العدد 441-442 -

السنة الثامنة و الثلاثون، شوال – ذو القعدة 1444هـ الموافق أيار – حزيران 2023م

رياض الجنة: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مُسْلِمٍ» (1)

حذّر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة الإسلامية في أحاديثه الشريفة، مثلما حذر القرآن الكريم، المسلمين تحذيرًا شديدًا من سفك دماء بعضها بعضًا بغير حق، بل جعل أقل من ذلك كالسباب فسوقًا، ولم يقبل منه مجرد الإشارة إليه بالسلاح لو كان من غير قصد الإيذاء… بل إن من عظمة الشريعة الإسلامية أنها لم تجعل حرمة الدماء قاصرة على المسلمين فحسب، بل تعدتها لتشمل كذلك غير المسلمين من المعاهدين والذميين والمسـتأمنين؛ حيث حرم الإسلام الاعتداء عليهم؛ وذلك فى أحاديث كثيرة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكم تشتدّ الحاجة إلى الالتزام بها في هذه الأيام، ومن هذه الأحاديث:

۞ «عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سِبابُ المسلم فسوق، وقتاله كفر» هذا الحديث دليل على عظم حق المسلم حيث حكم على سب المسلم أخاه بالفسوق وهو الخروج عن طاعة الله، وأن من قاتل أخاه المسلم لشيء في نفسه أو لدنيا دون أن يعتقد حل دمه فإنه أطلق لفظ الكفر عليه مبالغة في التحذير من غير أن يخرجه عن الملة. ومثله ما حدث أبو زرعة عن جده جرير قال: قال لي إن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع استنصت الناس ثم قال: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» رواه مسلم

۞ رأى أبو بَكْرةَ رَضيَ اللهُ عنه الأحْنَفَ بنَ قَيسٍ مُتوجِّهًا للقِتالِ، قال له: أين تُريدُ؟ قال: أنصُرُ هذا الرجُلَ قالَ: ارْجِعْ؛ فإنِّي سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: «إذَا التَقَى المُسْلِمَانِ بسَيْفَيْهِما فَالقَاتِلُ والمَقْتُولُ في النَّارِ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، هذا القَاتِلُ فَما بَالُ المَقْتُولِ؟ قالَ: إنَّه كانَ حَرِيصًا علَى قَتْلِ صَاحِبِهِ.» رواه البخاري

۞ عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يمنعُ أحدَكم إذا جاء من يريد قتله أن يكون مثل ابني آدم، القاتل في النار والمقتول في الجنة» [رواه أحمد]. وفي موضوع الفتنة بين المسلمين نفسه، حدَّث أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «في الفتنة كسِّروا فيها قِسِيّكُم وقطِّعوا أوتاركم واضربوا بسيوفكم الحجارة؛ فإن دُخل على أحدكم بيتُه فليكن كخيرِ ابني آدم» [رواه الخمسة إلا النسائي].

۞ عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مُسْلِمٍ». رواه البخاري وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم: «زوال الدنيا جميعًا أهون على الله من دم يسفك بغير حق». هنا أخبَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن فَناءَ الدنيا وهلاكُها، «أهونُ»، أي: أخفُّ وأقلُّ شأْنًا، «عند اللهِ مِن قتْلِ رجُلٍ مُسلمٍ» ظُلْمًا بغيرِ سببٍ شَرعيٍّ، وعدَّه مِن الكبائر.

۞ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ بِالدِّمَاء» رواه البخاري. ويشير هذا الحديث إلى تَغْلِيظُ أَمْر الدِّمَاء، وَأَنَّهَا أَوَّل مَا يُقْضَى فِيهِ بَيْن النَّاس يَوْم الْقِيَامَة، وَهَذَا لِعِظَمِ أَمْرهَا وَكَثِير خَطَرهَا.

۞ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حِله». رواه البخاري. وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا». البخاري   يعني: ما لم يقتل مؤمناً أو ذمياً أو معاهداً أو مستأمناً، فهذه هي الدماء المحرمة، وأشدها وأعظمها دم المؤمن وفي هذا المعنى أيضًا روى ابن ماجه وابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيّما رجل أمن رجلًا على دمه ثم قتله، فأنا من القاتل بريء وإن كان المقتول كافرًا».

۞ عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبغض الناس إلى الله ثلاثة: مُلْحِدٌ في الحَرَم، ومُبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرىء بغير حق ليهريق دمه». رواه البخاري. وروى الطبراني والبيهقي عنه صلى الله عليه وسلم: «من استطاع أنْ لا يحال بينه وبين الجنة بملء كفه منْ دم أهراقه فليفعل». وروى ابن ماجة  عنه صلى الله عليه وسلم: «من لقي الله لا يشرك به شيئًا لم يتندَّ بدم حرام دخل الجنة». وفي هذا الحديثِ يَروي عُقبةُ بنُ عامِرٍ الجُهَنِيُّ رضِيَ اللهُ عنه: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَن لَقِيَ اللهَ لا يُشْرِكُ به شيئًا»، أي: مات على التَّوحيدِ للهِ مع الإيمانِ الكامِلِ واليَقينِ، «لم يَتَنَدَّ بدَمٍ حرامٍ» مِن النَّدى، وهو: قَطراتُ المـَطَرِ، والمُرادُ به هنا: قَطراتُ الدَّمِ، لم يُصِبْ مِن الدَّمِ المَعصومِ شيئًا، أو لم يَنَلْه منه شيءٌ بالمُباشرَةِ بنفْسِه، أو بالحَثِّ والحضِّ عليه، «دخَلَ الجنَّةَ»، أي: كان جَزاؤُه الفَوزَ بالجنَّةِ عندَ اللهِ وبفضْلٍ منه سُبحانَه، وذلك بعدَ أنْ يُجَازَى على ما كان منه مِن ذُنوبٍ وصغائرَ، ولا يَزالُ المَرْءُ في فُسحةٍ مِن دِينِه ما لم يُصِبْ دمًا حرامًا، كما في صحيحِ البُخاريِّ.

۞ روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والَّذي نَفْسِي بيَدِهِ، لا تَذْهَبُ الدُّنْيا حتَّى يَأْتِيَ علَى النَّاسِ يَوْمٌ لا يَدْرِي القاتِلُ فِيمَ قَتَلَ، ولا المَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ. فقِيلَ: كيفَ يَكونُ ذلكَ؟ قالَ: الهَرْجُ، القاتِلُ والْمَقْتُولُ في النَّارِ.» أخرجه مسلم.
وفي هذا الحديثِ يُقسِمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بقولِه: أنَّه لا تَذهبُ الدُّنيا ولا يَفْنى أجَلُها حتَّى يَأتيَ على النَّاسِ زمانٌ فيهِ شرٌّ جَسيمٌ؛ وهو أنَّه لا يَدري كلٌّ من القاتلُ والمقتولُ في أيِّ شَيءٍ قَتَلَ، وسمَّى الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بـ«الهَرْجُ» وهو الفِتنةُ والِاختلاطُ المُؤدِّيةُ للقَتلِ المَجهولِ. وفي رواية أخرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بال قاتل والمقتول يوم القيامة فيقول: أي ربِّ، سلْ هذا فيم قتلني؟ فيقول: أي ربِّ أمرني هذا. فيؤخذ بأيديهما جميعًا فيقذفان في النار». وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأله سائل فقال: يا أبا العباس، هل للقاتل من توبة؟ فقال ابن عباس: كالمعجب من شأنه: ماذا تقول؟ فأعاد عليه مسألته فقال: ماذا تقول؟ مرتين أو ثلاثًا، قال ابن عباس: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي المقتول متعلقًا رأسه بإحدى يديه متلبِّبًا قاتله باليد الأخرى تشخب أوداجه دمًا حتى يأتي به العرش، فيقول المقتول لرب العالمين: هذا قتلني فيقول الله عز وجل للقاتل: تعست ويذهب به إلى النار».

۞ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أصبح إبليس بثَّ جنوده فيقول: من أخذل اليوم مسلمًا ألبسته التاج، قال فيجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى طلَّق امرأته، فيقول يوشك أن يتزوج، ويجيء لهذا فيقول: لم أزل به حتى عقَّ والديه، فيقول يوشك أن يبرهما، ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى أشرك، فيقول أنت أنت، ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى قتل، فيقول أنت أنت ويلبسه التاج»، وهذا يبين مدى كبر جريمة القتل عند الله تعالى.

۞ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج عنق من النار يتكلم يقول وُكِّلت اليوم بثلاثة؛ بكل جبار عنيد، ومن جعل مع الله إلها آخر، ومن قتل نفسا بغير حق، فينطوي عليهم فيقذفهم في حمراء جهنم».

۞ عن ابن سيرين، سمعت أبا هريرة، يقول: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه.» أخرجه البخاري. قال الإمام النووي رحمه الله: فيه تأكيد حرمة المسلم والنهي الشديد عن ترويعه وتخويفه والتعرض له بما قد يؤذيه. وقوله صلى الله عليه وسلم وإن كان أخاه لأبيه وأمه مبالغة في إيضاح عموم النهي في كل أحد، سواء من يتهم فيه أمَّن لا يتهم، وسواء أكان هذا هزلًا ولعبًا أم لا؛ لأن ترويع المسلم حرام بكل حال، ولأنه قد يسبقه السلاح كما صرح به في الرواية الأخرى ، ولعن الملائكة له يدل على أنه حرام.

وعنه صلى الله عليه وسلم: «من حمل علينا السلاح فليس منا» أخرجه : الطبراني في الكبير. وهذا دليل على تحريم قتال المسلمين وتغليظ الأمر فيه. فقوله: «فليس منا»: قد يقتضي ظاهره الخروج عن المسلمين، وقيل فيه: ليس مثلنا أو ليس على طريقتنا أو ما يشبه ذلك. وقال الإمام الصنعاني رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: «من حمل علينا السلاح فليس منا» أي من حمله لقتال المسلمين بغير حق. وقال الإمام النووي رحمه الله: قاعدة مذهب أهل السنة والفقهاء أن من حمل السلاح على المسلمين بغير حق ولا تأويل ولم يستحله فهو عاص ولا يكفر بذلك فإن استحله كفر. وقال الإمام النووي رحمه الله: قوله: (فليس منا) معناه عند أهل العلم أنه ليس ممن اهتدى بهدينا واقتدى بعلمنا وعملنا وحسن طريقتنا كما يقول الرجل لولده إذا لم يرضَ فعله: لست مني… وهكذا القول فى كل الأحاديث الواردة بنحو هذا.[يتبع]

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *