العدد 438-439-440 -

السنة السابعة والثلاثون، رجب – شعبان – رمضان 1444هـ الموافق شباط – آذار – نيسان 2023م

البراغماتية أم الأردوغانية؟  (دعوة إلى تقديس الواقعية، وتمييع المفاهيم، وتسويغ الوسائل الالتوائية للوصول إلى الغايات العملية)  

أبو حامد السعدي – دار السلام (بغداد)

لطالما عُرِّفت البراغماتية بأنها التعامل مع المشكلات بطريقةٍ عمليّةٍ بدلًا من الاعتماد على مجرد مبادئ نظرية، كما هي عبارةٌ عن سلوكٍ أو سياسةٍ تنظر إلى العواقب العملية المباشرة بدلًا من مجرد اتِّباع نظرياتٍ، كما عُرِّفت بأنها اتجاهٌ أو تيارٌ فلسفيٌّ يحدد معنى وحقيقة جميع المفاهيم من خلال عواقبها العملية، فهي لا تؤمن بوجود قوانين أخلاقية مطلقة، وما يصدر من أحكام يعتمد على نتيجة تطبيق هذا الشيء من ناحية، والنفع أو الفائدة من ناحية أخرى، وبمعنى آخر هي التي تجعل من الواقع الأساس بالتفكير لايجاد الحلول للمشاكل القائمة. ومن جهة أخرى، هي التاثر بالواقع لإصدار الأحكام. إن «المنهج البراغماتي» لا يهتم بمصدر الأفكار، ولا بكيفية ظهورها، وإنما يهتم بنتائجها العملية المؤثرة على السلوك والحياة، فمن الممكن تبنِّي أيِّ فكر يحقق الغاية بغض النظر عن أساس ومصدر هذا الفكر؛ لذلك تعتبر البراغماتية أو أنها بالأصل تسمَّى بالذرائعية من التيارات الهدَّامة التي انتشرت في بلاد المسلمين، حالها كغيرها من التيارات الهدَّامة التي تسعى إلى الفتك في جسد الأمة وتشتيت فكرها وتمزيق هويتها، والحيلولة دون الوصول إلى غايتها وأهدافها، فالتيار البراغماتي يدعو إلى الذرائعية وتمييع المفاهيم وتقديس الواقعية وتسويغ الوسائل الالتوائية للوصول إلى الغايات العملية.

إن البراغماتية لها أتباع ومريدون، بل دعاة ومروِّجون، ولو لم يسمعوا بها من قبل، فهذا هو حال الأمة في دول الضِّرار؛ أذ لا قاعدة فكرية أساسية تقيس بها بقية الأفكار وتميِّز بها الغث من السمين. فكل من يدعو إلى الذرائعية واتخاذ أي وسيلة التوائية للوصول إلى النفعية هو يدعو إلى البراغماتية، سواء رضي أم لا.

 غير أن هناك ظاهرة أخرى قد فاقت البرغاماتية النفعية وطافت فوقها، ولها أتباع ومريدون في بلادنا أكثر حتى من بلد نشأتها في تركيا، إنها الأردوغانية!. نعم، لقد فاقت الأردوغانية ذرائعية البراغماتية، ولها أنصارها في بلاد المسلمين. إن الشعوب الإسلامية وخاصة العربية والمتواجدة بالخصوص في ما يسمى بجزيرة العرب، كما خطط لها الإنكليز، تفقد التوازن والتفكير المنتِج عند حضور العاطفة، فهي شعوب ذات طبيعة عاطفية بحتة عند ذكر الأجداد ومآثر السلطان، ويكون الميل المجانب حتى للموضوعية في كل الأمور التي تحتاج إلى عمق النظر واستنارة التفكير، لذلك تبنَّوا ما يسمى بالأردوغانية…

وهناك من النخب ذات التوجهات الدينية داخل هذه البلدان من قدَّس حضرة السلطان الأردوغاني، ودعا له من على المنابر وفي جلسات الدعوة والديوانيات الرمضانية، ظانِّين به الظنَّ الحسَن، وكان هذا كله عن قلة وعي وقلة حيلة لشعوب كان أبعد ما تنظر إليه أصابع قدميها. إن هذا التعاطف غالبًا من السنة المتواجدين في منطقة النزاع وسببه أيضًا ازدياد الضغط المتولد من قبل حكومات توابع لايران وتوليد شعور طائفي تلقائي عابر للحدود كما هو الوضع في العراق ولبنان، ومنهم أيضًا بعض فصائل المعارضة لنظام الأسد الكافر من الذين حصلوا على الدعم التركي للتغلغل إلى داخل فصائل المعارضة وكشف أوراق الصراع القائم وتوجهات الفصائل، وهو في أحد وجوهه أيضًا احتجاج على صمت العالم حيال المأساة السورية، وهو عبارة عن تضامن تزداد مبرارته بين السوريين الذين ألجأهم الأسد وبالقوة إلى تركيا، وقد يكون من ضمن ما خططت له أمريكا ووزعت الأدوار لهم بذلك، أن رفع أردوغان إلى مصافِّ القائد التاريخي المنتظر، إنما يجافي طبيعته الأردوغانية نفسها كظاهرة لا تستدرج من الثقة إلا القليل.

إن الأردوغانية ذات نمط شعبوي لمن غُرِّر بهم من بسطاء التفكير من الشعوب العربية والتركية البسيطة المتطلِّعة إلى الإسلام. إن الزعامات الشعبوية هي أقل الزعامات ثباتًا على المبادئ. فالشعبوية يمكن تعريفها كأيديولوجية أو فلسفة سياسية أو نوع من الخطاب السياسي الذي يستخدم الديماغوجية ودغدغة عواطف الجماهير بالحجاج الجماهيري لتحييد القوى العكسية؛ حيث يعتمد الأردوغانيون على الشعبوية لكسب تأييد الناس والمجتمعات العربية لما ينفذونه أو يعلنونه من السياسات، وللحفاظ على نسبة جماهيرية معينة تعطيهم مصداقية وشرعية. فإذا أضيف الموقع الذي لا تُحسد عليه تركيّا الأردوغانية في توازنات القوى المحيطة، جاز أن نتوقّع ارتفاع هواية التقلّب إلى احتراف في السياسة الأردوغانية كما سنرى ذلك فيما بعد.

نمت الظاهرة الأردوغانية بطريقة لا تقيم للأساليب والأدوات أي وزن وصولًا للأهداف، بل ويمكن اعتبارها شكلًا من أشكال البراغماتية السياسية التي تتعامل مع مراكز القوى الأمريكية لتحقيق الأهداف، فهي تستقلُّ القطار كما سيأتي لاحقًا، أي قطار، دون النظر إلى سائق وهوية القطار، ومن ثم القفز والهروب قبل الوصول لنهاية الطريق عند اكتشاف أنه السبيل الوحيد للهروب من ما تريد.

هناك أوجه تُشعر المشاهد من الشعوب العربية والإسلامية أن الأردوغانية لها نقاط قوة غير متوفرة عند غيرها من الرويبضات في البلاد الإسلامية الأخرى، منها:

قوة عسكرية كبيرة ومتطورة وتعمل بعمق مؤثر في حلف الناتو، كانت ولا زالت رهن الطوع المتحكم الأمريكي، فمعروف حجم المساعدات والاستثمارات الأمريكية في الجيش التركي.

الاستفادة من اقتصادات دول التشابك الأمريكي: أمريكا – أوروبا – المسخ (الإسرائيلي).

مواقف سياسية مبيضة للوجه الأردوغاني كالظهور بدور المدافع عن حقوق دول المنطقة في وجه الهيمنة الاستعمارية، كما حدث في سفينة مرمرة التي انكشف أنها حالة استخدام انتهت مقابل مبلغ مالي، ووعود بدور خاص في قطاع غزة للتاثير على حماس.

البعد الثقافي وخاصة الفني؛ حيث باتت المسلسلات التركية حاضرة بقوة عبر محطات التلفزة العربية، ويمكن وصفها بأنها استبدلت الدراما السورية منذ بداية الأزمة، وتفوَّقت نسبة المشاهدة عليها على من سواها من الدراما المصرية والخليجية وغيرها من الدرامات العربية الهزيلة؛ حيث ركزت على إثارة المشاعر الإسلامية المتعطشة للمجد الإسلامي الغائب عن طريق إحياء سيرة الدولة العثمانية الإسلامية وذكر أمجاد أبرز خلفائها ومحاولة إيجاد رابط خفي بين الدور الذي لعبتة الدولة الإسلامية العثمانية والدور الأردوغاني الحالي، وخاصة عند العمل على التدخل في بلاد المنطقة كسوريا وليبيا والعراق، والعمل على إبراز الجانب الرعوي للدولة الأردوغانية عن طريق لعب دور الحامي للمصالح الإسلامية كما فعلت الدولة الإسلامية العثمانية أيام هيمنتها على المشهد الدولي عندما كانت الدولة الأولى في العالم.

هذا هو الهدف المركزي للأردوغانية، فأمريكا بحاجة إلى مقاول ثانوي للنيابة عنهم في الصراعات الإقليمية، وأنقرة مستعدة لتأخذ على عاتقها هذا الأمر؛ ومن أجل ذلك تصبح كل الوسائل والأدوات مشروعة ومباحة، بعيدًا عن    «المبادئ» والأيدلوجيات والالتزام بأحكام الدين من الحلال والحرام. ففي الشارع التركي مثل شعبي يلخص حالة التناقض التي يعيشها الشعب التركي المسلم في ظل السياسة الأردوغانية الحالية غير الواضحة ما بين الادِّعاء بالإسلاموية والعلمانية حيث يقول هذا المثل «اِشرب الخمر متوضئًا» في دلالة على ازدواج المعايير والتناقض في أسلوب عيش الشعب التركي المسلم، فالأولى قائمة على العلمانية القديمة الأتاتوركية التي ترفض وبشكل صريح كل أشكال التدين والمظاهر الدينية. أما الثانية فهي الإسلام المشبع بالمظاهر الإسلامية الفردية فقط، ويرى الغرب بأنه غارق في فساده لبعده عن الدين. ويمكن ملاحظة بداية شرعنة التأسيس للأردوغانية أنها استخدمت عناصر مساندة لها كان لها الدور في تعزيز مكانتها، وكانت قمة تجسيدها هي الإعلان، وبدون خجل أو استحياء من الاعلان، صراحةً وفي وضح النهار وأمام كل عباد الله من الاستفادة القصوى من علاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية والتنظيمات الموازية لها في الكيان المسخ الصهيوني.

لقد برزت العلاقات (الإسرائيلية) التركية كعنصر أساسي وفعَّال لتعزيز هذه الصبغة الأردوغانية عن طريق حفاوة الاستقبال وأخذ الرئيس (الإسرائيلي) بالأحضان الأردوغانية في عقر الدار التركية عن طريق التنسيق الأمني والعلاقات الاقتصادية مع الكيان (الإسرائيلي) للعب الدور الإقليمي وبدعم سياسي أمريكي، ومن بينها رعاية المفاوضات (الإسرائيلية) السورية عام 2008م دلالة واضحة على منحها دور إقليمي في المنطقة، وإشارات على أنها سائرة في الركاب الأمريكي لنيل المصالح الآنية والمستقبلية، ولتحقيق الرغبة والرؤية الأمريكية لعالم عربي وإسلامي وفقًا لمنظور أمريكا التقسيمي. ولم تقف تركيا الأردوغانية في تعارض مع هذا المخطط بل كانت جزءًا  حيويًّا  منه تمثَّلت في الدور الإقليمي الذي لعبته في العراق وسوريا وليبيا وغيرها من التدخلات الإقليمية الأخرى، وكالوقوف على الدور المعارض لانضمام السويد إلى الاتحاد الأوروبي وغيرها من الأدوار الأخرى في حلف الناتو؛ حيث عملت كدور الوكيل عن أمريكا في الحلف، وخاصة في حرب أوكرانيا مع روسيا.

فالأردوغانية لم تنتصر ولا لقضية واحدة من قضايا المسلمين، ولم تطلق ولا طلقة واحدة على اليهود، والسلام على أرواح الأتراك التسعة الذين رحلوا على يد أحفاد القردة والخنازير في سفينة الحرية سنة 2010م، لقد ولغت الأردوغانية في دماء المسلمين في أفغانستان إلى جانب أصدقائهم من حلف الناتو، وقد تولَّت تركيا القيادة للناتو مرتين، مرة في عهد الأردوغانية كما أعلنت وصراحة أمام الناس من أنها جزء من التحالف الصليبي بقيادة أمريكا لقتل المسلمين في العراق والشام بحجة مكافحة الإرهاب (وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا ٩٣)، وفيما يلي عرض للبراغماتية الأردوغانية في بلاد المسلمين:

الأردوغانية في مصر والإخوان:

ولكشف أوراق الأردوغانية في مصر واستغلالها لورقة الإخوان، من المهم الوقوف أمام ممارساتها وسلوكها في التجربة المصرية؛ حيث كشفت أحداث مصر عمق الانتهازية الفكرية السياسية للأردوغانية ما بعد كانون الثاني لعام 2011م، ونجاح الإخوان من خطف الحَراك لتتمكن من التحكُّم وبشكل مباشر بمساره ومن ورائها أمريكا؛ ولكن ذلك التطوُّر أسقط ورقة كان الاعتقاد بأنها حاسمة في المنهج الأردوغاني وعلاقته من خلال حزبه الأم «الرفاه» أو الجديد «العدالة والتنمية» بالإخوان المسلمين.

فمع وضوح قرب حكم الإخوان لمصر، كشف أردوغان عن جوهر حقيقته السياسية والفكرية من خلال مقابلة تلفزيونية مع محطة مصرية في أيلول 2011م، وقبل زيارته لمعقل الإخوان في مصر، أكَّد أن العلمانية هي الحل للدول، وأن الإسلام  ليس هو الحل، بهذا التصريح كشف عن حقيقة دعوتة وأفكاره التي صدمت الشارع المصري المسلم، وضرب مثالًا بنفسه قائلًا إنه «إنسان مسلم؛ ولكنه يقود دولة علمانية، وهو النموذج الذي يجب أن يكون في مصر».

وعند وصوله، استُقبل برايات الخليفة الفاتح؛ ولكن بعد إعادة تصريحاته ودعوته أن العلمانية هي الحل أثار هيجان الشارع الإخواني، وطالب عدد من القيادات الإخوانية أن لا يتحدث عن مصر فهي تختلف عن تركيا، وقد وصل بعضهم أن يطلبوا منه أن يرحل ويكف يده عن ثورتهم… المشكلة أن الشعوب العربية تتناسى هذه الأحداث التي لا تزال الأمة تتكوَّى بفرصة سانحة كانت تاريخية تسمح بقلب زمام الأمور في مصر، وقلب نظام الحكم وإعلان الدولة الإسلامية على أرض تعدُّ من أكبر البلدان الإسلامية لمقومات قيام دولة قوية ذات كثافة سكانية عالية.

عمليًا، لم يكن أردوغان يريد الدفاع عن الثورة في مصر، بل كان يمثل الإرادة الأمريكية في منع صعود الإسلام للحكم في أكبر البلدان الإسلامية، ولمنع انفلات زمام الأمور من يد أمريكا نيابة، كان الخوف من انفلات الأمور في مصر وانقلاب الأمور من قبل التيارات الإسلامية المتواجدة في مصر تحت شعار الإخوان «الإسلام  هو الحل»، ولذا بعد أن اطمأنَّ من إزاحة الإخوان عن المشهد السياسي وسقوط حكم المرشد سارع بتبني الجماعة، وكان له الدور لتبني شعار رابعة كشعار خاص لسقوط حكم الإخوان، وجعل بلده تركيا وكأنها المقر الرئيسي والرسمي للجماعة الإخوانية قيادة وإعلامًا  ودورًا  سياسيًّا، كما استعمل هذا الدور الخبيث في الثورة السورية فيما بعد، لقد أوجز زعيم «حزب الشعب الجمهوري» المعارِض في تركيا كمال كيليتشدار أوغلو وضع أردوغان في بضع كلمات في معرض زيارة ولي عهد الإمارات محمد بن زايد عندما قدَّم المساعدات المالية لتركيا عندما سئل: «عمّا حصل لإشارة رابعة والإخوان؟»، ليُجيب بأن «كلّ ما يقوله القصر هو كذب ودجل. في اللحظة التي تَظهر فيها في الأفق الأموال، يبيع أردوغان القضية. إن المسلمين الحقيقيين لا وجود لهم في القصر الرئاسي».

الثورة السورية والأردوغانية

تمثَّلت الثورة السورية كساحة لكشف حقيقة الانتهازية السياسية الفكرية المصلحية للأردوغانية، فمن دور الصديق الوفي للمجرم بشَّار، إلى الراعي الرسمي للمفاوضات مع الكيان المسخ (الإسرائيلي)، ومن ثَم إلى عرَّاب الثورة السورية المباركة وحاضن وراعٍ للجماعات المعارضة سياسيًّا وعسكريًّا للدولة والنظام، ومن دون تدقيق في جوهر وفكر وطبيعة تلك الجهات مادام يراها وسيلة لتحقيق المصالح الأمريكية في تحديد الحضور الروسي والإيراني بسوريا؛ لمنع انفراط الأمور وحفظ النظام السوري من السقوط بعد أن وصلت المعارضة على بعد أمتار من الإطاحة بطاغية الشام في حال عدم توفُّر البديل لنظام بشار، واستخدام الورقة الخاصة للاجئين السوريين في تركيا للضغط على أوروبا.

الأردوغانية في تركيا

من خلال الأردوغانية، تمكَّنت تركيا من الإمساك بزمام الأمور بشكل كبير بعد سيناريو الانقلاب الفاشل. ففي الثاني من سبتمبر لعام 2011م، عندما استطاع تمرير قانون محاكمة العسكر حتى أولئك الذين ما زالوا في الخدمة العسكرية وتحجيم المؤسسة العسكرية وزج العشرات بالسجون وبتهم مفبركة؛ وبذلك سيطر على هذه المؤسسة وضمن ولاءها المطلق. ومن تصفية كل الفرقاء السياسيين والعسكريين الخارجين عن الطوع الأمريكي أو من يشكِّلون حجر عثرة أو من يحسبون من رجالات العمة العجوز الأوروبية والإنكليزية المتهالكة لإحداث انقلاب بنيوي في طبيعة الحكم، بل وحتى العمل على تغيير الدستور وامتلاك صلاحيات أكبر إذا اقتضى الأمر إلى تغيير مواد الدستور، وترسيخ النظام الرئاسي كبديل للنظام البرلماني القائم باعتباره مفتاح النظام الأردوغاني الجديد البديل للأتاتوركية نحو بناء زعامة ذات رائحة إسلامية بمنظور أمريكي يخلط بين الدين والعلمانية؛ وليحتذى بها في المنطقة، كما يذكر وجود القاعدة الأمريكية إنجرليك التي كانت المنطلق للعديد من الحملات الأمريكية التي كانت تركيا الشريك الأكبر فيها للحرب على العراق وسوريا، فضلًا عن استخدامها كمركز تخزين إقليمي من قبل القوات الأمريكية؛ إذ يذكر وجود أكثر من خمسين رأس نووي أمريكي من النوع التكتيكي.

أن الذين يرون في الأردوغانية أنها ذات طبيعة إسلامية قد وقعوا في فخ المظاهر والاستعجال في جعل الواقع والظاهر مصدرًا للحكم على واقع الأردوغانية، فإلباسها لباس الإسلام عنوة خطأ فادح، فهي لها منهج علماني واضح، وإن دل على أن الحاكمين عليها من هذه الناحية إنما هم غير واعين على نظام الحكم الإسلامي، وليس لهم تصور لشكل الحكم في الإسلام؛ ليقعوا بمثل هذا الفخ الفكري، وهو إن دلَّ أيضًا فإنه يدل على أن الوعي الإسلامي في الأمة مغيَّب بشكل يصعب عليه تصور إعادته بسهولة في مثل هذه الظروف، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَتُنْقَضَنَّ عُرَى الإسلام عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ» رواه أحمد وغيره وصححه الحاكم.

إن الغرب قد كسب هذه الجولة بالعمل على تجهيل الأمة وجعلها في معزل عن تصور إسلامي واضح لنظام الحكم، وفهم أن هذه الأنظمة إنما هي أنظمة ضرار لا يرتجى منها الخلاص. إن الجانب الديني الذي تعمل على أظهاره الأردوغانية هو الجانب الطقوسي الكهنوتي فقط، وهو في ذاته الاقتصار على العلاقة بين العبد وربه فقط، وهو الفهم الغربي لواقع الدين، فالغرب يقتصر على حصر الجانب الديني في الناحية الفردية فقط، وهي آتية من تقديس الفرد في النظام الرأسمالي، فإنه لا يوجد ولا دليل واحد يثبت بأن الأردوغانية متوجهة لتطبيق الإسلام في الشأن السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، فقائد الأردوغانية صرح بأكثر من وقت بأنه مسلم يقود دولة علمانية، وكانت الفاجعة، كما ذكرنا من قبل، عند زيارة مصر أيام الإخوان ونصيحته لهم بتبني الاتجاه العلماني لبناء الدولة، فلماذا السذج من الناس يريدون إلباس الإسلام لأردوغان لباسًا لا يريد لبسه، فهو يدعو إلى العلمانية كما يراها حلًّا ناجعًا.

أيها المفتونون بالأردوغانية، إنه على الرغم من كل التغييرات القشرية التي أحدثها أردوغان وحزبه من التغييرات الاقتصادية التي جاؤوا بها؛ إلا أن تركيا لاتزال على علمانياتها العتيدة بكل ما تحمل الكلمة من معنى فصل الحياة بشكل كامل عن الإسلام، وهي ظاهرة للعيان ولا تحتاج إلى علم الأولين والآخرين لتمييزها، فالقانون لايزال علمانيًّا،  ومصدر السلطات لايزال للشعب، ومن يحكم هم المدنيون، ورجال الدين كما هم في النظام الرأسمالي موجودون في دور العبادة والدين المقتصر على الفرد فقط، ولايزال ظهورهم في المناسبات الاجتماعية فقط، ولاتزال يد الدولة على ما يسمى «رئاسة الشؤون الدينية» وتملي عليها أفعالها بحسب المصلحة، والقضاء لايزال يحكم باسم الشعب لا بالشريعة، كما هو الحال في أمريكا وأوروبا، عتاة الرأسمالية الغربية، والزواج لايزال زواجًا مدنيًا وليس شرعيًا، فحتى يصير الزواج شرعيًّا يكون خارج المحاكم بوجود شيخ وشهود ومن ثم يؤخذ ويصادق عليه في المحاكم المدنية حتى يكون زواجًا قانونيًّا في تركيا، والميراث لايزال مناصفةً بين الرجل والمرأة، وللمرأة الحق في الطلاق والحضانة والتبني، وللجميع الحق في اعتناق أي فكر وأي دين آخر بمعنى يشرع لك «الكفر» حيثما تشاء وكيفما تشاء. فحزب الأردوغانية، حزب العدالة والتنمية، لم يكن يومًا حزبًا إسلاميًّا، ولا يمكن أن يتصور أن يكون كذلك، بل هو حزب علماني مبني على فكرة أن أساس الدولة التركية هي العلمانية الأتاتوركية، وهذا مدون ومتبنى في أدبيات الحزب، فهو يهتم بشؤون السلطة والحكم والانتخابات وكيفية الوصول والبقاء في السلطة، ولا علاقة له بمسائل الدين بل تركها لما يسمى برجال الدين ودراويش الصوفية. إنه قد زاد من صلاحيات رجال الدين ودراويشها وخط لهم الخطوط الحمر الواجب تجنبها، ويقوم بلجم وإسكات من لم يلتزم بما يريد وبما خطط له ولعب دور الغير. إن فهم الأردوغانية يجب أن تكون قراءة واعية مجردة عن المشاعر، والحكم عليها يجب أن يكون مبنيًّا على قاعدة ثابتة، بمعنى أنه يجب أن نفهم الواقع كما هو لا كما يُتخيل أو أن يوصف كما يحب أن يوصف، فالقاعدة التي يحكم عليها هي العقيدة الإسلامية لا أن يحكم من قواعد تتلاعب بها الرياح والأمواج من كل مكان، وإلا فقدنا وعينا وتم سوقنا كالقطيع، أو كما يراد أن يساق غيرنا من بسطاء العقول إلى المهالك ونحن مستبشرون، نرى الأمر نحسبه عارضًا  ممطرنا فاذا هي ريح فيها عذاب أليم. إن التمسك في الدين يكون بعدم الرضا عن أي نظام سوى نظام الإسلام، وعدم اتخاذ أي مقياس غير مقياس الإسلام  من الحلال والحرام في الحكم على الأفعال والأشخاص، وعدم تأييد أي حاكم لا يحكم بأحكام الإسلام ، فإن اتخذنا ميزان الحكم غير ميزان الإسلام ضللنا وسخط الله علينا، وأما إن اتخذنا الإسلام ميزانًا هدانا الله السبيل، ورضي عنا وأرضانا، ويسَّر لنا إقامة دولة الإسلام التي تحفظ الإسلام وتطبقه وتنشره وتستعيد ثروات الأمة المنهوبة وكرامتهم المسلوبة.

أيها المسلمون، يجب التنوية إلى حقيقة دامغة يستحيل طمسها أو حجبها، وهي أنه يجب أن نطبِّق الإسلام كاملًا،  وأن يكون نمط عيشنا قائمًا على أساس الإسلام، فهو وحده الذي يصلح حالنا ويضمن رفاه عيشنا ويضمن لنا الكرامة والعزة، ونحن لا نطبقه لذلك فقط، بل نطبقه لأننا ملزمون بتطبيقه، ونتعبد لله بذلك، ولا تبرأ ذمتنا إلا بأن يكون الإسلام  أساس حياتنا، في ظل الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا ٦٥) [النساء: 65]، وقال جلَّ جلالُه: (وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ ٤٩) [المائدة: 49]، وقال تعالى: (أَوَلَا يَرَوۡنَ أَنَّهُمۡ يُفۡتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوۡ مَرَّتَيۡنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمۡ يَذَّكَّرُونَ ١٢٦).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *