العدد 438-439-440 -

السنة السابعة والثلاثون، رجب – شعبان – رمضان 1444هـ الموافق شباط – آذار – نيسان 2023م

تباشير سقوط الرأسمالية (وقوع البيت الخرب الذي كان يظنه الناظر بأنه عامر)

ما من دولة ظهرت على العالم، إلا وكان لها يوم تودعه فيه؛ لتظهر دولة غيرها؛ فأين تلك الدول من التاريخ الطويل للبشرية من خلق آدم إلى اليوم؟، فما من دولة سادت إلا وبادت… يقول شبنجلر: «إن التاريخ الإنساني ليس خطًّا مستقيمًا إلى التقدُّم بل هو دورات متعاقبة من النمو والانحلال، وإن كل حضارة هي أشبه بإنسان.. يولد وينمو وينضج ثم يشيخ ويموت». (نشوء وسقوط القوى العظمى ص7). وجاء في كتاب (موت الغرب ص432): «قد يكون موت الغرب صار مخبوزًا في الكعكة»، وجاء في خطبة سياتل شيخ الدواميش من الهنود الحمر سنة 1854م، حين أجبره زعيم واشنطن الكبير على مغادرة أرضه وبيعها له: «حتى أنت أيها الرجل الأبيض الذي تمشي مع ربك وتحاكيه صديقًا لصديق لن تنجو من هذا المصير».(كتاب الإبادة الجماعية، منير العكش ص167-168) هذا مما يبشِّر فعلًا بأن بيت الغرب أصبح خربًا ينتظر زلزال التغيير حتى يهدمه… إنها سنَّة الله في التغيير، والتي لن تجد لها تبديلًا ولا تحويلًا، قال تعالى: (إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ١٤٠).

فهناك دول قامت على الحق وبه سادت ثم بادت، فما بال دول قامت على الباطل؟ فإن سقوطها وذهابها أدراج الرياح تشاهده العين اليوم أكثر من أي وقت مضى، خصوصًا إذا كان من يزاحمها على الصعود هي دولة على الحق؛ فلا شكَّ عندنا في سقوط المبدأ الرأسمالي وتلاشي جميع الدول القائمة عليه اليوم؛ لكننا سنبحث في أسباب هذا السقوط للمبدأ الرأسمالي.

جاء ظهور المبدأ الرأسمالي مع ثورة الباستيل 1789م، ليقصي الكنيسة ويبعدها عن حياة الناس بعد أن أفسدتها خلال قرون الظلام الوسطى، ويقيم نظامًا على النفعية العقلية. لقد جاء ظهور الغرب، أوروبا وأمريكا، ظهورًا ماديًّا صِرْفًا، واستطاع أن يمتدَّ لأقل من قرنين ونصف، وها هو يترنَّح اليوم ليلحق بالمبدأ الاشتراكي المنهار بعد أقل من مائة سنة. وإنه وإن شهد القرن المنصرم سقوط المبدأ الاشتراكي، فإن هذ القرن سيشهد سقوط المبدأ الرأسمالي الذي انخسفت الناحية الروحية فيه وتلاشت واختفت. وإن مردَّ سقوط الحضارة الرأسمالية الغربية يعود إلى الفكر الذي يغيِّب الدين عن المعالجات السياسية والاقتصادية وغيرها بفصله وجعلِ التديُّن فرديًّا تحت مسمى دين مدني، وإسناد حلول مشاكل الحياة إلى عقل الإنسان، وتحويل مهمة العقل من فهم نصوص وأحكام الدين وتنزيلها على وقائعها، إلى ابتكار الأحكام، التي جعلوها تدور مع المنفعة  المادية العقلية!.

اقتصاد منحرف يولد الأزمات ويعالج الأعراض

بعد فصل المبدأ الرأسمالي الدين عن تنظيم شؤون الحياة، بني الاقتصاد الرأسمالي على تعريف خاطئ للمشكلة الاقتصادية بتعريفه لها بأن الناس كثيرون والموارد والخدمات قليلة، وبالتالي كانت المعالجة الاقتصادية محصورة بالعرض والطلب لحل المشكلة الاقتصادية، فصار الخطأ مركبًا. فالمشكلة الأولى التي وقع فيها الاقتصاد الغربي هو أنه وضع تعامله في الإقراض على أساس الربا، والثانية هو استبداله الأوراق المالية بالذهب والفضة نهائيًا في التعامل النقدي، وجعل الفضة والذهب سلعة بدلًا من أن يكونا معيارًا.

والشركات المساهمة هي واحدة من بنات الاقتصاد الرأسمالي يؤسسها جماعة نصيبهم 51% من مجموع أسهمها، ويبيعون ما تبقى من أسهمها للمساهمين، ويتحكَّم بها أصحاب الـ51%». وهذه الشركات يتقاضى مديروها مرتبات عالية جدًا تصل إلى ملايين الدولارات في العام، في الوقت الذي لا تقوم بتوزيع جميع أرباحها، وإعادة شراء أسهمها لرفع قيمة أسهمها في البورصة. وباختصار، تسير الأسواق للخلف، فالشركات تُعيد لحمَلة أسهمها – في المتوسط أكثر من ثلث أرباحها (الرأسمالية في طريقها لتدمير نفسها، ص20) وهذا ما يجعل جلَّ المعالجات الاقتصادية تزداد في الانحراف عن حل المشكلة الاقتصادية.

لقد صارت البيئة المالية للاقتصاد الرأسمالي تبحث عن الربح السريع، وبالتالي ذات نظرة قصيرة المدى لتحقيق أرباح مالية وذات مخاطر مخفاة، إن ظهرت ستفسد النظام بأكمله وسط قصر مدى الرؤية وازدياد جشع المستثمرين المحترفين! وحتمًا ستؤدي في المدى الطويل إلى خفض متوالٍ لأرباح ونمو الشركات، وستؤدي إلى خفض ثقة أصحابه به. ولسيطرة الاقتصاد الرأسمالي على اقتصادات العالم – سيطرته على المواد الخام وفتح أسواقه لمنتجاته – فقد غذت العولمة بقاء هذا الانحراف، انهيار هذا يكون في عدم ديمومته. (الرأسمالية في طريقها لتدمير نفسها ص14) فعلى سبيل المثال يطرح المستثمرون الصغار أموالهم في البورصة، ويقعون تحت تأثير المستثمرين الكبار – واضعي ومعلني التقارير الربعية والسنوية كيفما يحلو لهم – فتنمو أموال المستثمرين الصغار يومًا بعد يوم، وفي لحظة تتحول إلى أصفار، وتستقرُّ أموالهم إلى جيوب المستثمرين الكبار. وعادة ما يتكرَّر انهيار البورصات بكثير من العوامل الطارئة كمغادرة أركان الأسواق وسحب أموالهم بعد بيع أسهمهم، كما حدث في هزات الأسواق الآسيوية في عام 1997م، وحدوث الأزمة الاقتصادية في أمريكا عام 2008م، وظهور وباء فيروس كورونا عام 2019م. «وهذا المنطق للربحية قصيرة المدى يحمل في طياته نهايته القريبة؛ لأنه يضحي بالمستقبل». (الرأسمالية في طريقها لتدمير نفسها ص14) فالمعالجات الاقتصادية الرأسمالية تقتصر على معالجة الأعراض الظاهرة وترك المسبب الأساسي لها. فهو ينتقل كل مرة من مواجهة عرض حاضر إلى آخر جديد وهكذا إلى أن يعجز في الأخير لنفاد جميع المعالجات الممكنة، وبقاء المعالجات التي تقوِّض النظام الاقتصادي برمته.

المستويات العليا للتضخم

فقدان الثقة في النظام البنكي: اخترع الرأسماليون الأوراق النقدية للتعامل بها بدلًا عن المعدنين الذهب والفضة، مع ضمان تحويل الأوراق النقدية من مصدريها إلى ذهب وفضة؛ لكن هذا الضمان تلاشى حين سُحِبَتْ التغطية الذهبية والفضية عن الدولار عام 1971م، وجُعِلَ كل من الذهب والفضة سلعة. فالنظام البنكي مرَّ بمراحل أولها إيداع الأموال في البنوك، وسهولة سحبها وتحويلها من بنك إلى بنك ومن بلد إلى آخر، كانت الثقة موجودة في إيداع الأموال البنوك حول العالم، وتمكين مودعيها من سحبها؛ إلا أن تلك الثقة فُقِدَتْ في المرحلة الثانية بعملية تجميد الأموال للأشخاص والدول وعدم تمكينهم من التصرف بها، ثم السيطرة عليها، ومثال ذلك تجميد الأموال الروسية في بروكسل قبل نهاية العام 2022م، واحتمال حدوثها مع الأموال الصينية في البنوك الأمريكية والأوروبية، في حال استخدمت القوة مع تايوان.

يعتبر الدَّين مشكلة حقيقية من مشاكل الاقتصاد، ففيه تركُّز للمال بأيدي المقرضين، وعجز المقترضين على سداد ديونهم، وسواء أكان المقترضون أفرادًا أم دولًا فالنتيجة واحدة هي العجز عن سداد الدين، وكبر حجم الدين العام. لقد بدأ الدين العام منذ عهد ريغان «في بدء الثمانينات بزيادات هائلة في الإنفاق الدفاعي، وتخفيض مدهش في الضرائب». (نشوء وسقوط القوى العظمى، ص799) وأصبح الدين الأمريكي في القرن الحالي مشكلة بارزة: «…نجد أن الولايات المتحدة تواجه مشكلات حقيقية في مسائل من مثل الديون، والتعليم الثانوي، وعدم تساوي الدخل…» (نهاية القرن الأمريكي، ص106-107) لقد أدت ضخامة الدين إلى سقوط دول، «ففي مفردات التاريخ البريطاني (تلك هي الطريقة التي انحدرت بها الإمبراطوريات؛ بدأت بانفجار الديون)». (نهاية القرن الأمريكي، ص78).

العجز في الميزان التجاري الأمريكي: «والعجز في الحساب الجاري (الذي يعني أن الأمريكيين أصبحوا أكثر مديونية للأجانب)، والارتفاع في الدين الحكومي» (نهاية القرن الأمريكي، ص77) وقد جاوز الثلاثين تريليون دولار بداية 2023م، إلى جانب العجز الفيدرالي البالغ 3% من الناتج المحلي الإجمالي قبل عشر سنوات من الآن. كما كشفت أزمة 2008م بأن جميع الدول الأوروبية تعاني من ديون حكومية ضخمة بمئات مليارات الدولارات.

لقد أدى كل ما سبق من العوامل الاقتصادية إلى نشوء الأزمة الاقتصادية في 2008م في أمريكا، ومن ثم انتقالها لبقية بلدان العالم، بسبب حيازتها كميات ضخمة من الدولارات في بنوكها. تلا الأزمة الاقتصادية تباطؤ النمو الاقتصادي في أمريكا وبقية الدول الأوروبية. «فمع أن التنبؤات الاقتصادية تبدو غير دقيقة، إلا أنها أظهرت أن الولايات المتحدة تعاني بطئًا في النمو خلال السنوات التي تلت الأزمة المالية التي حدثت في عام 2008م…». (نهاية القرن الأمريكي، ص74) ومع أن الكتاب يحمل عنوان «نهاية القرن الأمريكي» إلا أن الكاتب ينافح عن نهاية قرن بلاده. ولا يخفى أن الأزمة الاقتصادية الأمريكية القادمة قاتلة، وهي ليست ببعيدة عن «2024م»، ولن يتعافى بعدها الاقتصاد الرأسمالي برمته، وسيأفل إلى غير رجعة.

يظهر الكتَّاب الأمريكيون إحصائياتهم القديمة في شتى المجالات التي تظهر أوان قوتهم «خصوصًا بعد الحرب العالمية الثانية»، ويخفون الإحصائيات الحالية منذ دخول القرن الحالي لفظاعتها وشناعتها، وبيان كم انحدرت بلادهم في السحيق حتى لا يصعق الرأي العام الأمريكي، ويظهر العالم على حقيقة الوضع الحالي لأمريكا. ونختم بما قاله بول كيندي حرفيًا: «وكئيبة هي الاختبارات التي تواجه الولايات المتحدة وهي تشق طريقها صوب القرن الحادي والعشرين وخاصة في القطاع الاقتصادي…» (نشوء وسقوط القوى العظمى ص811).

الديموغرافيا وتراجع النمو السكاني والاعتماد على كتلة المهاجرين

يُعَدُّ نمو السكان مؤشرًا على حال صحة المجتمعات والدول من عدمها، فقد جُعِلَتْ غريزة حفظ النوع الإنساني مودعة في الزواج والتناسل لحفظ النوع الإنساني بسهولة ويسر. فيتزوج الرجال النساء ويكوِّنون أُسرًا تنجب الأبناء والبنات وتحتضنهم، وتعدهم ليكونوا خلفًا لوالديهم. وفي المقابل هناك موت يحصد أرواح من كتبت عليهم الوفاة؛ وحتى تزدهر الحياة لا بد من أن تكون أعداد المواليد تفوق أعداد الوفيات، وإلا تعرضت الحياة للاندثار، هذا من حيث النظام العام، أما من حيث ممارسة الغربيون فقد جاء معاكسًا لهذه السنَّة الماضية؛ فهم قد انغمسوا في شهواتهم وملذاتهم، فلم يعد للرجل والمرأة حافز لتكوين أسرة وإنجاب الأطفال ورعايتهم، فقد بلغ عدد المتساكنين في أمريكا 523.000 في 1970م، و5.5 مليون في 2000م. «يقول أستاذ علم الاجتماع الإيطالي د. بييربولو دوناتي من جامعة بولونا: «إن يسر الرخاء قد خنقنا، ورفاهية الترف هي الآن الشيء الوحيد الذي يؤمن به أي إنسان». (موت الغرب، ص43). وجاء في المصدر نفسه ص341: «حيثما تنتصر العلمانية يبدأ السكان بالانكماش والموت».

لقد تغيَّر تفكير المرأة في الغرب الرأسمالي، فبدلًا من جنة المرأة بيت ترعى فيه أطفالها وزوج يكدُّ لينفق عليهم، فقد غادرته للكدِّ بجانب الرجل، والاستمتاع بالحياة بدون أطفال، وإن وجد الأطفال قلَّلت من عددهم وتركتهم للمربية. «وأصبح شغل المرأة الشاغل المظهر المادي الحسن والمال». (موت الغرب، ص76)

إن الإحصائيات تعكس جملة من تغير المعايير والمعاني والأفكار خلال فترة من الزمن. فقد خضعت المرأة الغربية لجملة من الأفكار التي قادتها حركات نسوية نجحت في الحد الأدنى من جعل المرأة تغادر بيتها، وتغيُّر ما لديها من معايير. ليست المسألة في كفاية المرأة ماديًّا، فذلك أمر قد يحدث مع غنى المرأة، فالخطورة هي فكرة الاستقلال عن الزوج والحاجة إليه وحتى جنسيًّا والمساواة معه. فالأسرة – لبنة المجتمع – لم تعد موجودة للبناء السليم السوي للمجتمع، «وإذا كانت النساء قادرات على أن يكسبن أكثر من كفايتهن ليكنَّ مستقلات ماليًّا فإن الزوج لا يبقى بعد ذلك أساسيًّا. وإذا كانت تستطيع أن تمارس الجنس أيضًا وبدون أطفال، ويصدق هذا الآن على ما يبدو على إيطاليا الكاثوليكية مثلما يصدق على بريطانيا العلمانية، فلماذا إذن تتزوج؟». (موت الغرب، ص35). كانت الطبيعة أن تنجب الزيجات أبناءً كثيرين، قبل أن يتدخل الإنسان، ويبدأ في معارضة الطبيعة بشكل مخلٍّ، ويتدخل لصالح تقليل الذرية باستخدام وسائل تقليدية كعزل الأزواج عن زوجاتهم؛ لكن الأمر تطوَّر أكثر مع اكتشاف وتصنيع وتداول حبوب منع الحمل في العام 1960م من الدكتور روك ليتوسع استخدامها رغبة في عدم الإنجاب. «إن منع الحمل أوقف نمو السكان في الغرب، ومع منع الحمل الإجهاض بوصفه خط الدفاع الثاني ضد الطفل غير المرغوب بمجيئه». (موت الغرب، ص60)  إلى جانب الإقبال على إجراء الإجهاض الذي بدأ بصورة رسمية في ستينات القرن الماضي، «كان ينظر إليه في السابق في الغرب عمومًا على أنه عمل شيطاني معاد لله وللإنسان» (موت الغرب، ص64). لقد بدأت قصة الإجهاض العلني في أمريكا في ستينات القرن الماضي، برغبة امرأة تحمل جنينًا مشوَّهًا لا ترغب في إتمام حملها به، فتوجَّهت إلى السويد لتجهض حملها. ففي 1966م كانت تجرى 6000 عملية إجهاض في أمريكا، فـ600.000 في 1973م، وفي 1983م 1.5 مليون ونصف، ووصلت حد 40 مليونًا مع نهاية القرن الماضي. والخلاصة «إن ثلاثين بالمائة من مجموع حالات الحمل الآن تنتهي على طاولة في مستوصف إجهاض». (موت الغرب، ص62)، بل إن الأمر صار في متناول المرأة تتخلص من حملها بالإجهاض بنفسها. «وفي العام 2000م وافقت إدارة الأغذية والأدوية الأمريكية على عقار يستخدم حاليًّا في أمريكا لتجهض المرأة جنينها خلال الأسابيع السبعة الأولى من الحمل». (موت الغرب، ص62-63)  ليكون عدد الجنازات أكثر من الولادات حاليًّا في الغرب. كل ذلك أدى إلى انخفاض مميت للسكان في الغرب الرأسمالي.

في العام 1960م، كان سكان الغرب «أمريكا، أوروبا، كندا، أستراليا» يشكلون ربع سكان العالم (750 مليون من 3 مليارات)، أما المتوقع في 2050م فسيكونون عُشْر سكان العالم (900 مليون من 9 مليارات). وما يشير إليه انخفاض خصوبة النساء الغربيات، فقد بلغت في أوروبا مستوى مخيفًا بشكل عام إلى 1.4 طفل لكل امرأة، وببعض التفصيل 1.07 طفل في إسبانيا، 1.2 في إيطاليا، 1.66 في بريطانيا، 1.17 في روسيا لكل امرأة، جعلت الهالك عضو مجلس النواب الروسي جرينوفسكي يقترح زواج الروسي بخمس نساء.

لقد بدأ الانحلال الأخلاقي في المجتمعات الغربية بإصدار المجلة الإباحية بلاي بوي في 1953م في أمريكا، وانطلاق الثورة الجنسية في 1960م، التي فتحت الباب إلى أطنان الأفلام الإباحية مع مطلع القرن الحالي. فمع كل هذا أصبح بمقدور الرجل والمرأة إشباع شهوتهما بشكل فوضوي، ولم يعودا بحاجة إلى الزواج ناهيك عن تكوين الأسر وتحمل المسؤوليات، ولم ينظرا فيه إلى عواقبها.

«لقد بدأت الثورة الجنسية تفترس أطفالها. فالإحصائيات عن الإجهاض، والطلاق، وانهيار معدلات الولادة، والبيوت القائمة على والد واحد، وانتحار الشباب الصغار، وإطلاق النار في المدارس، واستخدام المخدرات، والإساءة إلى الأطفال، والإساءة إلى الأزواج، وجرائم العنف، ومعدلات الإيداع في السجون، والزنا بالعديد من النساء، وهبوط علامات الاختبارات كلها توضح كيف أن هذا المجتمع، الذي تتصاعد فيه الثورة الثقافية، هو في حالة تحلُّل وفناء». (موت الغرب، ص453) 

في الولايات المتحدة كما في أوروبا كان الشذوذ غير مرحب به، إلى الخمسينات من القرن الماضي، في الخمسينات كان فعل قوم لوط في أمريكا «الحب الذي لا يجرؤ أحد على أن ينطق باسمه. أما اليوم فإنه لا يغلق فمه». (موت الغرب، ص95) لقد بلغ انحراف المجتمعات الغربية إلى تفشي الشذوذ في أوساطها بشكل علني، فجميع الدول الغربية «أمريكا، أوروبا، كندا، أستراليا» تعتمد قانونيًا – إلى جانب الزواج الطبيعي للرجل بالمرأة – زواج رجل برجل، وامرأة بامرأة! وتبارك بعض من كنائس العالم هذا القرف! وفي 2003م قال رئيس أساقفة كانتربري روان ويليامز: «إن العلاقة الجنسية بين شخصين من نفس الجنس يمكن أن تعكس محبة الله تمامًا كما بين شخصين متزوجين». (الشذوذ الجنسي في الفكر الغربي وأثره على العالم العربي. نهى عدنان القاطرجي ص55).

إفلاس القوى السياسية في الغرب

إن زهو السياسيين إنما يكون حين يجسدون الأفكار التي يحملها الناس الذين يحكمونهم. ويقوم السياسيون بأعمال تترجم مصالح الجماعة. وعلى العكس يظهر انحطاط السياسيين في تبنيهم أفكارًا مخالفة لما لدى الناس الذين يحكمونهم، وبالتالي ينفصلون عمن يرعونهم من الناس لاختلاف مصالحهم. وإفلاس السياسيين هو آخر محطة من محطات الانحطاط؛ بحيث لا يكون لدى السياسيين ما يقدمونه للناس، ويعد بقاؤهم في الحكم صورة من العبث. بداية يشكل الجمود لدى السياسيين معضلة حقيقية في الحكم، فالجمود يعني البقاء في تفكير وزمان وحال معين مغاير للواقع المعاش، يعجز معه المفكرون والسياسيون من إنزال ما لديهم من أفكار على الواقع المعاش، وحل مشاكله. فيكون الأوان آن لزوال واضمحلال الدول. «تبقى الأسئلة الكبرى حول المؤسسات السياسية؛ فالجمود السياسي كان مدرجًا في النظام الأمريكي منذ البداية؛ لكنه ازداد في واشنطن في السنوات الأخيرة». (نهاية القرن الأمريكي. ص87-88).

يلاحظ بين الحين والحين انخفاض ثقة الأمريكيين بسياسييهم، ذلك ناتج عن عجز السياسيين في إدارة شؤون من يرعونهم بشكل جيد كما ينبغي، ما يؤدي إلى الامتعاض ويشعر الناس بخيبة الأمل، ويعبرون عنه بعدم الرضا صراحة دون مواربة، خصوصًا في دولة كالولايات المتحدة. «ففي حين قال ثلاثة أرباع الجمهور الأمريكي عام 1964م، إنهم يثقون بأن الحكومة الفيدرالية تقوم بالشيء الصحيح معظم الأوقات؛ يعبر اليوم خُمس الجمهور عن ثقتهم بهذا المستوى العالي». (نهاية القرن الأمريكي، ص83). لقد واصل بوكانن متابعة حال السياسيين الغربيين وإفلاسهم ووصفهم بالحمقى؛ لأنهم نظروا لأمور السياسة نظرة الناس الذين استسلموا لشهواتهم، لقلة تصديهم لقضايا مهمة كالسكان، وتعاملوا معها من منظور عكسي تمامًا، بإجبار غيرهم من سكان الأرض على تقليل نسلهم وتحديده، فيقول: «هل موت الغرب أمر لا مناص منه؟ أو مثل كل التنبؤات السابقة عن انحطاط الغرب وموته فإن هذا الكأس أيضًا سوف يبتعد ويمر ويكشف جميع الذين قالوا لا بد لنا من أن نشرب هذا الكأس بوصفهم حمقى؟» (موت الغرب ص54-55).

يبرز إفلاس القوى والأحزاب السياسية الغربية في إعلان معاداتها للمهاجرين الذين استقبلتهم بلدانهم وحكوماتهم، لتراجع أعداد سكانهم الأصليين، وانشغالهم بالملذات أكثر، وعدم رغبتهم في مزاولة أعمال معينة، وارتفاع متوسط أعمار مواطنيها. فالغرب اعتمد على المهاجرين من شتى أصقاع الأرض؛ لكن عجز سياسييه على استيعاب موجات الهجرة جعلهم يعملون على قَسْر المهاجرين في الاندماج في مجتمعات تلك البلاد التي حطوا رحالهم فيها، وهم لا يعلمون ما يُدَبَّر لهم من تبديل ثقافاتهم وقناعاتهم ومفاهيمهم عن الكون والإنسان والحياة بما يناسب ثقافة البلد المضيف. قال تعالى: (لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ) [سورة البقرة: 256]. وقد خاطب الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالقول: (وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ٩٩) [سورة يونس: 99] فإذا كان النهي عن تحويل قناعات الناس الخاطئة إلى الصحيحة بالإكراه محرم، فكيف يكون تحويل القناعات الصحيحة إلى خاطئة؟!. إنها الكارثة بعينها.

يرى هنتنغتون بأن «الهجرة من أمريكا اللاتينية وآسيا شكَّلت تحدِّيًا للهوية الأمريكية «التحدي الثالث. إن موجة الهجرة الرئيسية الثالثة إلى أمريكا التي بدأت في الستينات أتت لأمريكا بمهاجرين من أمريكا اللاتينية، وآسيا أساسًا، أكثر من أوروبا» (من نحن؟، ص51) ولا يُخفي هنتنغتون القول بأن هؤلاء المهاجرين تختلف ثقافات وقيم بلدانهم التي أتَوا منها عن ثقافة وقيم أمريكا. وبقي هؤلاء المهاجرون على صلة ببلدانهم التي قدموا منها، ولم يخضع هؤلاء المهاجرون لبرامج أمركة مكثفة تجعل المجتمع الأمريكي يستوعبهم، ويتهمون المهاجرين بزعزعة استقلال الدول المضيفة وأمنها المجتمعي، وأنهم يعملون على تآكل المفاهيم التقليدية وطريقة حياة تلك الدول، والانقسامات بين الجماعات.

على مستوى السياسة الخارجية يلاحظ قصور في السياسة الخارجية الأمريكية، جراء التوسُّع الإمبراطوري الذي أدى إلى عدم القدرة على مواجهة تبعاته. ينظر بول كيندي بأن أمريكا تتراجع أسرع من تراجع الاتحاد السوفياتي قبل سقوطه، وأن مشاكلها عويصة وشديدة الشبه بمشاكله، وأن مصيرها يشبه إسبانيا في العام 1600م. ويختم بالقول: «إن على صنَّاع القرار في واشنطن أن يواجهوا ويتحمَّلوا حقيقة أن مجموع المصالح والالتزامات الكونية لأمريكا أصبحت اليوم أكبر بكثير مما بوسع البلد الدفاع عنها جميعًا في وقت واحد». (نشوء وسقوط القوى العظمى ص783) خصوصًا أن لديها أكثر من 2 مليون جندي موزَّعين على أكثر من 700 قاعدة عسكرية في 30 بلدًا، ونصح إيمانويل تود أمريكا بسحبهم قبل أن يعودوا مهزومين، وعَدَّ روبرت كابلان بأن التواري وراء محيطين تحوَّل من مزية دفاعية إلى مزية باهظة الكلفة في الانتقال من شاطئ المحيط الأطلسي الأمريكي إلى الضفة الأخرى منه. وتقديمها المساعدات الاقتصادية والعسكرية إلى قرابة 100 دولة حول العالم. (نشوء وسقوط القوى العظمى، ص594).

صراع الحزبين الجمهوري والديمقراطي بلغ حد كسر العظم

لقد بدأ الصراع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة منذ وقت مبكر. وقد ذكر باتريك بوكانن في كتابه موت الغرب: «حذَّر جورج واشنطن، في خطبة الوداع التي وجَّهها إلى الأمة لدى رحيله عن سُدَّة الرئاسة بكل جدية، من «الآثار الوبيلة للعصبية الحزبية» وقال بوكانن: «فالانقسام أصيل في ما يحمله الحزبان من أفكار: فالجمهوريون يهمهم خفض الضريبة والديمقراطيون يريدون توسيع الرعاية الطبية. يرحب الديمقراطيون بهجرة الملونين من أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وآسيا، ويشجعونهم على المحافظة على ثقافات مسقط رأسهم، والتعليم بلغة غير الإنجليزية؛ فيما الجمهوريون يحصرون الهجرة على العرق الأبيض الأوروبي، ويدعون إلى شعب أمريكي واحد والتخلي عن الهويات القومية الأخرى، ويدعون لحصر التعليم باللغة الإنجليزية. يرحب الجمهوريون بحيازة السلاح، ولا يرحب به الديمقراطيون. يسكت الجمهوريون عن حوادث القتل التي تحدث ضد السود ويؤجج الديمقراطيون الشارع ضدها. يُعَظِّمُ الجمهوريون الرموز الأمريكية مثل كولمبوس وواشنطن وشفنغتون ويحطم الديمقراطيون نُصُبَهم التذكارية ويمتعضون منها ويعملون على استبعادها من مناهج التعليم. يُبقي الجمهوريون على قسم قانون الهجرة والجنسية رقم 337، ويعمل الديمقراطيون على تغييره. [[نص القسم: أقسم جادًّا بأن أؤيد دستور الولايات المتحدة وأن أنبذ وأبتعد بشكل كلي ومطلق عن أي ولاء إخلاص وفاء لأي أمير، أو عاهل أو دولة أو سيادة أجنبية كان المتقدم من رعاياها أو مواطنيها، وأن أؤيد وأدافع عن دستور الولايات المتحدة وقوانينها ضد جميع الأعداء الأجانب والمحليين، وأن أحمل إيمانًا حقيقيًّا وولاء حقيقيًّا لما تقدم، وأن أحمل السلاح في سبيل الولايات المتحدة عندما يتطلب القانون ذلك، أو القيام بأية خدمات غير قتالية للولايات المتحدة عندما يتطلب القانون ذلك، أو القيام بعمل له أهمية وطنية تحت قيادة وطنية عندما يتطلب القانون ذلك]]. (من نحن؟، ص269-270). يتحدث الديمقراطيون عن تقديم تعويضات بمليارات الدولارات لمن خطفوهم أحرارًا من أفريقيا وجلبوهم عبيدًا إلى العالم الجديد، فيما يصمت الجمهوريون في الرد عن ذلك… فمصالح الحزبين متضادة، ووصل حد استخدام مصطلح البلقنة؛ لذلك لا نرى عجبًا من قول بعض السياسيين الأمريكيين الجمهوريين عن الانقسام السياسي داخل أمريكا «وذلك لأن انقساماتنا متجذرة في أعمق معتقداتنا..» (موت الغرب، ص24).

جرى الحديث في وقت مبكر عن صراع الحزبين في الداخل الأمريكي، وكان لهذا الحديث وقع كبير، بدأه الجمهوري بوكانن واتهمه البعض بتأجيج الصراع في الداخل الأمريكي، وبثِّ خطاب الكراهية في أوساطه. «وفي ذلك الصراع من أجل روح أمريكا، فإن كلينتون في الجانب الآخر، وجورج بوش في جانبنا. وبهذا فإن علينا أن نعود للبيت. ونقف إلى جانبه». (موت أمريكا، ص42-25) وحذَّر من خطر حدوث انقسام بين الولايات الأمريكية يؤدي إلى نشوب قتال كالذي حدث في البلقان بيوغسلافيا في 1995م «فعلى الرغم من أن حربنا الثقافية قد قسمتنا، والهجرة الضخمة تعرض أمريكا لخطر البلقنة، فإن هناك أزمة أخطر وأقرب تكاد تقع». (موت أمريكا، ص27) ويقول بوكانين كذلك: «ويكتب هنتنغتون «إذا فشل الاستيعاب والتمثل، فإن الولايات المتحدة ستصير بلدًا منصدعًا فيه كل الإمكانات المحتملة للصراع الداخلي والانقسام الذي يتبع ذلك» (موت أمريكا، ص247)

انتقل الصراع بين الحزبين إلى خارج أمريكا، فقد رأينا كيف سارع بايدن في نهاية العام 2022م لزيارة كيان يهود بقصد استمالة مجموعة الضغط اليهودية داخل الولايات المتحدة «آيباك» لكسب أصوات الناخبين لحزبه في انتخابات الكونجرس النصفية. وكيف ردَّ الجمهوريون لصرف الناخب الأمريكي عن التصويت للحزب الديمقراطي عبر كوشنير بأمر محمد بن سلمان على تخفيض مليوني برميل نفط بقصد زيادة أسعار المحروقات في الداخل الأمريكي، التي عمل الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن على خفضها من خلال سحبه كميات كبيرة من المخزون الاستراتيجي الأمريكي. وكذلك هو حال الصراع في أوروبا بين أحزاب ترحب بقدوم المهاجرين ونقيضتها التي ترى فيهم خطرًا على أوروبا. لقد اتخذت الأحزاب المناهضة للهجرة سياسة مخالفة لتعدد الثقافات الذي تغنَّت به ردحًا من الزمن، بدمج المهاجرين قسرًا في مجتمعها.

أوان أفول حضارة وبزوغ حضارة جديدة

قبل أن يبزغ فجر القرن الحالي، كان طابور طويل من المفكرين والسياسيين الأمريكيين ينذرون بأفول الحضارة الرأسمالية منهم: المرشح الرئاسي الأمريكي باتريك بوكانن وكتابه (موت الغرب)… زبيغنيو بريجينسكي: (رقعة الشطرنج الكبرى: الأولوية الأمريكية وضروراتها الجيوستراتيجية)… البروفيسور الديمغرافي إيمانويل تود: (بعد الإمبراطورية: سقوط الحكم الأمريكي)… بول كيندي: (نشوء وسقوط الدول)… تشالمرز جونسون: (أحزان الإمبراطورية)… روبرت كابلان: (انتقام الجغرافيا… ما الذي تُخبرنا به الخرائط عن الصراعات المقبلة)… البروفيسور صمويل هنتغتون: (من نحن؟)… أوليج بلاتونوف: (لهذا كله ستنقرض أمريكا الحكومة العالمية الخفية)… وغيرها الكثير من المؤلفات التي يخلص كتابها أن حضارة الغرب الرأسمالية هي حضارة ستصبح خاوية على عروشها وبئرًا معطلة وقصرًا مشيدًا. فقد جاء في كتاب (صعود وسقوط القوى العظمى، ص: 813) لكاتبه بول كينيدي: «… إن النظام الدولي عرضة للتغيرات المتواصلة، ليس بتأثير تصرفات ساسة الدول اليومية ومدِّ وجزرِ الأحداث السياسية والعسكرية وحسب، بل وبسبب التغيُّرات الناشئة عن التحوُّلات الأعمق في أسس القوى العالمية التي تشقُّ سبيلها إلى السطح حين يحين أوانها». لا زال سقوط الإمبراطورية الرومانية وفتح القسطنطينية لا يغادر عقول الغربيين، فها هو بوكانن مُحَذِّرًا يذكر سقوط القسطنطينية، مقابل سقوط الغرب الوشيك اليوم، فيقول: «تستطيع الحضارات والأمم والدول أن تموت بطرق عديدة. تستطيع أن تتعرَّض للغزو وتعرض على السيف لتقبل به، وذلك مثلما حدث للقسطنطينية في 1453». (موت الغرب، ص425). ويحذر بوكانن الغرب من سقوطه الوشيك، ويعرض أسبابه لتلافيها فيقول: «ولكن أمريكا والغرب يواجهان أربعة أخطار واضحة وحاضرة: الأول هو سكان يموتون. والثاني هو الهجرة الجماعية لشعوب من ألوان مختلفة، ومعتقدات مختلفة، وثقافات مختلفة، وهي تغير شخصية الغرب إلى الأبد. والثالث هو الظهور، إلى حد الهيمنة، لثقافة معادية للغرب في الغرب، وهي معادية عداء مستحكمًا لأديانه وتقاليده وأخلاقياته، وهي قد بدأت قبل الآن تصدع الغرب. والرابع هو تمزيق الأمم ومروق النخب الثقافية لتنحاز إلى حكومة عالمية وهو الأمر الذي تتلوه، إذا ما برز، نهاية الأمم». (موت الغرب ص427).

من علامات أفول الغرب في الوقت الراهن هو نقص وانكماش سكانه، عن غيره من سكان العالم. وعدم قدرة سياسييه على مواجهة معضلة انكماش سكانه، ومن رفع خصوبة نسائه التي بدأت في الانهيار عقب اختراع حبوب منع الحمل وإقبال نسائه على تناولها، وتماديهن في استخدامها، وسماحهم للنساء بإجراء عمليات الإجهاض التي بلغت عشرات الملايين… كل هذا يحدث مخلوطًا بالانهيار الأخلاقي في المجتمعات الغربية. ولقد تبدَّلت النظرة في المبدأ الرأسمالي للمرأة بأنها محل استمتاع للرجل، يسعى للحصول عليها بشتى الوسائل والأساليب، بعيدًا عن الإشباع العاطفي والاستقرار النفسي وتكوين الأسر وبالتالي تعافي السكان. جاء في كتاب (موت الغرب، ص:31): «مثلما كان تنامي عدد السكان طوال وقت مديد علامة على أن الأمم تتمتع بالصحة، فإن هبوط عدد السكان صار سمة للأمم وللحضارات التي تعيش حالة انحطاط». وهنا يمكن القول إنه يتعسر على مبدأ رأسمالي نفعي السيطرة على العالم على الدوام، دون التزحزح عن مكانه. والنقاش داخل الولايات المتحدة كما أسلفنا قد بدأ، ونتيجته قد عُرِفَتْ، وبقي انتظار حدوثه، والاستسلام لنتائجه دون أدنى مقاومة. وبهذا المعنى جاء في كتاب: (نشوء وسقوط القوى العظمى ص809): «وإذًا، وبصورة أشمل يكون الجواب الوحيد على السؤال الذي طال الخوض فيه حول ما إذا كان بوسع الولايات المتحدة أن تحتفظ بموقعها الحالي هو: كلا». إن أمر موت الحضارة الرأسمالية الغربية قد لمعت بشائره في عقول المفكرين الغربيين منذ أمد بعيد. وما آلت إليه أحوال المجتمعات الغربية في أوروبا وأمريكا، والتي سمّوها بمختلف التسميات، فإنها تجتمع على أفول نجم حضارة الغرب الرأسمالية، واستسلام أهلها للسقوط المدوي». جاء في كتاب (انتحار الغرب) لكاتبه ريتشارد كوك الذي كتب في 1964م، «اكتشف الخبير باستراتيجية الحرب الباردة جيمس بيرنهام حالة عقلية، هي تصالح الشعوب الغربية مع موت إمبراطورياتهم وكسوف حضاراتهم. وسمَّى بيرنهام ذلك أيديولوجية الانتحار الغربي. ويبدو الآن أن المرض قد تحوَّل إلى وباء». الذي أضاف بأن غياب الدين في الحضارة الغربية، وجعله منحصرًا في الفرد دون تنظيمه لشؤون الحياة المختلفة، كان له دور لا يستهان به في سقوط الحضارة الرأسمالية. جاء في (موت الغرب ص427-428): «لا أعرف سبب انحطاط الغرب بسرعة غير عادية، وهو ما يظهر أبعد ما يكون غورًا في تعمق فقدان قادة الغرب ثقتهم بأنفسهم وبالصفة الفريدة لحضارتهم الخاصة، ويظهر بتلازم ضعف الإرادة الغربية للبقاء. السبب أو الأسباب لها صلة، على ما أعتقد بانحلال الدين، وبالإفراط بالترف المادي، وأفترض لها علاقة بالوصول إلى التعب، والإعياء، مثلما يحدث للأشياء الدنيوية». إن شعور الإدارات المتوالية على حكم الولايات المتحدة بالعجز في التعامل العسكري مع المتغيرات الدولية، أقنع الكثيرين من السياسيين الأمريكيين بأن أوان استخدام القوة في النزاعات الدولية أصبح من الأمور التي لا تطاق. فالكلفة السياسية ضخمة، وتتمثل في عدم موافقة الرأي العام الأمريكي على القتال وراء المحيطات مهما كانت الأسباب. وكان البديل عن المواجهة العسكرية الأمريكية على المسرح الدولي هو تكوين تحالفات تقوم بالدور العسكري، فيما الولايات المتحدة تتولى إدارة دفة المواجهات العسكرية. يتجلى هذا الأمر في الحرب الروسية الأوكرانية الجارية والحرب الصينية المتوقعة على تايوان، وكذلك مع غيرها من المستجدات على المسرح الدولي، والنظام العالمي القادم. وقد جاء في كتاب: (نشوء وسقوط القوى العظمى ص811: «.. وأما التهديد الخطير الوحيد للمصالح الحقيقية للولايات المتحدة فيمكن أن ينجم عن الإخفاق بالتكيُّف الناجح مع النظام العالمي القادم».

ذكر الفيلسوف الفرنسي ميشل أونفراي في كتابه: (الانحطاط.. من عهد المسيح إلى بن لادن، حياة وموت الغرب) أن الحضارة الغربية اليوم تواجه لحظة نهايتها، لسببين: سبب ذاتي: هو المنظومة القيمية المختلطة المتجلطة فيها منذ النشأة؛ حيث إن هذه الحضارة تحمل أصلًا في طياتها بذور فنائها. وسبب خارجي: هو الخطر الحضاري الإسلامي عليها، لتعرضها للهجرة الكثيفة من قبل المسلمين على الغرب، وأوروبا خاصة، تعمل على تغيير معالم وملامح الثقافة الغربية، وتمثل بطريقة ما عملية إحلال سكاني، وثقافي، وقيمي، الذي يكشف حالة العداء للجاليات المسلمة في دول الغرب بصفة عامة. ويضيف أونفري في إجابته حديثه عن انهيار الحضارة الرأسمالية الغربية: هي أعراض لا تنذر عن انهيار قادم بقدر ما هي تشهد على انهيار وقع بالفعل. لقد حصل الأمر! أما عن دلائل الانهيار فإليك بعضها دون ترتيب طبعًا وغير جامعة مانعة: تحويل مباني الكنائس إلى أغراض أخرى غير روحية، انعدام أيّ رغبة لدى الشبان في الغرب للالتحاق بمهنة الكهانة، نقض وضعف الإيمان والتملُّص والتحرر إزاء العقائد الدينية من قبل المؤمنين أنفسهم، التعامل مع الدين كما يحلو للمؤمن دليل على تفكك الأساس وتصدّع جدران الكنائس وانهيار أقسام منها.

ولكن تَعرف الحضارةُ الإسلاميةُ استعادة حيويتها بعد فترة راحة كما يحدث أحيانًا لنباتات معينة تعود إلى الحياة بعد فترة من السُّبات. ومن هنا لا يمكن أن نتكهَّن بمستقبل هذه الحضارة إذ مع مرور الوقت، وارتباطًا مع التكنولوجيا والحداثة والرأسمالية، يمكن جدًا أن تولد نسخة جديدة غير مسبوقة.

ومع استعراضه لكثير من نقاط الضعف ومكامن الخلل في الولايات المتحدة الأمريكية، نافح جوزيف ناي كثيرًا عن دولته وحضارته ومبدئه من السقوط والانهيار، لكنه أقر بأن القرن الأمريكي قد ولَّى دون رجعة، فقال: «كتقييم عام؛ وصف القرن الحادي والعشرين بأنه قرن الانحدار الأمريكي..» (نهاية القرن الأمريكي ص107). وخير ما نختم به من مقتطفات عن سياسيي ومفكري أمريكا عن أفول الحضارة الرأسمالية هو ما جاء في (موت الغرب ص374): «هذه إحصاءات مجتمع منحط وحضارة تموت..»

يلتفت الغربيون بعقولهم وبأنظارهم تجاه من سيظهر على المشهد السياسي العالمي. فلا يرونه في وجهة واحدة، ولكن هينتنغتون حددها حين أشار نحو الإسلام تحديدًا، ووصفه بأنه الخطر الحضاري الداهم على الحضارة الغربية. فيما عمم غيره بأن الشرق هو من سيؤول إليه أمر العالم بعد تنحي الرأسمالية وسقوطها. جاء في (موت الغرب، ص77): «وقد يعوض القدر شعوب الصين، والشعوب الإسلامية، والشعوب اللاتينية عن مصاعبهم وفقرهم في هذا القرن بأن يمنحهم الهيمنة على الأرض في القرن التالي». ويتبعه جوزيف ناي: «ثمة تحوّلان كبيران للقوة يحدثان في هذا القرن: انتقال القوة بين الدول من الغرب إلى الشرق..» (نهاية القرن الأمريكي، ص90).

ولأن الدين فُصل عن الحياة في المبدأ الرأسمالي والحضارة الرأسمالية، فقد كان لزامًا أن تفرغ كنائسه من المترددين عليها، ممن أصابهم الخواء الروحي، لصالح عودة الإسلام وظهور دولته، جاء في (موت الغرب ص228-229): «في أوروبا، تموت الصلوات الجماعية المسيحية، والكنائس تفرغ، والمساجد تمتلئ»

إن العالم بأسره يقف على رجل وينتظر لحظة بزوغ دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، ورفرفة راية العدل والحق والخير راية العقاب بعد غياب جاوز المئة عام؛ ليقف على الرجل الثانية وقفة ثابتة على صراط الله المستقيم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *