النظام الاقتصادي الأمثل

(تعريف بالنظام الاقتصادي في الإسلام) (5)

د. محمود عبد الهادي

النظام الاقتصادي في الإسلام هو الأحكام الشرعية التي تبيِّن الحقوق والواجبات لكل فرد فيما يتعلق بحيازة الثروة والتصرُّف بها وكفاية حاجاته. فمن حيث هو نظام: هو مجموع الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال العباد في موضوعه. ومن حيث موضوعه أي الاقتصادي: هو تدبير شؤون المال تملُّكًا وتصرُّفًا.

ويختلف النظام الاقتصادي الإسلامي عن غيره من النظم المعروفة في العالم وهي الرأسمالي والاشتراكي. يختلف عنها في الأساس الذي ينبثق منه، وفي مصدره الذي يؤخذ منه، وفي كيفية تقرير جزئياته، وفي تقريره للمشكلة الاقتصادية التي يعالجها، وبالتالي في سياسته، أي كيفية معالجته لهذه المشكلة، يتبيَّن ذلك من استقراء أحكام الإسلام ومعالجاته.

وقد كان للضعف الشديد الذي طرأ على المسلمين في فهم الإسلام، وللغزو الاستعماري الذي فصل الإسلام عن الدولة وعن الحياة، وتدخّل في الأنظمة والقوانين، وفي برامج الإعلام ومناهج التعليم، أثرٌ كبير في تشويه الإسلام، وفي حشو العقول بالمغالطات، وفي تشكيل العقليات عند المسلمين على أسس من أفكار الكفر، وفي جعل الكافر المستعمر وقوانينه وتاريخه ونظم حياته في كثير من نواحي العيش محطَّ أنظار المسلمين، وخصوصًا المتعلمين منهم، والذين تبوَّؤوا مراكز الحكم والتأثير والنفوذ. لقد كان لهذا أثره الكبير في زيادة جهل المسلمين بدينهم وبطريقة عيشهم، ومن ذلك النظام الاقتصادي؛ ولأجل ذلك لزم عرض وبيان أحكام النظام الاقتصادي في الإسلام.

أما من حيث أساسه الذي ينبثق منه، فالنظام الاقتصادي كغيره من أنظمة الإسلام، هو أحكام شرعية يثبت كونها حقًّا، ويثبت وجوب أخذها بناءً على أنها أوامرُ ونواهٍ من الله تعالى، وبذلك فهي حقٌّ وما عداها باطل. فأساسه هو الحقيقة القطعية: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهي التي تعيِّن مصادر النظام التي تبيِّن الحقـوق والواجبات والمصالح والمفاسد وكيفية تقرير أي منها. هذه المصادر هي القرآن والسنة، وإجماع الصحابة والقياس.

وما لم يكن مأخـوذًا من مصادر الإسلام فهو باطل؛ لأنه يفتقر إلى إثبات تصديقه، أو وجوب أخذه، أو حـق الإلزام أو الالتزام به. وقد ثبت قطعًا وجـوب نبذه وإطراحه. قال تعالى:  (إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُۚ).

وعلى ذلك فإن مصدر النظام الاقتصادي الإسلامي هو القرآن والسنة وما أرشدا إلى أنه وحي من الله تعالى، أو الفقه الإسلامي المأخوذ من هذه المصادر.

والنظام الرأسمالي لا يمتلك أساسًا صحيحًا أو مبنيًّا على العقل يبيِّن كيفية تعيين ما هو حق وما هو باطل في سلوك الناس، أو ما هو حسن وما هو قبيح، وفي كيفية حيازتهم للثروة أو التصرُّف بها. فهو يقرر مصادر القوانين ويضع القوانين من غير إثبات لصحة هذه المصادر أو صحة هذه القوانين أو كونها حقًّا؛ لذلك فهو يعتمد في ذلك على الميول والأهواء وعلى الرغبات والشهوات. وينتج عن ذلك تحكُّمُ أصحاب النفوذ والمال والأقوياء بغيرهم من أفراد المجتمع أو من المجتمعات الأخرى.

وبما أن النظام الرأسمالي لا يمتلك أساسًا صالحًا لتعيين مصادر القوانين ولإثبات حقوق الأفراد وواجباتهم، فهو يتنصّل من هذا الأمر بزعم الحريات للأفراد، وتتركز أبحاثه ودراساته على خصائص الأشياء وخصائص الإنسان وسلوكه، ويسند أصحاب هذه الأبحاث أفكارهم إلى هذه الدراسات زاعمين الاستناد إلى العلم، فيخلطون ويجعلون علم الاقتصاد والنظام الاقتصادي شيئًا واحدًا، بينما هما في الحقيقة موضوعان مختلفان.

أما الإسلام، فإنه يبين النظام الاقتصادي، وقد جاءت أحكامه متعلقة بأفعال الناس وتصرفاتهم فيما يتعلق بالمال وبالانتفاع بالثروة، فجاءت لتبيِّن كيفية تملك المال، وكيفية التصرف به تنمية وإنفاقًا وبذلًا، وكيفية إشباع الحاجات، وعلى من تقع مسؤولية ضمان هذا الإشباع من والد، أو ولد، أو زوج، أو أقرباء، أو الأمة، أو الدولة.

وليس من أبحاث النظام الاقتصادي ولا من أحكامه البحث في كيفية إيجاد الثروة أو المال أو زيادته أو زيادة الإنتاج من سلع وخدمات، فهذا يتعلق بالعلوم وبعلم الاقتصاد وليس بالنظام الاقتصادي. وهو وإن حثَّ عليه الشرع وأوجب تحصيل علومه والسعي في نصح الرعية وتحقيق ما هو أصلح لها، فهو يدخل في المباحات من خطط وأساليب السياسة الاقتصادية الشرعية، وهو مما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه من شؤون الدنيا: (أنتم أدرى بشؤون دنياكم)، فليس من أبحاث النظام الاقتصادي الأبحاثُ العلمية التي تكشف عن كيفية استصلاح الأراضي أو زيادة إنتاجها وتحسينه، ولا في كيفية تطوير الإنتاج الحيواني ولا في دراسات الأسواق والاستهلاك والتسويق، ولا في دراسات الجدوى أو أبحاث العمليات الاقتصادية.

والمشكلة الاقتصادية في نظر النظام الرأسمالي هي الندرة النسبية للسلع والخدمات ولوسائل الإشباع؛ لذلك يهدف هذا النظام إلى زيادة الإنتاج وتوفير الخدمات في السوق. ويرى أنه بهذا يحل المشكلة ويتمكن الأفراد من الحصول على هذه الوسائل ومن إشباع حاجاتهم عن طريق الثمن. والثمن يضمن التوزيع العادل – بنظرهم – للثروة؛ إذ هو القيد الذي يجعل الإنسان يتوقف عن الحيازة والاستهلاك عند الحد الذي يتناسب مع موارده. والحصول على الثمن أو على ما يقابل الثمن من سلع وخدمات هو الدافع للإنتاج ولبذل المجهود؛ وبهذا يكون الثمن أو جهاز الثمن هو المنظم الطبيعي لتوزيع الثروة على الأفراد.

وهذا من أغرب ما يمكن أن يقوله أو أن يقبله عاقل، وهو لا ينمُّ إلا عن عجز أو عن ضلال في التنظيم. إذ هو يحكم بالموت أو الحرمان على من قصرت به مواهبه أو قواه عن بذل المجهود أو الإنتاج، أي على من لا يملك الثمن.

إن المشكلة الاقتصادية ليست في إيجاد الثروة ولا في الإنتاج أو زيادته، فالبشر يندفعون طبيعيًّا لإشباع حاجاتهم ولحيازة الثروة وللإنتاج وزيادته لينتفعوا بذلك. والثروة موجودة وليست المشكلة في إيجادها، وإنما المشكلة هي في كيفية امتلاكها وفي كيفية التصرف بها بما يؤدي إلى تمكين كل فرد من إشباع حاجاته، فلا يستأثر بها الأغنياء والأقوياء مما يؤدي إلى كثرة الفقراء وإلى الاستغلال والاستبداد، وإلى شيوع الفقر والحرمان والبطالة ولو كثر المال.

وسياسة الاقتصاد في الإسلام هي الهدف الذي ترمي إليه الأحكام التي تعالج تدبير أمور الإنسان، فهي ضمان تحقيق الإشباع لجميع الحاجات الأساسية لكل فرد إشباعًا كليًّا، وتمكينه من إشباع الحاجات الكمالية بقدر ما يستطيع باعتباره يعيش في مجتمع معيَّن له طراز خاص من العيش.

وقبل بيان القواعد التي يقوم عليها النظام الاقتصادي في الإسلام لا بد من تقديم بعض التعريفات ذات الصلة بالموضوع:

إن الثروة هي مجموع المال والجهد.

المال هو كل ما يتموَّل للانتفاع به بالشراء أو الإجارة أو الهبة أو القرض أو الإعارة… ويشمل المال النقد كالذهب والفضة والدولار والجنيه والريال… والسلع كالثياب والأغذية… والعقارات كالدور والمصانع… وغير ذلك مما يتموَّل.

الجهد هو الجهد الفكري والجهد الجسمي الذي يبذل لإيجاد مال أو منفعة مال.

 المنفعة هي صلاحية الشيء لإشباع حاجة الإنسان.

يكون الانتفاع بالشيء إما باسـتهلاك عينه إفناءً كالتفاحة والرغيف. أو بعدم استهلاكها كالسيارة وكسكنى الدار.

قيمة الشيء أو السلعة هي مقدار ما فيها من منفعة، وهي شيء حقيقي لا يتغيَّر حسب الشخص، وشبه ثابت مع ملاحظة عامل الندرة، وهي غير الثمن.

ثمن الشيء أو السلعة هو أحد مقاييس القيمة بحسب تقدير المجتمع، وهو يعتمد على حقيقة القيمة، وعلى كثرة أو قلة العرض أو الطلب، وعلى الشخص.   [يتبع]

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *