العدد 236 -

العدد 236 – السنة الواحدة والعشرون، رمضان 1427هـ، الموافق تشرين الأول 2006م

الآثار السياسية للحكم بغير ما أنزل الله (2)

الآثار السياسية للحكم بغير ما أنزل الله (2)

 

غياب النصر والحرمان من التمكين: يقول الله تعالى: ( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) [آل عمران 160] أي: إن المسلمين إذا تعاطوا أسباب النصر، وكانوا له أهلاً وتوكلوا على الله وحده، وعملوا بمقتضى سننه في خلقه فلا قِبَل لأحد بغلبتهم، في حين أنه إذا خذلهم بما كسبت أيديهم من العصيان، فلا أحد يملك لهم نصراً ولا يدفع عنهم ضراً.

وإنه ليس شيء أدعى للخذلان والحرمان من النصر مثل هجر شريعة الله وعدم نصرها في الأرض. إذ إن ذلك إخلال بشرط النصر المنصوص عليه في آي كثيرة من كتاب الله، كما قال سبحانه ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) [محمد 7].

ومن نَصْر الله نَصْر دينه وشريعته، والقرآن الكريم قد نص على كيفية هذا النصر في قوله تعالى: ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ) [الحج 41]. قال الشنقيطي رحمه الله: «وهذه الآية تدل على أن الذين لا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر ليس لهم وعد من الله بالنصر البتة… فالذين يرتكبون جميع المعاصي ممن يتسمون باسم المسلمين ثم يقولون إن الله سينصرنا مغرورون لأنهم ليسوا من حزب الله الموعودين بالنصر كما لا يخفى، ومعنى نصر الله، نصرهم لدينه ولكتابه وسعيهم وجهادهم في أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تقام حدوده في أرضه وتُمتثل أوامره. وتجتنب نواهيه، ويحكم في عباده بما أنزل على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)».

انتقاص الأرض وضياع الملك: يقول الله تعالى: ( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) [الأعراف 128]. فإذا تحول المتقون عن وصف التقوى، فإن عاقبة ذلك تقلص أملاكهم وانتقاص أراضيهم. فهذه سنة الله في الذين خلوا من قبل. قال تعالى: ( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ) [الأنعام 6]. وتلك الذنوب التي تكون العقوبة والهلاك عاقبتها، ليست إلا هجر الحق واتباع الأهواء والشهوات وإحلالها محل شرع الله ودينه، يقول الشيخ رشيد رضا: «الذنوب التي يهلك الله بها القرون ويعذب بها الأمم قسمان: الأول: معاندة الرسل والكفر بما جاءوا به. الثاني: كفر النعم بالبطر والأشر وغمط الحق، واحتقار الناس، وظلم الضعفاء ومحاباة الأقوياء والإسراف في الفسق والفجور، والغرور بالغنى والثروة، فهذا كله من الكفر بنعم الله، واستعمالها في غير ما يرضيه من نفع الناس والعدل العام». وكما حكم الله بحكمه الشرعي أن لا احتكام إلا إلى دينه، فقد حكم بأن لا استقرار لأرض تحت أقدام من يخرج عن هذا الدين. قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ ) [الرعد 37]. وفي نفس السياق يقول سبحانه: ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) [الرعد 41]. وقد كانت الآية امتناناً على المسلمين بفتح أرض الكفار لهم شيئاً فشيئاً، أما وقد صار الكفار يسلبون أرض المسلمين شيئاً فشيئاً فلا بد أنه قد حل خلل خطير في المسلمين، أمَّا وعد الله للمستقيمين على الشرع فإنه لا يتخلف أبداً.

الضعف والتأخر والتفرق: ليس من قبيل الاتفاق أو المصادفة أن تبدو آثار الوهن والضعف على هذه الأمة -كما لم تبد من قبل- بعد سقوط دولة الخلافة الإسلامية في تركيا، فهذه الخلافة، رغم ما اعتراها من ضعف في أواخر سنيها، قد حفظ الله بها بأس المسلمين زهاء خمسة قرون، وكانت إلى عهد قريب -قبل السقوط- قوة مرهوبة الجانب، وذراعاً طويلة المنال يعمل له النصارى ألف حساب.

وقد ذكر الشيخ رشيد رضا: أن كتّاب الإفرنج صرحوا بأنه من أسباب ثبات الأتراك وبلائهم في الحرب، كونهم أقوى تمسكاً بالدين، وأرسخ عقيدة وأثبت إيماناً، وأن جميع الأمم تشهد بأن الجيش العثماني هو أثبت جيوش العالم وأصبره وأشجعه حتى إن قائداً ألمانياً يُعد من أشهر القادة العسكريين، تمنى لو أن له مائة ألف من جنود هذا الجيش ليملك بهم العالم.

ولكن هذا الجيش هو الذي قُهر بعد ذلك في المعارك التي دخلتها تركيا تحت الراية العنصرية الطورانية، كما حدث في حرب البلقان والحرب العالمية الأولى.

وكانت تلك القوميات العنصرية سبباً أدخل به الحكام على الأمة بلاء التفرق والتنازع الذي لا يورث إلا الفشل والهزيمة كما قال تعالى: ( وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) [الأنفال 46]. وما يقال عن الضعف والتخلف وعدم التعاون في المجال العسكري والمنعكس عن المجال السياسي، يقال عن كل المجالات الأخرى. وإن نظرة واحدة إلى واقع العالم الإسلامي اليوم الذي يبلغ تعداده ما يزيد عن مليار نسمة، ويتفرق إلى ما يزيد عن ثمانين دولة… إن إلقاء نظرة واحدة -من منظور سياسي- تكفي لأن تصيب المسلم بالذعر والقلق. فهذا العالم الإسلامي اليوم على اتساعه من أقصاه إلى أقصاه ليست فيه دولة واحدة متقدمة بالمعنى الحديث للتقدم. وليست فيه دولة واحدة كبرى، وليست فيه دولة واحدة تملك سلاح الردع الأول في هذا العصر، وهو السلاح النووي، وليست فيه دولة واحدة تستطيع الاعتماد على نفسها في صناعة السلاح التقليدي. بل -ويا للأسف- ليست الدول الثمانون مجتمعة تمثل في عالم اليوم -وهي تبلغ ربع سكانه- القوة الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة. بل كلها في عداد ما يسمى (العالم الثالث) أو (العالم النامي) وهو اصطلاح مهذب، يقصد به أصلاً: (العالم المتخلف)! فمن المسؤول عن هذا الواقع المر للأمة الإسلامية التي كانت طوال تاريخها ملء السمع والبصر -وهي محكومة بالإسلام؟!

إن نظرة بادئ الرأي، ولفتة الوهلة الأولى تقول: لابد أن شيئاً عظيماً ما، قد غاب عن واقع هذه الأمة… وسرعان ما يكتشف المتأمل هوية العزيز الغائب… إنه: الحكم بما أنزل الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *