العدد 236 -

العدد 236 – السنة الواحدة والعشرون، رمضان 1427هـ، الموافق تشرين الأول 2006م

إشغال الناس بالأسواق المالية

إشغال الناس بالأسواق المالية

 

إذا كانت الأمة الإسلامية اليوم تُحكم على صورة أنظمة الحكم الديمقراطية شكلياً، فإنها تحكم بالنظام الاقتصادي الرأسمالي عملياً، وفي جميع نواحي العلاقات الاقتصادية في كامل بلاد المسلمين، فتُسيّر هذه العلاقات بالقوانين الرأسمالية الغربية. فالكفار قد حرصوا، وبتتابع، ليجعلوا قوانينهم مجسدةً عملياً في كافة المؤسسات المالية، وفي جميع النشاطات الاقتصادية، بل وحرصوا ليجعلوا لها واقعاً مقبولاً من عامة المسلمين، أو على الأقل واقعاً يمارس عملياً دون أن يحس المسلمون مناقضته لعقيدتهم وشريعتهم.

لقد بدأ إدخال هذه القوانين إلى بلادنا مبكراً وقبل هدم الخلافة، وذلك بتأثير من دول الكفر في ذلك الوقت، حيث أُدخل قانون الحقوق والتجارة سنة 1858م، وإذا تم ذلك يومها بفتوى من شيخ الإسلام، فإن الحكام بعد هدم الخلافة قد جعلوا العقيدة الإسلامية خلف ظهورهم، فراحوا ينقلون دساتير الكفار وقوانينهم كاملةً دون حياء لا من الله ورسوله ولا من الناس الذين سكتوا عليهم.

ولما كانت حياة الناس اليومية مرتبطة ارتباطاً تاماً ومباشراً بعجلة الحياة الاقتصادية وقوانينها، فقد استغلَّ الحكام بعض المؤسسات المالية ليشغلوا الناس بها؛ ليحققوا بذلك هدفين اثنين معاً: الأول إبعاد الناس عن معنى الحياة الإسلامية بجعلهم يغوصون في ممارسة الحياة الرأسمالية، فيشعرون وهم يعيشونها باستحالة إمكانية تطبيق أحكام الإسلام لمناقضتها للواقع الذي فيه يغوصون، أما الهدف الخبيث الثاني فهو إبعاد الناس عن قضايا أمتهم المصيرية، بل وإبعادهم عن مجرد متابعة ما يجري لأمتهم من أحداث، فوق إبعادهم عن التفكير بمصدر عزتهم ورفعتهم الحقيقي وهو الإسلام من خلال عودة الأمة جماعةً على إمام.

فقد أشغلَ الحكامُ الناسَ بالبنوك الربوية، والمساهمة بالشركات الرأسمالية، ثم أشغلوهم بأسواق المال، فتحقق للحكام بعضاً مما أرادوا. لكنهم لم يكتفوا بذلك فقاموا، وبتوجيه من السياسة الأميركية المتعلقة بصياغة المنطقة، بفتح هذه الأسواق أمام المستثمرين الأجانب ليزيدوا انشغال الناس وانهماكهم بها.

هذا وقد سبق أن أصدر حزب التحرير كتيباً بعنوان «هزات الأسواق المالية، أسبابها وحكم الشرع في هذه الأسباب» أنصح بمراجعته لما فيه من نفائس كثيرة في فضح واقع هذه الأسواق، وبيان الحكم الشرعي فيها، لكني وفي هذه العجالة سأقتصر بالحديث عن جانب واحد هو إشغال الحكام للناس بهذه الأسواق قبل سقوطهم.

لمّا ظهر للحكام أن أنظمتهم متهاوية قابلة للسقوط راحوا يحاولون معالجة أسباب الخطر وسد ثغراته، ولمّا أحسوا قرب عودة الإسلام راحوا يتفننون في أساليب خبيثة خطيرة تحرف الناس عن العمل الحقيقي الذي ينقذهم، فأعاد الحكام النظر بالسياسات العسكرية، والخارجية، والداخلية، ومنها المتعلقة بالمناهج التعليمية، والإعلام، والجماعات المعتدلة، والانتخابات، والاستفتاءات، ومنها ما هو متعلق بإشغال قطاع من الناس بلقمة العيش وأسبابها، ومنها إشغال قطاع آخر من الناس بالحياة الدنيا ونعيمها وزخرفها، وكان من أعظم البلايا هذه الأسواق المالية، لما فيها من ميزات خطيرة تساعد في انشغال وتعلق الناس بها.

ومن هذه الميزات الخطيرة في هذه الأسواق:

1- الإغراء الربحي السريع، فجميع المتعاملين في هذه الأسواق يسعون لقطف الثمار الربحية السريعة، فيبقى همهم الوحيد متابعة أخبار هذه الأسواق لمعرفة كم ربحوا أو خسروا، ثم متابعة نصائح شركات السمسرة لمعرفة متى يبيعون ومتى يشترون، وقد ساعد على انتشار هذا الأمر البث التلفزيوني الدائم والمباشر لأخبار هذه الأسواق، وقد ساعد في تعميق هذا الأمر مواقع ومنتديات الإنترنت المتخصصة في أمر البورصات، إضافة إلى ذلك الهوس في تلقي الرسائل الخلوية عبر الأجهزة المحمولة.

2- إن ما يحدث من هزات تصيب الأسواق العالمية والمحلية تجعل جميع المتعاملين في هذه الأسواق في حالة توتر وخوف وقلق دائم على مصير أموالهم والتي قد تتبخر في ساعات قليلة، وهذا الأمر يزيد من عزلة هؤلاء عن الأمة وقضاياها.

3- لما كانت هذه الأسواق في حقيقتها ممارسة لما يسمى بالاقتصاد الطفيلي البعيد عن الاقتصاد الحقيقي، كانت هذه الأسواق أقرب إلى كازينو مقامرة، فكل مضارب يسعى ليضارب فيربح أو يخسر ثم يعود ليضارب من جديد، فالمضارب لو ربح اليوم طمع غداً، ولو خسر اليوم طمع أن يعوض غداً، وهذا مرض نفسي يصعب علاجه، أعاذنا الله وإياكم من هذه الشرور والمفاسد.

4- إن الهزات المتتالية والخسائر المتتابعة لم تبعد الناس عن هذه الأسواق لسبب آخر أيضاً وهو إشراف الحكومات على هذه الأسواق، والتي سرعان ما تساعد بطرق مختلفة في تضميد جراحها، لتدعو الناس من جديد للعودة للتعامل معها.

5- إن هذه الأسواق ما كانت لتوجد إلا في ظل ثلاثة أنظمة اقتصادية فاسدة وهي الشركات الرأسمالية، والبنوك المصرفية الربوية، ونظام النقد الورقي الإلزامي، وهذا يعطي هذه الأسواق فساداً فوق فسادها، ويجعل المنخرط فيها بعيداً عن حقيقة قضايا أمته، وهذا مشاهد محسوس.

وأضرب هنا أمثلة تبين مدى انتشار هذه المؤسسات ومدى خطرها على الأمة.

l نصف سكان السعودية (9 ملايين شخص) يملكون أسهما في البورصة.(عن موقع مفكرة الإسلام).

l جاء في صحيفة الوطن السعودية في خبر نشرته العام الماضي: أدى التزاحم على أحد أفرع البنوك المحلية مساء أمس إلى إصابة 5 متعاملين مما اضطر البنك إلى إغلاق خدمات صالة الأسهم لحماية باقي المواطنين. وتسبب اصطدام الكتلة البشرية المتمثلة بالخارجين من البنك، بعد إنهاء تعاملاتهم، والمتدافعين إلى داخله إلى إصابة 3 إضافةً إلى حارسَيْ أمن، جرى نقلهم جميعاً إلى مستشفى الأنصار العام.

l وجاء في خبر آخر ورد في الصحيفة نفسها وفي نفس اليوم: وصف المحلل الاقتصادي في البنك الأهلي غسان بادكوك سعر تداول أمس بـ”الخيالي” وقال: «لا علاقة للسعر بالأسس الاقتصادية أو الفنية…». وفي حفر الباطن والأحساء تدافع العديد من المواطنين إلى البنوك ووقعت مشادات كلامية بين المواطنين أثناء الوقوف في الطوابير المخصصة للانتظار في صالات الأسهم. وتواجدت «الوطن» في إحدى صالات الأسهم لدى أحد البنوك ولاحظت الازدحام الشديد على بيع الأسهم… فيما تواجدت الجهات الأمنية أمام البنوك بمحافظة حفر الباطن من أجل تنظيم عملية السير في الطريق العام حيث تسبب تدافع المكتتبين في تعطيل وإرباك حركة السير… وشهدت الأحساء مشهداً مماثلاً مما أدى إلى تدخل رجال الأمن في حماية موظفي تنفيذ أوامر البيع في بعض البنوك، واكتظت الشوارع المؤدية إلى جميع أفرع البنوك بالسيارات والمارة، وبدا التجمع على أبواب البنك منذ ساعات الدوام الأولى مشهداً مألوفاً في كافة الفروع، بينما شهدت شاشات الأسهم -هي الأخرى- إقبالاً منقطع النظير من المواطنين، ولتخفيف الزحام لجأت بعض البنوك إلى تجهيز أكثر من 20 جهاز فاكس لاستقبال أوامر البيع. (انتهى خبر صحيفة الوطن).

وفي النهاية لا بد لمن يتعاملون مع هذه الأسواق من أن يصحوا من غفلتهم، ويعودوا إلى ربهم جل شأنه، فهذا مال سُحْت لا بركة فيه، يورِثُ صاحبه النار والعياذ بالله تعالى، وها هي أمتنا على كثرة مالها فإنها بمجموعها تعدّ من الأمم الفقيرة المتسولة، تعيش على توجيهات الكفار لها في كل شأن، ومنها هذه الأمور الاقتصادية، بل ويجب عليهم العمل مع العاملين لعز هذا الدين، ورفع شأن المسلمين، فالحكام إلى زوال، ولن يبقى مما صنعت أيديهم أثر.

وهنا لا بد من لفتة لحملة الدعوة وهم يعملون مع الأمة، وهي أنَّ استعارَ الحرب من الحكام على هذه الأمة وهذا الدين، لدليل على أن الدعوة، وبفضل الله، قد قطعت أشواطاً ومراحلَ حقيقيةً في السير نحو الهدف، وما مطلوب منا إلا مزيد من الصبر والعمل الخالص والصواب، ليبقى الأمل قوياً في النفوس بقرب تحقق وعد الله تعالى للمؤمنين،؛ لأن الله تعالى لا يخلف عباده وعده، وحتى من انشغلوا بالدنيا حتى أنستهم هموم أمتهم، فإن هؤلاء لم تنطفئ في قلوبهم جذوة الإيمان تماماً، ودليل على ذلك أن أكثر العوام منهم عندما يُستنهَضون لعمل فيه خير أو بعضٌ من خير تجدهم يقدِّمون ولا يبخلون، وما المطلوب لهم ولنا ولكل الأمة إلا قيادة مخلصة واعية تقودنا جميعاً للخير التام والعمل النقي المستقيم الذي يحبه الله ورسوله، فالجيل الذي أضاع الخلافة قد ذهب بعقليته ونفسيته إلى غير رجعة، ولو أننا تتبعنا واقع المجتمع في فكره وشعوره والعرف العام الذي يسوده، خلال العقود المنصرمة منذ هدم الخلافة إلى اليوم، لوجدنا أن الأمة في تقدم مستمر نحو دينها، وهذا هو الذي يربك الكفار وأعوانهم ليجعلهم، وبكل الأساليب الشيطانية الخبيثة، يحاولون منع انهيار كياناتهم، لكنهم والله خائبون خاسرون إن شاء الله تعالى، كيف لا، وهذا هو دين الله الخاتم، ورسالة الله تعالى للبشرية أجمع، قد تكفل جل وعلا بحفظه ونصره على الدين كله. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *