العدد 437 -

السنة السابعة والثلاثون، جمادى الآخرة 1444هـ الموافق كانون الثاني 2023م

حفظه وعصمتُه من أعدائه صلى الله عليه وسلم

من الأحداث الهامة التي وقعت بعد غزوة بدر غزوةُ ذي أمر (موضع من ديار غطفان)، وسميت أيضًا غزوة غطفان أو غزوة أنمار، وهي أكبر غزوة قادها النبي صلى الله عليه وسلم قبل معركة أحد، وكانت في السنة الثالثة من الهجرة، وسببها أن الأخبار وصلت إلى المدينة المنورة أن جمعًا كبيرًا من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا يريدون الإغارة على أطراف المدينة، فسار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في أربعمائة وخمسين مقاتلًا ما بين راكب وراجل، ليشعرهم ويُشْعِر الأعراب بقوة المسلمين، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه. وفي أثناء السير في الطريق أمسكوا برَجُلٍ يقال له: جُبَار، من بني ثعلبة، فأُدْخِل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الإسلام فأسلم، فضمه إلى بلال رضي الله عنه ليعلمه الإسلام، وصار دليلًا لجيش المسلمين إلى أرض العدو، وقد علم المشركون من بني ثعلبة ومحارب بمسير المسلمين إليهم، فتفرَّقوا وفرّوا إلى رؤوس الجبال، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد وصل بجيشه إلى مكان تجمعهم، وهو الماء المسمَّى بذي أمر، وبقي في نجد مدة تقارب الشهر دون أن يلقى كيدًا من أحد، وعاد بعدها إلى المدينة المنورة.
في هذه الغزوة أسلم دعثور بن الحارث الذي كان سيدًا مطاعًا في قومه بعد أن حدثت معه معجزة على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى ابن كثير والبيهقي، وغيرهما أنه «لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعًا من غطفان من بنى ثعلبة بن محارب تجمَّعوا بذي أمر يريدون حربه، خرج إليهم من المدينة يوم الخميس لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول سنة ثلاث، واستعمل على المدينة عثمان بن عفان، فغاب أحد عشر يومًا، وكان معه أربعمائة وخمسون رجلًا، وهربت منه الأعراب في رؤوس الجبال، حتى بلغ ماء يقال له: ذو أمر، فعسكر به، وأصابهم مطر كثير، فابتلت ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل تحت شجرة هناك، ونشر ثيابه لتجف، وذلك بمرأى من  المشركين، واشتغل المشركون في شؤونهم، فبعث المشركون رجلًا شجاعًا منهم، يقال له غورث بن الحارث أو دُعْثور بن الحارث، فقالوا: قد أمكنك الله من قتل محمد، فذهب ذلك الرجل ومعه سيف صقيل، حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف مشهورًا، فقال: يا محمد، من يمنعك مني اليوم؟! قال: الله، ودفع جبريل في صدره، فوقع السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والله لا أكثر عليك جمعًا أبدًا، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه، فلما رجع إلى أصحابه، فقالوا: ويلك! مالك؟ فقال: نظرت إلى رجل طويل، فدفع في صدري، فوقعت لظهري، فعرفت أنه ملَك، وشهدت أن محمدًا رسول الله، والله لا أكثر عليه جمعًا، وجعل يدعو قومه إلى الإسلام، قال: ونزل في ذلك قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ هَمَّ قَوۡمٌ أَن يَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ فَكَفَّ أَيۡدِيَهُمۡ عَنكُمۡۖ﴾ [المائدة: 11].

وفي موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع دعثور بن الحارث في غزوة ذي أمر تَجَلَّى حب النبي صلى الله عليه وسلم للعفو والصفح عمن أساء إليه، قال ابن حجر: «فمنّ عليه (عفا عنه)، لشدة رغبته صلى الله عليه وسلم في استئلاف الكفار ليدخلوا في الإسلام». وقد ترك هذا الموقف النبوي الكريم أثرًا كبيرًا في أعراب هذه المنطقة من غطفان، وبين لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس رجلًا شجاعًا وكريمًا وعفوًا فحسب، وإنما هو أيضًا نبي مرسل؛ لأنه ليس من عادة الملوك والقادة أن يتركوا من وقف على رؤوسهم بالسيف مهدِّدًا بقتلهم دون أن يقتلوه، وليس من عادتهم الرحمة والتسامح إلى هذا الحد، مما كان لذلك أبلغ الأثر في تفكير هؤلاء الأعراب جديًّا في الدخول في الإسلام. وقد ظهر في غزوة ذي أمر وغيرها من غزوات وأحداث من السيرة النبوية خصوصية من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي عصمة وحفظ بدنه الشريف من القتل، فالسيرة النبوية مليئة بالأمثلة الدالة على ذلك، منها: عصمته وحفظه صلى الله عليه وسلم من محاولة أبي جهل وأبي لهب قتله، وحفظه يوم هجرته ممن حاصروا بيته بقصد قتله، وحفظه من محاولة سراقة بن مالك قتله أثناء الهجرة، وكذلك فشل محاولة قتله صلوات الله وسلامه عليه من دُعْثور بن الحارث في غزوة ذي أمر وغورث بن الحارث في غزوة ذات الرقاع.

لقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعدائه كثير الأذى، وعظيم الشدة والمكائد، منذ جهر بدعوته، ولكن الله تبارك وتعالى حفظه ونصره، وعصمه من الناس، ومن عصمة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم حفظه له من أعدائه عامة، ومن أهل مكة وصناديدها خاصة، فقد أنجاه الله من المؤامرات التي واجهته منذ بعثته صلى الله عليه وسلم وقد أخبره الله وأنبأه بحفظه وسلامته من كيدهم وعدوانهم، فقال له: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٦٧﴾ [المائدة: 67] قال ابن كثير: « أي بلغ أنت رسالتي، وأنا حافظُك وناصرُك ومؤيدُك على أعدائك ومُظفِرُك بهم، فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل إليك أحدٌ منهم بسوء يؤذيك”، تقول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْرس حتى نزلت هذه الآية، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسَه من القبة، فقال لهم: «يا أيها الناس، انصرفوا عني، فقد عصمني الله» رواه الترمذي والحاكم. وفي الآية ﴿ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ ﴾ دليلان من دلائل النبوة، أولهما: إخبار الله له بحفظه صلى الله عليه وسلم وقد كان. والدليل الآخرُ يظهر لمن عرف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مقصودًا بالقتل من أعدائه، فكان الصحابة يحرسونه خوفًا عليه، فلما نزلت الآية صرفهم عن حراسته، ليقينه بما أنزل الله إليه، ولو كان دعيًّا لما غرَّر بنفسه، ولما عرَّض نفسَه للسوء، والمرء لا يكذب على نفسه، ومن ثم لو كان القرآن ليس بوحي، لأبقى رسول الله صلى الله عليه وسلمعلى حراسة نفسه.

قال الماوردي في (أعلام النبوة): «فمن معجزاته صلى الله عليه وسلم عصمتُه من أعدائه، وهم الجمُّ الغفير، والعددُ الكثير، وهم على أتم حَنَقٍ عليه، وأشدُّ طلبًا لنفيه، وهو بينهم مسترسلٌ قاهر، ولهم مخالطٌ ومكاثر، ترمُقُه أبصارُهم شزرًا، وترتد عنه أيديهم ذعرًا، وقد هاجر عنه أصحابه حذرًا، حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليمًا، لم يكْلَم في نفسٍ ولا جسد، وما كان ذاك إلا بعصمةٍ إلهيةٍ، وعده الله تعالى بها فحققها؛ حيث قال: ﴿ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ ﴾ [المائدة: 67] فعَصَمَه منهم”.

والأمثلة على عصمة وحفظ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وكفِّ الأعداء عنه كثيرة:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال أبو جهل: هل يعفِّر محمدٌ وجهَه بين أظهرِكم؟ (يعني بالسجود والصلاة) فقيل: نعم. فقال: واللاتِ والعزى، لئن رأيتُه يفعلُ ذلك لأطأنَّ على رقَبَتِه، أو لأعفِّرنَّ وجهَه في التراب. فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعمَ ليطأَ على رقَبَتِه، قال: فما فجِئهم منه إلا وهو ينكُص على عقبيه، ويتقي (أي يحتمي) بيديه. فقيل له: ما لَك؟، فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نارٍ وهوْلًا وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لوْ دنا مني لاختطفته الملائكة عُضوًا عضوًا» [البخاري]. وهذه معجزة عظيمة رآها عدو الإسلام أبو جهل، فقد رأى أجنحة الملائكة وهي تحمي النبي صلى الله عليه وسلم وأيقن بأن الله حماه بجنده وعونه؛ ولكن منعه الكِبْرُ وحب الزعامة والحرص عليها من الإذعان للحق والانقياد له، فحاله وحال غيره من المشركين كما قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمۡ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33] قال النووي: «ولهذا الحديث أمثلة كثيرة في عصمته من أبي جهل وغيرِه ممّن أراد به ضررًا. وكما حمت الملائكة النبي صلى الله عليه وسلم من أبي جهل، فقد تنزَّلت لحمايته يوم أُحد، حين أطبق عليه المشركون، وتفرَّق عنه أصحابه. فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض، يقاتلان كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد ـ يعني جبريل وميكائيل» (متفق عليه) قال النووي: « فيه بيان كرامة النبي صلى الله عليه وسلم على الله تعالى، وإكرامه إياه بإنزال الملائكة تقاتل معه، وبيان أن الملائكة تقاتِل، وأن قتالَهم لم يختصَّ بيوم بدر». وفي الهجرة النبوية ظهرت صور متعددة لحفظ الله لنبيه صلى الله عليه وسلم منها ما ذكره أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال: «فارتحلنا بعد ما مالت الشمس، وأتبعنا سراقة بن مالك، فقلت أُتينا يا رسول الله، فقال: «لا تحزن، إن الله معنا»، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فارتطمت به فرسه إلى بطنها، فقال: إني أراكما قد دعوتما عليَّ، فادعوَا لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فنجا فجعل لا يلقى أحدًا إلا قال: كفيتكم ما هنا، فلا يلقى أحدًا إلا رده، قال: ووفَّى لنا» (البخاري). قال أنس: «فكان أول النهار جاهدًا (مبالغًا في البحث والأذى) على نبي الله صلى الله عليه وسلم وكان آخرَ النهار مَسْلَحةً له (حارسًا له بسلاحه)»  (البخاري). فكان إنجاء الله لنبيه صلى الله عليه وسلم من بين يدي سراقة سببًا في إسلامه، ودفاعه عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال رضي الله عنه وهو يخاطب أبا جهل: أبا حكمٍ، والله لو كنتَ شاهدًا لأمر جوادي إذ تسوخُ قوائمه علمتَ ولم تَشْكُك بأن محمدًا رسولٌ ببرهانٍ فمن ذا يقاومه؟!.

ويحدثنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه عن صورة أخرى لحفظ وحماية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فيقول: «إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر، فتعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ونائلة وإساف، لو قد رأينا محمدًا لقد قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله، فأقبلت ابنته فاطمة رضي الله عنها تبكي حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك لو قد رأوك، لقد قاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك. فقال يا بنية: أريني وضوءًا، فتوضأ ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأَوه قالوا: ها هو ذا، وخفضوا أبصارهم وسقطت أذقانهم في صدورهم، وعقروا في مجالسهم، فلم يرفعوا إليه بصرًا، ولم يقم إليه منهم رجل. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم، فأخذ قبضة من التراب فقال: شاهت الوجوه، ثم حصبهم بها، فما أصاب رجلًا منهم من ذلك الحصى حصاة، إلا قتل يوم بدر كافرًا» (أحمد)

هذه بعض الصور والأمثلة لحفظ الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وفي هذا كله ما يشهد له صلى الله عليه وسلم بالنبوة وتأييد الله له، وحفظه إياه.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *