذين سيكلفهم الحق سبحانه وتعالى بمهام متعددة تتصل بحياة هذا المخلوق الجديد. فكان الإعلام. لأن للملائكة عملًا مع هذا الخليفة. قد يقول بعض الناس: أن حياة الإنسان على الأرض تخضع لقوانين ونواميس، نقول: ما يدريك أن وراء كل ناموس ملكًا؟

ولكن هذا الخليفة سيخلف من؟… ولكن الله جعل الملائكة يسجدون لآدم ساعة الخلق، وجعل الكون مسخرًا له فكأنه خليفة الله في أرضه، أمدَّه بعطاء الأسباب. فخضع الكون له بإرادة الله وليس بإرادة الإنسان. والله سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي: «يا ابن آدم تفرغْ لعبادتي أملأْ صدرك غنى وأسدَّ فقرك.. وإلا تفعل ملأتُ يدك شغلًا ولم أسُدَّ فقرَك»؛ إذًا كلمة خليفة تأخذ عدة معانٍ: ماذا قالت الملائكة؟: (قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ٣٠)كيف عرف الملائكة ذلك؟ لابد أن هناك حالة قبلها قاسوا عليها، أو أنهم ظنوا أن آدم سيطغى في الأرض؛ ولكن كلمة سفك وكلمة دم، كيف عرفتهما الملائكة وهي لم تحدث بعد؟ لابد أنهم عرفوها من حياة سابقة. والله سبحانه وتعالى يقول: (وَٱلۡجَآنَّ خَلَقۡنَٰهُ مِن قَبۡلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ ٢٧) [الحجر: 27]. وقوله تعالى: (إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ) معنى ذلك أن علمك أيها المخلوق مناسب لمخلوقيتك، أما علم الله سبحانه وتعالى فهو أزلي لا نهائي؛ ولكن هل قال الملائكة حين أخبرهم الله بخلق آدم ذلك علنًا أم أسروه في أنفسهم؟ سواء قالوه أم أسرُّوه، فقد علمه الله. لأنه يعلم ما يسرون وما يعلنون، وأنه يعلم السر وأخفى، فما هو السر، وما هو الأخفى من السر؟. السر هو ما أسررته إلى غيرك. فما أُسرُّ به إلى غيري فهو السر. وما أخفيه في صدري ولا يطلع عليه أحد هو أخفى من السر، فلا يقال أسررت إلا إذا بحت به لغيري. أما ما أخفيه في صدري. فلا يعلمه أحد إلا الله. فهذا هو ما أخفى من السر.

وعندما يقول الحق سبحانه وتعالى: (إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ) أراد أن يعطي القضية بعدها الحقيقي، وقد حكى القرآن الكريم قول الملائكة: (وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ) والتسبيح هو التنزيه عما لا يليق بذات المنزه. والتقديس هو التطهير… مأخوذ من الْقَدَس وهو الدلو الذي كانوا يتطهرون به؛ ولذلك نحن نقول سُبّوح قُدوس. سُبّوح أي مُنزه عن كل ما لا يليق بجلاله. وقدوس، أي مُطَهَّرْ… والتسبيح يحتاج إلى مُسبِّح. وإلى ما نسبحه. والملائكة قالوا: (سُبۡحَٰنَكَ لَا عِلۡمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمۡتَنَآۖ). وهذا تسبيح وتنزيه لله سبحانه وتعالى… والتسبيح والتنزيه لا يكونان إلا للكمال المطلق الذي لا تشوبه أية شائبة. والكمال المطلق هو لله سبحانه وتعالى وحده؛ لذلك صرف الله ألسنة خلقه عن أن يقولوا كلمة سبحانك لغيره تعالى. فلا تسمع في حياتك أن إنسانًا قال لبشر سبحانك. وهكذا صرفت ألسنة الخلق عن أن تسبح لغير الله سبحانه وتعالى.

 وقول الملائكة: (وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ) كأن نقول سبحان الله وبحمده. ومعناها تنزيه لله سبحانه وتعالى في ذاته فلا تشبَّه بذات، وفي صفاته فلا تشبَّه بصفات، وفي أفعاله فلا تشبَّه بأفعال؛ ولكن ما معنى كلمة وبحمده؟ معناها أننا ننزهك ونحمدك، أي يا رب تنزيهنا لك نعمة؛ ولذلك فإني أحمدك على أنك أعطيتني القدرة لأنزهك. والتقديس هو تطهير الله سبحانه وتعالى من كل الأغيار، ولأنك يا ربي قدوس طاهر، لا يليق أن يرفع إليك إلا طاهر. ولا يليق أن يصدر عمن خلقته بيديك إلا طاهر. إنه عرّفنا معنى نسبح بحمدك ونقدس لك. ثم أراد الله بحكمته أن يرد على الملائكة فقال: (إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ) ولم يطلقها هكذا؛ ولكنه سبحانه أتى بالقضية التي تؤكد صدق الواقع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *