العدد 435 -

السنة السابعة والثلاثون – ربيع الآخر 1444هـ – تشرين الثاني 2022م

اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان و(إسرائيل) هو اتفاق تطبيعي وجزء من خطة صياغة أمريكا للمنطقة

الوصول إلى مسودة الاتفاق:

تقوم الولايات المتحدة بالتوسط منذ عامين بين لبنان و(إسرائيل) للتوصل إلى اتفاق يهدف إلى ترسيم حدودهما البحرية وإزالة العقبات أمام التنقيب عن النفط والغاز. وقد شهدت المفاوضات في الفترة الأخيرة سرعة أملتها الحرب الروسية الأوكرانية، وحاجة السوق عالميًّا إلى استخراج الغاز والنفط من غير تأخير، فتوصلت أمريكا عبر وسيطها آموس هوكشتاين إلى مسودة اتفاق أعلن عنها في 10/10/2022م. وعن هذه المسودة صرح رئيس هيئة الأمن القومي (الإسرائيلي) إيال حولاتا في 11/10/2022م في بيان باللغة العربية فقال: «تمت تلبية جميع مطالبنا والتعديلات التي طلبناها قد قبلت. حافظنا على مصالح إسرائيل الأمنية. نحن في الطريق إلى اتفاق تاريخي»… ومن الجانب الآخر، صرح إلياس بو صعب مسؤول ملف المفاوضات عن الجانب اللبناني لرويترز بالقول: «تلقينا المسودة النهائية، ويشعر لبنان بأنها تأخذ في الاعتبار كل متطلباته، ونعتقد أن الطرف الآخر يجب أن يشعر بالمثل، وقال إنه يمكن أن تؤدي قريبًا إلى «اتفاق تاريخي». ويتوقع أن لا يتأخر التوقيع على الاتفاق رسميًّا عن انتهاء ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون، في آخر الشهر العاشر من هذا العام حتى يعتبر من إنجازاته، ولتضمن أمريكا التوقيع عليه.

(إسرائيل) هي المستفيد الأكبر من هذا الاتفاق

لا شك أن (إسرائيل) هي المستفيد الأكبر من هذا الاتفاق، فقد حصلت على حقل كاريش كاملًا من غير حرب. وهو حقل نفط وغاز طبيعي يحتوي على كميات تجارية، وهو يقع ضمن الخط اللبناني المعروف باسم «الخط 29»، بحسب خرائط الجيش اللبناني العام الماضي أي تابع للبنان؛ ولكن مسؤولي لبنان (ميشال عون ونجيب الميقاتي ونبيه بري) المختلفين على كل شيء وافقوا بالإجماع على اعتباره تابعًا لـ(إسرائيل) وإمضاء المسودة على ذلك؛ ما يدل على أن الأوامر الأمريكية بالموافقة قد أُمليت عليهم… ثم إن هذه الفترة من توقيع الاتفاق تعتبر تجاريًّا بالنسبة لـ (إسرائيل) ذهبية لاستخراج النفط والغاز بسبب حاجة أوروبا الماسة إليهما في ظل الحرب الروسية الأوكرانية… بينما يحتاج لبنان إلى سنوات حتى يتمكن من استخراج النفط من (حقل قانا) الذي لم تجرِ فيه أي عملية حفر أو تنقيب بعد ، ولا يعرف حتى الآن مدى ما يحتويه من كميات نفط أو غاز.

لولا موافقة حزب إيران لما حصلت الموافقة  على ترسيم الحدود البحرية

 يمكن القول إن حقل كاريش لم تكن (إسرائيل) لتأخذه لولا موافقة حزب إيران على مسوَّدة الاتفاق، وهذا الموقف من حزب إيران قد أراح أمريكا و(إسرائيل)، وجعل الاتفاق ناجزًا. هذا وقد حرص الحزب على إظهار أنه كان يراجع بنود الاتفاق نقطة نقطة، وأنه لولا تهديد حزب الله وصواريخه لما تم الاتفاق على هذا الشكل، وصوَّر حزب إيران هذا الاتفاق بأنه انتصار له… وهكذا تصور التنازلات والخيانات على أنها انتصارات!!.

تحوُّل الصراع مع (إسرائيل) من صراع على الوجود إلى صراع على الحدود

وبما أن لبنان يعتبر من البلدان التي هي في حالة حرب إقليمية ضد (إسرائيل)، وهذا الصراع يتصدر حزب إيران مشهده، ويحدد أبجديته، ويحصر خوض الصراع به وحده، ويصوِّر للناس أن صراعه مع (إسرائيل) هو صراع مبدئي، والنصر فيه إلهي، وأنه لا يعترف بـ(إسرائيل)؛ فإذا به يفاجئ الجميع بإعلانه أنه يقف خلف قرارات الدولة اللبنانية. وهو بهذا الموقف يعلن عن تحوُّل موقف حزب إيران من مسألة التطبيع، وتحوُّل طبيعة الصراع مع (إسرائيل) وهذا كله يتوافق مع سياسة أمريكا في المنطقة.

اتفاق الترسيم هو اتفاق تطبيعي

لقد حرصت أمريكا، الممسكة بالوضع اللبناني، على ربط حل بعض مشاكل لبنان بـ(إسرائيل)؛ فقد ربطت من قبل استجرار الغاز والنفط بكل من سوريا والأردن ومصر و(إسرائيل) لتأمين الكهرباء. وربطت حل مشكلة استخراج الغاز والنفط على سبيل مساعدة لبنان للخروج من أزمته الاقتصادية بتسوية النزاع على الحدود البحرية بين لبنان و(إسرائيل) وهو ما توصلت إليه من اتفاق ترسيم االحدود البحرية، وموضوع الترسيم يفتح باب التطبيع بين لبنان و(إسرائيل)، ويغلق باب الصراع. واللافت فيه هو دخول إيران وحزبها، وعلى المكشوف في جريمة التطبيع القذرة هذه… ومعلوم أن سياسة التطبيع جعلت عملية السلام تسير عكس ما كانت تسير عليه من قبل؛ إذ كانت محادثات الصلح تبدأ بين (إسرائيل) والجانب الفلسطيني ومن ثم تلحقه الدول العربية، والآن صار على العكس يبدأ مع الدول العربية دولة دولة؛ ليجبَر فيما بعد أهل فلسطين على اللحاق بها والصعود إلى عربتها، وهي خطة ترامب التي أسماها بـ (صفقة القرن) يريدون بذلك فرط قضية فلسطين، وأن لا تبقى تطرح كقضية مركزية، ولا كقضية أمة واحدة، ولا كقضية إسلامية جامعة…

اتفاق الترسيم هو جزء من الخطة الأمريكية لصياغة المنطقة

ولمن يتساءل: هل هذا يعني عند إيران أن لا مبرر لسلاح حزبها بعد هذا الاتفاق في لبنان، فإن الجواب هو أن إيران أداة بيد أمريكا وسلاح حزب إيران لم يكن يومًا للقضاء على (إسرائيل) وإنما هو أداة في خدمة السياسة الأمريكية في المنطقة، وكل مواقف حزب إيران ضد (إسرائيل) أو ضد أمريكا لا تعبر عن الحقيقة، وإنما الحقيقة هي أن إيران تابعة في سياستها الخارجية لأمريكا، منذ أيام الخميني، وأن مواقف إيران في المنطقة كل رياحها أمريكية من أفغانستان، إلى العراق، إلى اليمن، إلى سوريا، إلى لبنان، ودور حزب إيران كان رئيسيًا في دعم بقاء الأسد في الحكم. وفي لبنان قام حزب إيران وبتوجيه وبتعاون كامل مع إيران، بوضع يده على لبنان سياسيًّا وعسكريًّا لمصلحة أمريكا، ومنع (إسرائيل) من أن تفرض حلها على لبنان، وهو يساعد، بحسب التوجيهات الإيرانية له، وسواء أكانت قياداته تعلم ذلك أم لا، أمريكا لأن تكون صياغتها للمنطقة، ولبنان جزء منها، هي التي ستنفذ على أرض الواقع؛ فإيران تطمع بأن تكون رأس حربة في الصياغة الأمريكية الجديدة للمنطقة. إذًا فاتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان و(إسرائيل) هو اتفاق أمريكي ساهم في إنجاحه إيران وحزبها… والآن، لو عدنا إلى السؤال فإن جوابه هو أن حزب إيران سيبقى على سلاحه ما دامت الصياغة الأمريكية للمنطقة لم تكتمل بعد، وخاصة الجزء المتعلق بسوريا، وستبقى معه تصريحات حزب إيران المعادية لأمريكا ولـ(إسرائيل)؛ ولكن ليس من أجل القضاء عليها بل من أجل أن تصب في خدمة السياسة الأمريكية في سوريا فيأتي حاكم عليها، إن لم يكن بشارًا، فهو مثيله. والمتوقع أن قضية سوريا لن تحلها أمريكا إلا بعد أن تأتي بحكم عميل خالص لها، يسير كا سار غيره بالتطبيع مع (إسرائيل)، ويكون جزءًا من صياغتها للمنطقة.

ان اتفاق الترسيم هو جزء من الخطة الأمريكية لصياغة المنطقة، لذلك هشَّت وبشَّت له أمريكا، وعلى أعلى المستويات، وأكثر من (إسرائيل) كونه حقق لها الجزء المتعلق بالصياغة الأمريكية للبنان. وهو اتفاق المهم فيه إبرامه حتى تكون التحركات اللاحقة في إطاره، وسيشغل الناس بالوعود الاقتصادية التي ستمتد لخمس سنوات، وهي المدة التي ستستغرقها عملية البدء باستخراج النفط والغاز فيه، وأثناءه سيكمل صندوق النقد الدولي إجراءاته وضغوطه على الناس، والتي ستؤدي في نهايتها إلى القبض على الاقتصاد اللبناني كليًّا ورهن مقدراته وخاصة النفطية وجعلها بيده بحيث يبقى واقعًا تحت سندان ومطرقة سداد الديون لسنوات طويلة…

إن الإسلام يحرم الصلح مع يهود ويوجب على المسلمين إعادة فلسطين إلى دار الإسلام، أي الدولة الإسلامية، وما يتم الاتفاق عليه خارج الحكم الشرعي هو باطل ويأخذ حكم المعدوم بنظر الشرع. وإن اتفاق الترسيم هذا، هو كأي اتفاق آخر فُرض على الأمة بألاعيب الديمقراطية والقوانين الدولية، وهو كسائر اتفاقات (إسرائيل) المتعلقة بالقضية الفلسطينية… فكلها تعتبر اتفاقات غير معترف بها، ولا قيمة لها عند الأمة. وما يوقعه الحكام فليس بمعبر عن إرادة الأمة بل هو معبر عن إرادة دول الغرب التي ترعى هذه الاتفاقات لمصلحتها وتستعمل أدواتها من الحكام ليأخذ مشروعية استعمارها له… والغرب نفسه يعلم تمامًا أن هناك انفصالًا تامًّا بين الأمة وحكامها وما ثورات (الربيع العربي) عنا ببعيد. فالأمة لا يمثلها إلا المخلصون الواعون من أبنائها، ولا تعطي قيادها الحقيقي إلا لهم، والأمة لا تفكر بمجموعها إلا بما يرضي ربها، والتغيير قادم وتزيد سرعته، وكل شيء يشير إلى أن هذا الدين سيعود وسيستلم الحكم وسيحارب اليهود ويقضي على دولتهم ويفتح باب الجهاد على مصراعيه. ولقد جاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتؤكد هذا الأمر، وإن غدًا لناظره قريب. قال تعالى: (وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *