العدد 437 -

السنة السابعة والثلاثون، جمادى الآخرة 1444هـ الموافق كانون الثاني 2023م

(وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡۗ)

 

(وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡۗ قُلۡ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلۡهُدَىٰۗ وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم بَعۡدَ ٱلَّذِي جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٍ ١٢٠ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَتۡلُونَهُۥ حَقَّ تِلَاوَتِهِۦٓ أُوْلَٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ١٢١ يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَنِّي فَضَّلۡتُكُمۡ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٢٢ وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ ١٢٣) [البقرة: 120-123].

 

جاء في خواطر الشيخ محمد متولي الشعراوي (رحمه الله):

كان اليهود يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدخل لؤم وكيد فيقولون هادنا، أي قل لنا ما في كتابنا حتى ننظر إذا كنا نتبعك أم لا. يريد الله تبارك وتعالى أن يقطع على اليهود سبيل الكيد والمكر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لا اليهود ولا النصارى سيتبعون ملتك، وإنما هم يريدون أن تتبع أنت ملتهم، أنت تريد أن يكونوا معك وهم يطمعون أن تكون معهم.. فقال الله سبحانه: (وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡۗ)

نلاحظ هنا تكرار النفي؛ وذلك حتى نفهم أن رضا اليهود غير رضا النصارى. ولو قال الحق تبارك وتعالى: ولن ترضى عنك اليهود والنصارى بدون (لا) لكان معنى ذلك أنهم مجتمعون على رضا واحد أو متفقون؛ ولكنهم مختلفون بدليل أن الله تعالى قال: (وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ لَيۡسَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ لَيۡسَتِ ٱلۡيَهُودُ عَلَىٰ شَيۡءٖ) [البقرة: 113]؛ إذًا، فلا يصح أن يقال فلن ترضى عنك اليهود والنصارى. والله سبحانه وتعالى يريد أن يقول لن ترضى عنك اليهود ولن ترضى عنك النصارى، وإنك لو صادفت رضا اليهود فلن ترضى عنك النصارى، وإن صادفت رضا النصارى فلن ترضى عنك اليهود.

ثم يقول الحق سبحانه: (حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡۗ). والملة هي الدين، وسُمِّيت بالملة لأنك تميل إليها حتى ولو كانت باطلًا. والله سبحانه وتعالى يقول: (وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ ٣ وَلَآ أَنَا۠ عَابِدٞ مَّا عَبَدتُّمۡ٤ وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ ٥ لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ ٦) [الكافرون: 3-6] فجعل لهم دينًا وهم كافرون ومشركون؛ ولكن ما الذي يعصمنا من أن نتبع ملة اليهود أو ملة النصارى. الحق جل جلاله يقول: (قُلۡ إِنَّ ٱلۡهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ) [آل عمران: 73]. فاليهود حرَّفوا في ملتهم، والنصارى حرَّفوا فيها. ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معه هدى الله، والهدى هو ما يوصلك إلى الغاية من أقصر طريق، أو هو الطريق المستقيم باعتباره أقصر الطرق إلى الغاية. وهدى الله طريق واحد، أما هدى البشر فكل واحد له هدى ينبع من هواه؛ ومن هنا فإنها طرق متشعبة ومتعددة توصلك إلى الضلال؛ ولكن الهدى الذي يوصل للحق هو هدى واحد، هدى الله عز وجل.

وقوله تعالى: (وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم) إشارة من الله سبحانه وتعالى إلى أن ملة اليهود وملة النصارى أهواء بشرية. والأهواء جمع هوى.، والهوى هو ما تريده النفس باطلًا بعيدًا عن الحق؛ لذلك يقول الله جل جلاله: (وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم بَعۡدَ ٱلَّذِي جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٍ). والله تبارك وتعالى يقول لرسوله لو اتبعت الطريق المعوج المليء بالشهوات بغير حق، سواء أكان طريق اليهود أم طريق النصارى، بعدما جاءك من الله من الهدى فليس لك من الله من ولي يتولى أمرك ويحفظك ولا نصير ينصرك.
وهذا الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجب أن نقف معه وقفة لنتأمل كيف يخاطب الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الذي اصطفاه. فالله حين يوجه هذا الخطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام، فالمراد به أمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتباع رسول الله الذين سيأتون من بعده.. وهم الذين يمكن أن تميل قلوبهم إلى اليهود والنصارى.. أما الرسول فقد عصمه الله من أن يتبعهم.

والله سبحانه وتعالى يريدنا أن نعلم يقينًا أن ما لم يقبله من رسوله عليه الصلاة والسلام، لا يمكن أن يقبله من أحد من أمته مهما علا شأنه؛ وذلك حتى لا يأتي بعد رسول الله من يدعي العلم ويقول نتبع ملة اليهود أو النصارى لنجذبهم إلينا، نقول له: لا ما لم يقبله الله من حبيبه ورسوله لا يقبله من أحد. إن ضرب المثل هنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقصود به أن اتِّباع ملة اليهود أو النصارى مرفوض تمامًا تحت أي ظرف من الظروف، لقد ضرب الله سبحانه المثل برسوله حتى يقطع على المغرضين أي طريق للعبث بهذا الدين بحجة التقارب مع اليهود والنصارى.

وقوله تعالى:(ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَتۡلُونَهُۥ حَقَّ تِلَاوَتِهِۦٓ أُوْلَٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ)بعد أن بين الله سبحانه وتعالى أن اليهود والنصارى قد حرَّفوا كتبهم، أراد أن يبيِّن أن هناك من اليهود والنصارى من لم يحرِّفوا في كتبهم، وأن هؤلاء يؤمنون بمحمد عليه الصلاة والسلام وبرسالته؛ لأنهم يعرفونه من التوراة والإنجيل. ولو أن الله سبحانه لم يذكر هذه الآية لقال الذين يقرؤون التوراة والإنجيل على حقيقتيهما… ويفكرون في الإيمان برسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لقالوا كيف تكون هذه الحملة على كل اليهود وكل النصارى ونحن نعتزم الإيمان بالإسلام..، وهذا ما يقال عنه قانون الاحتمال: أي أن هناك عددًا مهمًّا قل من اليهود أو النصارى يفكرون في اعتناق الإسلام باعتباره دين الحق، وقد كان هناك جماعة من اليهود عددهم أربعون قادمون من سيناء مع جعفر بن أبي طالب ليشهدوا أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم قرأوا التوراة غير المحرفة وآمنوا برسالته، وأراد الله أن يكرمهم ويكرم كل من سيؤمن من أهل الكتاب، فقال جل جلاله: (ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَتۡلُونَهُۥ حَقَّ تِلَاوَتِهِۦٓ) [البقرة: 121] أي يتلونه كما أنزل بغير تحريف ولا تبديل؛ فيعرفون الحقائق صافية غير مخلوطة بهوى البشر، ولا بالتحريف الذي هو نقل شيء من حق إلى باطل.

يقول الله تبارك وتعالى: (أُوْلَٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ).. ونلاحظ أن القرآن الكريم يأتي دائمًا بالمقارنة؛ ليكرم المؤمنين ويلقي الحسرة في نفوس المكذبين؛ لأن المقارنة دائمًا تظهر الفارق بين الشيئين. إن الله سبحانه يريد أن يعلم الذين آتاهم الله الكتاب فلم يحرفوه وآمنوا به؛ ليصلوا إلى النعمة التي ستقودهم إلى النعيم الأبدي، وهي نعمة الإسلام والإيمان مقابل الذين يحرفون التوراة والإنجيل، فمصيرهم الخسران المبين والخلود في النار.

وقوله تعالى: (يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَنِّي فَضَّلۡتُكُمۡ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ١٢٢) [البقرة: 122]. لو رجعنا إلى ما قلناه عندما تعرضنا للآية (40) من سورة البقرة وقوله تعالى: (يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِيٓ أُوفِ بِعَهۡدِكُمۡ وَإِيَّٰيَ فَٱرۡهَبُونِ ٤٠) فالحق سبحانه وتعالى لم ينهِ الجولة مع بني إسرائيل قبل أن يذكرهم بما بدأهم به، إنه سبحانه لا ينهي الكلام معهم في هذه الجولة إلا بعد أن يذكرهم تذكيرًا نهائيًّا بنعمه عليهم وتفضيله لهم على كثير من خلقه، ومن أكبر مظاهر هذا التفضيل.. الآية الموجودة في التوراة تبشر بمحمد عليه الصلاة والسلام وذلك تفضيل كبير. التذكير بالنعمة هنا وبالفضل هو تقريع لبني إسرائيل أنهم لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه مذكور عندهم في التوراة.. وكان يجب أن يأخذوا هذا الذكر بقوة ويسارعوا للإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه تفضيل كبير من الله سبحانه وتعالى لهم.. والله جل جلاله قال حين أخذت اليهود الرجفة، وطلب موسى عليه السلام من ربه الرحمة، قال كما يروي لنا القرآن الكريم: (وَٱكۡتُبۡ لَنَا فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِنَّا هُدۡنَآ إِلَيۡكَۚ قَالَ عَذَابِيٓ أُصِيبُ بِهِۦ مَنۡ أَشَآءُۖ وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِ‍َٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ ١٥٦ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ١٥٧) [الأعراف: 156-157].

وقوله تعالى: (وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ ١٢٣) [البقرة: 123]. هذه الآية الكريمة تشابهت مع الآية 48 من سورة البقرة التي يقول فيها الله تبارك وتعالى: (وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ ١٢٣)نقول إن هذا التشابه ظاهري.. ولكن كل آية تؤدي معنى مستقلًّا. ففي الآية 48 قال الحق سبحانه: (وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا يُؤۡخَذُ مِنۡهَا عَدۡلٞ). وفي الآية التي نحن بصددها قال: (وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَٰعَةٞ) لماذا؟ لأن قوله تعالى: (لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡ‍ٔٗا) لو أردنا النفس الأولى فالسياق يناسبها في الآية الأولى، ولو أردنا النفس الثانية فالسياق يناسبها في الآية الثانية التي نحن بصددها، فكأن معنا نفسين إحداهما جازية والثانية مجزي عنها. والجازية هي التي تشفع، فأول شيء يقبل منها هو الشفاعة، فإن لم تقبل شفاعتها تقول أنا أتحمل العدل، أي أخذ الفدية أو ما يقابل الذنب؛ ولكن النفس المجزي عنها أول ما تقدم هو العدل أو الفداء، فإذا لم يقبل منها تبحث عن شفيع، ولقد تحدثنا عن ذلك بالتفصيل عند تعرضنا للآية 48 من سورة البقرة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *