العدد 441-442 -

السنة الثامنة و الثلاثون، شوال – ذو القعدة 1444هـ الموافق أيار – حزيران 2023م

قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي

هو خادم النبيِّ وحاجبه وصاحب لوائه، الصحابي الجليل سيد الخزرج وابن سيدهم، الصحابي ابن الصحابي سعد بن عبادة بن دُلَيْمٍ بن حارثة الساعدي الخزرجي الأنصاري، من بيت زعامة عظيم، ورث المكارم كابرًا عن كابر، وأمه فكيهة بنت عبيد بن دليم الخزرجية. كنيته أبو الفضل، وقيل أبو عبد الله، وقيل أبو عبد الملك.قال عمرو بن دينار: «كان قيس بن سعد رجلًا ضخمًا، جسيمًا، صغير الرأس، ليست له لحية، إذا ركب حمارًا خطت رجلاه الأرض، فقَدِمَ مكة، فقال قائل: من يشتري لحم الجزور»، وكان ليس فِي وجهه لحية ولا شعر، فكانت الأنصار تقول: «وددنا أن نشتري لقيس لحيةً بأموالنا». وكان مع ذلك جميلًا.

حين أسلم سعد بن عبادة رضي الله عنه أخذ بيد ابنه قيس وقدَّمه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قائلًا: «هذا خادمك يا رسول الله». ورأى النبي صلى الله عليه وسلم في قيسٍ كلَّ سمات التفوُّق وأمائر الصلاح، فأدناه منه وقرَّبه إليه، وظل قيس صاحب هذه المكانة دائمًا. خدم قيس رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن قيس بن سعد بن عبادة كان يكون بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرط من الأمير»، أي: مما يلي من أموره، فلما كان فتح مكة سنة 8هـ كلم سعد النبي صلى الله عليه وسلم في قيس أن يصرفه عن الموضع الذي وضعه، مخافة أن يُقْدِمَ على شيء، قال: فَصَرَفَهُ.

شهد قيس مع الرسول صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها، قال ابن شهاب: «كان حامل راية الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن سعد بن عبادة» وكان من ذوي الرأي من الناس، كما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية يوم فتح مكة؛ إذ نزعها من أبيه سعد عندما قال: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلُّ المحرمة، اليوم أذلَّ الله قريشًا»، وجعله بيد قيس ابنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله قريشًا”. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اللواء لم يخرج عنه، إذ صار إلى ابنه، وحينها أبى سعد أن يسلم اللواء إلا بأمارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمامته.

وعن عاصم بن عمرو بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه على الصدقة، وكان قيس سيدًا مُطاعًا، كثير المال، جوادًا كريمًا، من فضلاء الصحابة، وأحد دهاة العرب وكرمائهم، وكان من ذوي الرأي الصائب والمكيدة فِي الحرب، مَعَ النجدة والشجاعة، وكان من بيت سيادة العرب. قال أبو عمر الواقدي: «كان قيس بن سعد بن عبادة من كرام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسخيائهم ودهاتهم، ومن أهل الرأي والمكيدة فِي الحروب مع النجدة والبسالة والسخاء والكرم، وكان شريف قومه غير مدافع، هو وأبوه وجدُّه، صحب قيس بن سعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو وأبوه وأخوه سعيد بن سعد بن عبادة».

ولم يكن بين خصال قيس بن سعد بن عبادة ما يفوق ذكاءه سوى جوده، ولم يكن الجود خلقًا طارئًا على قيس، فهو من بيت عريق في الجود والسخاء، كان لأسرة قيس، على عادة أثرياء وكرام العرب يومئذ، منادٍ يقف فوق مرتفع لهم وينادي الضيفان إلى طعامهم نهارًا، أو يوقد النار لتهدي الغريب الساري ليلًا. وكان الناس يومئذ يقولون: «من أحبَّ الشحم، واللحم، فليأت أُطُم دليم بن حارثة»، فلما مات دليم نادى منادي عبادة بمثل ذلك، ثم مات عبادة فنادى منادي سعد بمثل ذلك، قال نافع مولى ابن عمر: «ثم قد رأيت قيس بن سعد بن عبادة كان من أجود الناس». وعن جابر رضي الله عنه قال: خرجنا في بعث كان عليهم قيس بن سعد بن عبادة فنحر لهم تسع ركائب، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا له ذلك من فعل قيس بن سعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الجود من شيمة أهل ذلك البيت». كان قيس في جيش العسرة، وكان ينحر ويطعم حتى استدان بسبب ذلك، فنهاه أبو عبيدة بن الجراح عن ذلك. وروي أن رجلًا استقرض منه ثلاثين ألفًا فلما ردها عليه أبى أن يقبلها، وقال: إنّا لا نعود في شيء أعطيناه. وكان من دعاء قيس بن سعد رضي الله عنه: «اللهم ارزقني حمدًا ومجدًا، فإنه لا حمد إلا بفعال، ولا مجد إلا بمال، اللهم لا يصلحني القليل، ولا أصلح عليه».

ومن مشهور أخبار قيس بن سعد بن عبادة أنه كان له مال كثير ديونًا على الناس، فمرض واستبطأ عُوَّادَه، فقيل له: إنهم يستحيون من أجل دينك، فأمر مناديًا ينادي: من كان لقيس بن سعد عليه دين فهو له، فأتاه الناس حتى هدموا درجة كانوا يصعدون عليها إليه. وقال سفيان الثوري: عن عمرو، عن أبي صالح قال: قسم سعد بن عبادة ماله بين أولاده وخرج إلى الشام فمات فيها، فولد له ولد بعد وفاته، فجاء أبو بكر وعمر إلى قيس بن سعد فقالا: إن أباك قسم ماله ولم يعلم بحال هذا الولد إذا كان حملًا، فاقسموا له معك، فقال قيس: إني لا أغير ما فعله سعد؛ ولكن نصيبي له.

كان قيس مثالًا يحتذى به في الصلاح والتفوق، ممّا جعل الرسول يقرّبه إليه، وممّا يؤكّد ذلك ما رواه الترمذي عن قيس بن سعد، حيث قال: «أنَّ أباهُ دفعَهُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ يخدُمُهُ، قالَ: فمرَّ بيَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ وقد صلَّيتُ فضرَبني برجلِهِ وقالَ: «ألا أدلُّكَ على بابٍ من أبوابِ الجنَّةِ؟» قلتُ: بلى. قالَ: «لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللَّهِ»»

حين كان قيس، قبل الإسلام يعامل الناس بذكائه كانوا لا يحتملون منه ومضة ذهن، ولم يكن في المدينة وما حولها إلا من يحسب لدهائه ألف حساب، فلما أسلم، علّمه الإسلام أن يعامل الناس بإخلاصه لا بدهائه، ومن ثمّ نحّى دهاءه جانبًا، ولم يعد ينسج به مناوراته القاضية، وصار كلما واجه موقعًا صعبًا، يأخذه الحنين إلى دهائه المقيَّد، فيقول عبارته المأثورة: «لولا الإسلام، لمكرتُ مكرًا لا تطيقه العرب»، وكان يقول: «لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المكر والخديعة في النار» لكنت من أمكر هذه الأمة».

كان لقيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه عدة أحاديث، روى عنه جماعة من الصحابة وجماعة من التابعين، وَهُوَ معدود فِي المدنيين، وعاش قيس في المدينة، حتى توفي في آخر خلافة معاوية سنة ستين للهجرة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *