العدد 435 -

السنة السابعة والثلاثون – ربيع الآخر 1444هـ – تشرين الثاني 2022م

العلماء: بين وراثة الأنبياء، ووراثة المال وحب السلطان

إن الله سبحانه وتعالى قد خلقنا، وهو الأزليُّ الواجب الوجود في تمام صفات الكمال، ولم يُضِفْ له هذا الخلق شيئًا، وهو القائل: (مَآ أُرِيدُ مِنۡهُم مِّن رِّزۡقٖ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطۡعِمُونِ ٥٧ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلۡقُوَّةِ ٱلۡمَتِينُ ٥٨) [الذاريات: 57-58]. فعندما يشرع الله تعالى لنا أمرًا فهو يشرعه لمصلحة البشرية، إنه سبحانه يحب لصنعته أن تظفر بسعادة شريعته سبحانه؛ لذلك أنزل في التشريع «اِفعل ولا تفعل» وهو بهذا التشريع لا يريد أن يحدِّد حرية الحركة على الخلق إلا بما يحميهم، إنه يحدِّد حرية هنا ليحمي حرية هناك. فعندما حرَّم الله السرقة -على سبيل المثال – فالأمر شامل لكل البشر، فلا يسرق أحدٌ أحدًا. فالله سبحانه حين منع يدَ واحدٍ من السرقة، كان في ذلك منع لملايين الأيدي أن تسرق من هذا الإنسان، وفي هذا حماية لكل البشر من أن يسرق إنسان إنسانًا آخر، وفي ذلك كسب لكل إنسان، فحين نأخذ التشريع لا نأخذه على أنه مطلوب منَّا كأفراد فحسب، بل يجب أن نأخذه كمجتمع، بمعنى أنه مطلوب منك ومن غيرك، ومطلوب لك ولغيرك أيضًا.

من هنا، فإن كل إنسان يعيش تحت ظل شريعة الله، يكسب حياة مطمئنة من وجود التشريع، سواء أكان مؤمنًا أم كان من أهل الذمة. والشريعة الإسلامية إنما جاءت لصالح البشر جميعًا منذ أن خَلقَ الله أبو البشر آدم عليه السلام إلى أن يرث الأرض ومن عليها، ورحمته سبحانه وسعت كل شيء، ومن رحمته سبحانه أنَّ رَكْبَ الأنبياء والرسل قد تواصل واستمر، والمنهج الذي جاؤوا به إنما جاء ليحقق مصلحة الناس ويوافق فطرهم ويقنع عقولهم ويملأ نفوسهم بطمأنينةِ وسكينةِ الإيمان. وهذا على عكس سائر المناهج الوضعية التي تعيش حالة من التناقض والتنافر وتولِّد الشقاء وحياة الضنك… هذا وقد اصطفى الله سبحانه سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم ليكون خاتم النبيين، ولتتحمل أمته من بعده أعباء الرسالة الخاتم، وليضمن بها بقاء المنهج صحيحًا وصراطًا مستقيمًا، عن طريق تطبيقه وحمله بالجهاد والدعوة إليه ونشره وإدخال الناس فيه إلى قيام الساعة؛ فكانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي من كان لها شرف حمل هذا الدين رسالة للعالمين وفي مقدمتها العلماء. روى الإمام أحمد وأصحاب السنن عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر». وقد ذُكِر هذا الحديث في تفسير قوله تعالى (ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ
ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ). وقد ذكر العلماء مَعْنَيَين بالمقصود من الوراثة هنا، فقيل «العلماء ورثة الأنبياء في وجوب تبليغ الدين ونشره حتى يظهر على جميع الأديان». وقيل «الإنصات للعلماء والتوقير لهم لازم للمتعلمين، لأن العلماء ورثة الأنبياء». وهناك من جعل الأُولى سببَ وجود الثانية، فقال «يجب توقير العلماء والإنصات لهم لأنهم هم الذين يحيون سُنَّتَه عليه الصلاة والسلام ويقومون بشريعته»، فلا توقير ولا إنصات بغير إحياء السنن والقيام بالشريعة وتطبيق الإسلام تطبيقًا شاملًا على الفرد والمجتمع والدولة حتى تتحقق الهيمنة الحقيقية لمنهج الله سبحانه. انظر شرح صحيح البخاري لابن بطال.

وفي هذا إشارة واضحة إلى أن العلماء إذا فعلوا ما أُمِروا به؛ فإن الله يرفعهم الدرجات العلى، قال تعالى: (… يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ)، وأما إن تجاهلوا علمهم ولم يفعلوا ما أمروا به، أو سخَّروا علمهم بالسعي وراء لعاعة الدنيا كالتكسُّب به، أو ليقال إنه عالم، أو لتحقيق مكانة في المجتمع، أو لكسب رضا الحكام وصرف الناس عن إنكار منكراتهم والتضليل على الناس بوجوب طاعتهم وحرمة الخروج عليهم – والعياذ بالله – وقد يكون المقصود ما تقدم جميعًا، فإنهم لن ينالوا من الله ما وعدهم، ولا يستحقون التوقير والإنصات، وسيكون عقابهم يوم القيامة أشد من غيرهم. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أولَ الناسِ يُقضى يومَ القيامَةِ عليه، رجُلٌ استُشهِد، فأُتي به فعرَّفه نِعَمَه فعرَفها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: قاتَلتُ فِيكَ حتى استُشهِدتُ، قال: كذَبتَ، ولكنَّكَ قاتَلتَ لِأَنْ يُقالَ جَريءٌ، فقد قيل، ثم أمَر به فسُحِب على وجهِه حتى أُلقِيَ في النارِ. ورجُلٌ تعلَّم العِلمَ وعلَّمه وقرَأ القرآنَ. فأُتِي به، فعرَّفه نِعَمَه فعرَفها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العِلمَ وعلَّمتُه وقرَأتُ فيكَ القرآنَ، قال: كذَبتَ، ولكنَّكَ تعلَّمتَ العِلمَ لِيُقالَ عالِمٌ، وقرَأتَ القُرآنَ لِيُقالَ هو قارِئٌ، فقد قيل، ثم أمَر به فسُحِبَ على وجهِه حتى أُلقِي في النارِ. ورجُلٌ وسَّع اللهُ عليه وأعطاه مِن أصنافِ المالِ كلِّه، فأتَى به فعرَّفه نِعَمَه فعرَفها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: ما ترَكتُ مِن سبيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنفَقَ فيها إلَّا أنفَقتُ فيها لكَ، قال: كذَبتَ، ولكنَّكَ فعَلتَ لِيُقالَ هو جَوَادٌ، فقد قيل، ثم أمَر به فسُحِب على وجهِه، ثم أُلقِي في النارِ».

لذلك فإن من أوجب الواجبات العظيمة اليوم على المسلمين بعامة وعلى العلماء بخاصة، إقامة الدين وحمل رسالة الإسلام وتطبيق جميع أحكامه في دولة مطبقة للإسلام، حاملة للدعوة، حامية للمسلمين وواقية لهم من أعدائهم… وواجب على العلماء أولًا أن يبينوا للناس أمور دينهم، وما يُصلح لهم شأنهم في الدنيا والفوز في الآخرة. وهذا هو الميثاق الذي أخذه الله عليهم في  كتابه الحكيم: (وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمۡ وَٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَبِئۡسَ مَا يَشۡتَرُونَ ١٨٧) [آل عمران:187]. ولنقف قليلًا مع أقوال المفسرين لهذه الآية الكريمة:

قال القرطبي في تفسيره: قوله تعالى: (وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ) هذا متصل بذكر اليهود؛ فإنهم أُمروا بالإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام وبيان أمره فكتموا نعته. فالآية توبيخ لهم، ثم مع ذلك هو خبر عام لهم ولغيرهم. قال الحسن وقتادة: هي في كل من أوتي علم شيء من الكتاب. فمن علم شيئًا فليعلِّمْه، وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة. وقال محمد بن كعب: لا يحل لعالم أن يسكت على علمه، ولا للجاهل أن يسكت على جهله؛ قال الله تعالى: (وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ) الآية. وقال: (فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ) [النحل: 42]. وقال أبو هريرة: لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء؛ ثم تلا هذه الآية (وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ) أ. ه‍.

وقال ابن كثير في تفسيره: (وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمۡ وَٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَبِئۡسَ مَا يَشۡتَرُونَ ١٨٧): هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن ينوِّهوا بذكره في الناس ليكونوا على أهبة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه، فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف، والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم. وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسلكهم. فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئًا، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» .أ. ه‍.

هذا وقد قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ)، فعلى من يريد أن يكون من ورثة الأنبياء حقًّا وصدقًا أن يلتزم بهذه الآية، إذ يبلغ ما أُنْزِلَ من الله عز وجل كاملًا غير منقوص، وإلا صار كعلماء بني إسرائيل الذين يجعلون آيات الله قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا. ومِن أكملِ وأتمِّ الآيات في هذ المعنى، قوله تعالى: (إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ
فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِ‍َٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗاۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٤٤).

فالأنبياء في حياتهم يحكمون الناس بكتاب الله سبحانه، وبعد وفاتهم تقع الأمانة على عاتق ورثتهم من العلماء الربانيين، فَهُمْ حفظة الدين وحملة لواء الشريعة بعد الأنبياء. ولأن الأمر لن يكون سهلًا، ولأن القائم بهذا سيتعرض لمخاطر وتهديدات، قال سبحانه: (فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِ‍َٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗاۚ) كناية عن الذين يكرهون أحكام الله من أصحاب السَّطْوَةِ والجَاهِ -السلاطين والحكام- فلا تخشوا بطشَهم وقوَّتَهم، ولا تشتروا مغرياتهم وأموالهم بآيات الله وشريعته. كما حذّر سبحانه من ترك شيئًا قليلًا من أحكام الشرع إرضاء للرافضين لها والمعرضين عنها، فقال عز وجل (وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ)، وبلهجة أشد فيها تهديد ووعيد، قال العزيز الحميد (وَلَوۡلَآ أَن ثَبَّتۡنَٰكَ لَقَدۡ كِدتَّ تَرۡكَنُ إِلَيۡهِمۡ شَيۡ‍ٔٗا قَلِيلًا ٧٤ إِذٗا لَّأَذَقۡنَٰكَ ضِعۡفَ ٱلۡحَيَوٰةِ وَضِعۡفَ ٱلۡمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيۡنَا نَصِيرٗا ٧٥).

اُنظر يا من حفظت كتاب الله وسنة رسوله وحصلت على لقب العالِم الفلاني او فضيلة العلَّامة، إلى هذا الشيء القليل الذي حذَّر منه ربُّنا تبارك وتعالى نبيَّه ورسولَه المصطفى، عليه الصلاة والسلام، فهل تراه متحقَّقًا اليوم في من يزعمون أنهم وراثة الأنبياء؟ هل فُتِنوا عن بعض ما أنزل الله إليهم؟ هل ركنوا إلى الطواغيت ووافقوا أهواءهم في بعض الأحكام، منها على سبيل المثال لا الحصر (الحكم بغير ما أنزل الله – والتحاكم للكافر المستعمر ـ والتطبيع مع يهود بل وحمايتهم)؟ هل صدق فيهم قوله تعالى: (وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمۡ وَٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَبِئۡسَ مَا يَشۡتَرُونَ١٨٧)؟ وهل يتنزل عليهم قوله جل وعلا (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ١٥٩)؟

وقد ذكر شيخ المفسرين الطبري في تفسيره لهذه الآية عددًا من الآثار التي تدل على أنها نزلت في أهل الكتاب الذين كتموا علمهم بنبوة محمد، عليه الصلاة والسلام، ثم قال: وهذه الآية، وإن كانت نزلت في خاصٍّ من الناس، فإنه معنيٌّ بها كل كاتمٍ علمًا فرضَ الله تعالى بيانه للناس، وذلك نظير الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من سُئل عَن علم يَعلمهُ فكتمه ألجِمَ يوم القيامة بلجام من نار» ا. هـ. وقال صاحب المنار إن العبرة في الآية هي أن حكمها عام وإن كان سببها خاصًّا. فكما تقول القاعدة الشرعية «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» ، فكل من يكتم آيات الله وهدايته للناس فهو مستحق لهذه اللعنة. اهـ. وها هي بعض مواقف لمن شهد لهم تاريخ الإسلام بالعلم ووراثة الأنبياء:

– أبو حنيفة النعمان: رفض رئاسة القضاء في عهد أبي جعفر المنصور وعُذِّب من أجل ذلك، وكان رده على المنصور بما معناه لا يصلح للقضاء إلا رجل يكون له نَفْس يحكم بها عليك وعلى ولدك وقُوَّادك.                                                                                                                                      – مالك بن أنس: حاول المنصور منعه من ذكر حديث يحفظه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام لما يحمل من معانٍ تمثل خطرًا على سلطانه، فما استجاب رغم تعرضه للضرب والإهانة، وأبى كتم العلم.

– سفيان الثوري: كان كلما طلب منه المنصور أن يرفع إليه حاجته يُذَكِّره بظلمه وجوره والبذخ الذي يعيش فيه من أموال المسلمين، واستمرَّت مواقفه مع المهدي حتى عاش مطارَدًا، فلما سُئل عن ذلك، قال: «العالِم طبيب الدين، والدرهم داء الدين، فإذا اجترَّ الطبيب الداء إليه، متى يداوي غيره؟!».

– أحمد بن حنبل: سُجِن عدة سنوات، وجُلِد أكثر من ألف جلدة، ومُنِع من التدريس، وتناوب على ظلمه ثلاثة من خلفاء العباسيين (المأمون، المعتصم، الواثق) فما أجابهم لطلبهم المخالف لكتاب الله وسنة رسوله.

– محمد بن إسماعيل البخاري: رفض الاستجابة لخالد الذهلي، أمير خراسان، عندما طلب منه أن يحضر إلى بيته من أجل تعليم أبنائه الحديث، وأصرَّ أن يحضروا هم إلى بيته مثل بقية الطلاب، فنفاه من بلدته حتى مات في المنفى.

أكتفي بهذه الأمثلة، فالمقام لا يتسع للاستقصاء، ومن أراد التوسع في ذلك فليرجع إلى كتاب «الإسلام بين العلماء والحكام» لعبد العزيز البدري رحمه الله؛ ولكني ألفت الانتباه هنا إلى أن مواقف هؤلاء العلماء الذين تعرضوا بسببها لهذا الأذى كانت مع حكام يقيمون شرع الله، ويعادون أعداء الله ويجيشون الجيوش الإسلامية لمحاربتهم، فكيف ينبغي أن يكون من يسمَّون اليوم علماء في عصرنا الحاضر مع حكام يحاربون دين الله وشريعته ويوالون أعداء الأمة ويحكمون بغير ما أنزل الله، ويستبيحون الدماء ويتعاملون بالربا وينشرون الفساد وينهبون الأموال ويفتحون المراقص ويعطلون الجهاد في سبيل الله؟! ماذا أنتم قائلون أيها العلماء يوم يقوم الناس لرب العالمين؟؟! ماذا أنتم قائلون يوم يقول سبحانه: (وَقِفُوهُمۡۖ إِنَّهُم مَّسۡ‍ُٔولُونَ٢٤)؟!.

يا علماء الأمة، يكفي أن الأصل في العلماء العدالة، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في (المسند) ونبَّه عليه ابن القيم رحمه الله في (مفتاح دار السعادة): «يحمل هذا العلم من كل خَلَفٍ عدوله» قال ابن عبد البر رحمه الله: «وفيه دلالة على أن العلماء عدول وهو الأصل فيهم» كما في (التمهيد). ويكفي في ذلك أن الخير لا ينتشر في الأرض إلا بالعلماء، وأن الشر لا ينتشر في الأرض إلا بفقدهم، ولا ينقص الخير إلا بفقد العلماء.

إن مهمة العلماء هي أن يتصدَّوا للتيارات الجارفة بالأمة نحو الهلاك، فهم القادة المصلحون الذين يقودون العباد والبلاد إلى برِّ الأمان، هم الطليعة الذين يتقدَّمون الشعوب نحو كل خير، هم محل ثقة الناس عامة، وقد خصهم الله بالذكر فقال سبحانه في بيان فضلهم في هذه الأرض قال: (أَفَلَا يَرَوۡنَ أَنَّا نَأۡتِي ٱلۡأَرۡضَ نَنقُصُهَا مِنۡ أَطۡرَافِهَآۚ أَفَهُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ) [الأنبياء: 44]. وقال الله جل وعلا (أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا نَأۡتِي ٱلۡأَرۡضَ نَنقُصُهَا مِنۡ أَطۡرَافِهَاۚ وَٱللَّهُ يَحۡكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكۡمِهِۦۚ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ ٤١) [الرعد: 41]، والمراد بِنُقْصَانِهَا كما جاء عن غير واحد من الـمُفسِّرين: «هو ذهاب العلماء والفقهاء»، فقد روى وكيع عن طلحة بن عمير عن عطاء بن أبي رباح قال في قوله: (أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا نَأۡتِي ٱلۡأَرۡضَ نَنقُصُهَا مِنۡ أَطۡرَافِهَاۚ وَٱللَّهُ يَحۡكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكۡمِهِۦۚ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ٤١): «ذهاب فقهائها وخيارها» ( جامع البيان للطبري). قال ابن عبد البر: «قول عطاء في تأويل هذه الآية حسنٌ جدًا، تلقاه أهل العلم بالقبول» (جامع بيان العلم وفضله). وروي هذا عن غير واحد من المفسِّرين، فقد روي ذلك عن مجاهد بن جبر كما رواه سفيان عن منصور عن مجاهد بن جبر، قال في قول الله عز وجل: (أَفَلَا يَرَوۡنَ أَنَّا نَأۡتِي ٱلۡأَرۡضَ نَنقُصُهَا مِنۡ أَطۡرَافِهَآۚ أَفَهُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ). قال: «موت الفقهاء والعلماء» (النووي: [16/441]).

ومن خلال هذه الأقوال التي أشرنا إليها نجد أن الشر حينما ينتشر في الناس فإنه لا ينشر إلا بسببين لا ثالث لهما: أحدهما: بفقد العلماء واندثارهم في هذه الأرض. والسبب الثاني: تقصير العلماء بالقيام بواجبهم وذلك حال وجودهم؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري ومسلم من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور العباد؛ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقَ عالِمًا، اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا، فسُئِلوا فأفتَوا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا» (رواه البخاري، ومسلم).

أيها العلماء، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعيش كآحاد الناس، يجوع مثلهم ويحمل الحجارة معهم، ينام على الحصير ويجلس على الأرض، وكان في مهنة أهله يخيط ثوبه ويصلح نعله بيده… إلى غير ذلك من البعد عن مظاهر الترف والرفاهية التي يبحث عنها ويحرص عليها بعض حَمَلَة العلم في عصرنا الحالي، حتى إن امرأة يومًا كلَّمَتْه -عليه الصلاة والسلام- بأسلوب غير لائق، فلما عاتبها الصحابة وقالوا لها كيف تكلمين رسول الله هكذا؟! قالت: إنني لم أعرفه، واعتذَرَتْ بأنه لم يكن معه حارس ولا بوَّاب. فما بال المنتسبين إلى العلم والدعوة يبحثون عن الجاه والمكانة عند الناس، بل يتنافسون على إرضاء الحكام والسلاطين، بدلًا من تنافسهم على أداء الأمانة وتبليغ الرسالة، التي هي ميراث الأنبياء بحق، مهما أصابهم في سبيل ذلك من ضيق وكدر في العيش؟!…إن الاسلام اليوم يريد من المسلمين، وخصوصًا العلماء، وهم على مفترق الطريق، بذل الغالي والنفيس وبذل أقصى الجهد في بيان أحكام الإسلام وحمل دعوته وإقامة دولته.

أيها العلماء، ألم يأتِكم نبأ الحكام ومنكراتهم التي ترتكب مع كل دقة ساعة في العالم الإسلامي؟! ألم تسمعوا وتشاهدوا ما حلَّ بالشام وأهلها من قتل ودمار، ثم ألم يأتِكم نبأ ما حلّ باليمن السعيد من سفك الدم الحرام وزرع الفتن الدهماء، من قِبل لُقطاء السياسة في شمال اليمن وجنوبه، بل إن بعض من يسمَّون علماء مازالوا يشرعنون لأتباعهم بوجوب الاقتتال وكأنهم لم يقرؤوا قوله تعالى (وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا٩٣). وعن جرير قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع «استنصت الناس»  ثم قال «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» فيا ويل قوم يصمتون عن قول الحق وبيان حكم الله في أعمال الحكام الظالمين وزبانيتهم.

أيها العلماء، ألم يأتِكم نبأ سفاهة حكام بلاد  المسلمين من أشباه الرجال في الخليج والحجاز والكنانة وهم يتآمرون مع يهود على أرض الإسراء والمعراج؟ وقتل المسلمين في سوريا واليمن وسائر بلاد المسلمين؟! أين أنتم يا علماء الأمة من هذه المنكرات التي تحدث أمامكم جهارًا نهارًا؟!… فيا ويل قوم يصمتون على بقاء الأنذال في الحكم ساعة من نهار!

وختامًا فإني أوجه في نهاية هذا المقال إلى كل من أنعم الله عليه بنعمة العلم الشرعي، وعرف صلته بالله خالقه، فصفت عقيدته، ونقت سريرته، وأيقن بلقاء ربه، ثم رأى مآسي الأمة الإسلامية وهي تذبح، وتنتهك، وتنهب، أن يبادر من فوره لتدارك ما يمكن تداركه قبل أن تهلك هذه الأمة وهو ينظر، وعندها يندم، ولات ساعة مندم.

أيها العلماء، إن الحل الوحيد لكل هذه المآسي والمنكرات هو إقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، فالحقوا بركب العاملين لها من شباب حزب التحرير. فالعمل لإقامة الخلافة هو فرض الفروض؛ لأنه بها يقام الدين وتطبَّق الأحكام وتُحمى المقدسات والحرمات، بل هي الدرع الواقي للأمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما الإمام جُنَّة يقاتل من ورائه ويُتَّقى به».

فاللهم بسطوة جبروت قهرك، وبسرعة إغاثة نصرك، وبغيرتك لانتهاك حرماتك، وبحمايتك لمن احتمى بآياتك، أسألك يا الله، يا سميع، يا قريب، يا مجيب، يا منتقم، يا شديد البطش، يا جبَّار، يا قهَّار يا من لا يعجزه قهر الجبابرة ولا يَعْظُمُ عليه هلاك الظالمين من الملوك الأكاسرة… أن تُعجل لنا بيوم النصر والتمكين، اللهم أيِّدنا بأهل نصرة ومنعة من رجال هذه الأمة الأتقياء الأنقياء، يا رب العالمين… وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين. 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *