العدد 434 -

السنة السابعة والثلاثون، ربيع الأول 1444هـ الموافق تشرين الأول 2022م

مع القرآن الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم

 قال تعالى: (قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَةٞ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةٞ يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ ١٣) [آل عمران: 13] .

جاء في تفسير الشيخ محمد متولِّي الشعراوي (رحمه الله تعالى):

«وحين يقول الحق (قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ) فمن المخاطب بهذه الآية؟ لاشك أن المخاطب بهذه الآية كل من كانت حياته بعد هذه الواقعة، سواء كان مؤمنًا أم كافرًا، فالمؤمن تؤكد له أن نصر الله يأتي ولو من غير أسباب، والكافر تأتي له الآية بالعبرة في أن الله يخذله ولو بالأسباب، إن الله جعل من تلك الموقعة آية. والآية هي الشيء العجيب أَيْ إن واقعه ونتائجه لا تأتي وَفق المقدمات البشرية.

نعم هذا خطاب عام لكل من ينتسب إلى أيِّ فئة من الفئتين المتقاتلين، سواء كانت فئة الإيمان أم فئة الكفر. ففئة الإيمان لكي تفهم أنه ليست الأسباب المادية هي كل شيء في المعركة بين الحق والباطل؛ لأن لله جنودًا لا يرونها. وكذلك يخطئ هذا الخطاب فئة الكافرين فلا يقولون: إن لنا أسبابنا من عدد وعُدَّة قوية، فقد وقعت المعركة بين الحق والباطل من قبل؛ وقد انتصر الحق.

وكلمة «فِئَةٌ» إذا سمعتها تصورت جماعة من الناس ولكن لها خصوصية؛ فقد توجد جماعة ولكن لكل واحد حركة في الحياة. ولكن حين نسمع كلمة «فِئَةٌ» فهي تدل على جماعة، وهي بصدد عمل واحد. ففي غير الحرب كل واحد له حركة قد تختلف عن حركة الآخر؛ ولكن كلمة «فِئَةٌ» تدل على جماعة من الناس لها حركة واحدة في عمل واحد لغاية واحدة. ولاشك أن الحرب تصور هذه العملية أدق تصوير، بل إن الحرب هي التي تُوَحّد كل فئةٍ في سبيل الحركةِ الواحدة والعمل الواحد للغاية الواحدة؛ لأن كل واحد من أي فئة لا يستطيع أن يحمي نفسه وحده، فكل واحد يفيء ويرجع إلى الجماعة، ولا يستطيع أن ينفصل عن جماعته؛ ولكن الفرد في حركة الحياة العادية يستطيع أن ينفصل عن جماعته.

إذن فكلمة «فِئَةٌ» تدل على جماعة من الناس في عملية واحدة، وتأتي الكلمة دائمًا في الحرب لتصور كل معسكر يواجه آخر. وحين يقول الحق: (قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ) أي أن هناك صراعًا بين فئتين، ويوضح الحق ماهية كل فئة فيقول: (فِئَةٞ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةٞ) وحين ندقق النظر في النص القرآني، نجد أن الحق لم يورد لنا وصف الفئة التي تقاتل في سبيل الله ولم يذكر أنها فئة مؤمنة، وأوضح أن الفئة الأخرى كافرة، وهذا يعني أنّ الفئة التي تقاتل في سبيل الله لابد أن تكون فئة مؤمنة، ولم يورد الحق أن الفئة الكافرة تقاتل في سبيل الشيطان اكتفاء بأن كفرها لابد أن يقودها إلى أن تقاتل في سبيل الشيطان، لقد حذف الحق من وصف الفئة الأولى ما يدل عليه في وصف الفئة الثانية، وعرفنا وصف الفئة التي تقاتل في سبيل الله من مقابلها في الآية وهي الفئة الأخرى. فمقابل الكافرة مؤمنة، وعرفنا أيضًا أن الفئة الكافرة إنما تقاتل في سبيل الشيطان لمجرد معرفتنا أن الفئة الأولى المؤمنة تقاتل في سبيل الله. ويسمُّون ذلك في اللغة (احتباك). وهو أن تحذف من الأول نظير ما أثبتَّ في الثاني، وتحذف من الثاني نظير ما أثبتَّ في الأول، وذلك حتى لا تكرر القول، وحتى توضح الالتحام بين القتال في سبيل الله والإيمان، والقتال في سبيل الشيطان والكفر.
إذًا، فالآية على هذا المعنى توضح لنا الآتي: لقد كان لكم آية، أي أمر عجيب جدًا، لا يسير ولا يتفق مع منطق الأسباب الواقعية في فئتين، فعندما التقت الفئة المؤمنة في قتال مع الفئة الكافرة، استطاعت الجماعة المؤمنة المحددة بالغاية التي تقاتل من أجلها، وهي القتال في سبيل الله، أن تنتصر على الفئة الكافرة التي تقاتل في سبيل الشيطان.

وبعد ذلك يقول الحق: (يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ) فنحن أمام فئتين، فمن الذي يَرى؟ ومن الذي يُرى؟ ومن الرائي ومن المرئي؟ إن كان الرائي هم المؤمنين فالمرئي هم الكافرون. وإن كان الرائي هم الكافرين فالمرئي هم المؤمنون، ولنرَ الأمر على المعنيين: فإن كان الكافرون هم الذين يرون المؤمنين، فإنهم يرونهم مثليهم؛ أي ضعف عددهم، وكان عدد الكافرين يقرب من ألف. إذًا، فالكافرون يرون المؤمنين ضعف أنفسهم، أي ألفين. وقد يكون المعنى مؤديًا إلى أن المؤمنين يرون الكافرين ضعف عددهم الفعلي. وقد يؤدي المعنى إلى أن الكافرين يرون المؤمنين ضعف عددهم وكان عدد المؤمنين يقرب من ثلاثمائة وأربعة عشر، وضعف هذا العدد هو ستمائة وثمانية وعشرون مقاتلًا.

فإن أخذنا معنى (مِّثۡلَيۡهِمۡ) على عدد المؤمنين، فالكافرون يرونهم حوالى ستمائة وثمانية وعشرين مقاتلًا، وإن أخذنا معنى (مِّثۡلَيۡهِمۡ) على عدد الكافرين فالكافرون يرون المؤمنين حوالى ألفين. وما الهدف من ذلك؟ إن الحق سبحانه يتكلم عن المواجهة بين الكفر والإيمان؛ حيث ينصر الله الإيمان على الكفر. وبعض من الذين يتصيَّدون للقرآن يقولون: كيف يقول القرآن (يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ) وهو يقول في موقع آخر: (إِذۡ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلٗاۖ وَلَوۡ أَرَىٰكَهُمۡ كَثِيرٗا لَّفَشِلۡتُمۡ وَلَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ٤٣ وَإِذۡ يُرِيكُمُوهُمۡ إِذِ ٱلۡتَقَيۡتُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِكُمۡ قَلِيلٗا وَيُقَلِّلُكُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِهِمۡ لِيَقۡضِيَ ٱللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗاۗ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ ٤٤) [الأنفال: 43-44].

وهذه الآية تثبت كثرة، سواء كثرة المؤمنين أو كثرة الكافرين، والآية التي نحن بصدد تناولها بالخواطر الإيمانية تثبت قلة، والمشكِّكون في القرآن يقولون: كيف يتناول القرآن موقعة واحدة على أمرين مختلفين؟ ونقول لهؤلاء المشكِّكين: أنتم قليلو الفطنة؛ لأن هناك فرقًا بين الشجاعة في الإقبال على المعركة وبين الروح العملية والمعنوية التي تسيطر على المقاتل أثناء المعركة، والحق سبحانه قد تكلم عن الحالين: قلَّل الحق هؤلاء في أعين هؤلاء، وقلَّل هؤلاء في أعين هؤلاء؛ لأن المؤمنين حين يرَون الكافرين قليلًا فإنهم يتزودون بالجرأة وطاقة الإيمان ليحققوا النصر. والكافرون عندما يرَون المؤمنين قلة فإنهم يستهينون بهم ويتراخَون عند مواجهتهم؛ ولكن عندما تلتحم المعركة فما الذي يحدث؟ لقد دخلوا جميعًا المعركة على أمل القلة في الأعداد المواجِهة، فما الذي يحدث في أعصابهم؟ إن المؤمن يدخل المعركة بالاستعداد المكثَّف لمواجهة الكفار. وأعصاب الكافر تخور لأن العدد أصبح على غير ما توقَّع، إذًا فيقول الحق: (وَإِذۡ يُرِيكُمُوهُمۡ إِذِ ٱلۡتَقَيۡتُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِكُمۡ قَلِيلٗا وَيُقَلِّلُكُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِهِمۡ لِيَقۡضِيَ ٱللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗاۗ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ ٤٤) [الأنفال: 44]. يصور الحالة قبل المعركة؛ لأن الله لا يريد أن يتهيَّب طرف فلا تنشأ المعركة؛ لكن ما إن تبدأ المعركة حتى يقلب الحق الأمور على عكسها، إنه ينقل الشيء من الضد إلى الضد، ونقل الشيء من الضد إلى الضد إيذان بأن قادرًا أعلى يقود المشاعر والأحاسيس، والقدرة العالية تستطيع أن تصنع في المشاعر ما تريد. لقد قلَّل الحق الأعداد أولًا حتى لا يتهيَّبوا المعركة، وفي وقت المعركة جعلهم الله كثيرًا في أعين بعضهم البعض، فترى كل فئةٍ الطرف الآخر كثيرًا، فتتفجر طاقات الشجاعة المؤمنة من نفوس المؤمنين فيقبلون على القتال بحماسة، وتخور نفوس الكافرين عندما يواجهون أعدادًا أكثر مما يتوقعون. والحق سبحانه وتعالى

 يقول: (قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَةٞ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةٞ يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ ١٣) [آل عمران: 13].

إن هذه الأية هي خبر تبشيري لكل مؤمن بالنصر، وهي في الوقت نفسه خبر إنذاري لكل كافر بأن الهزيمة سوف تلحق به إن واجه الجماعة المؤمنة. فإياكم أن تقيِّموا الأمور بمقاييس الأسباب، فالأسباب المطلوبة منكم هي المقدور عليها للبشر، وعليكم أن تتركوا تتمة كل ذلك للقدر، فلا تخور الفئة المؤمنة أمام عدد كثير، ولا تغتروا معشر الكفار بأعدادكم الكثيرة؛ فالسابقة أمامكم تؤكد أن عددًا قليلًا من المؤمنين قد غلب عددًا كثيرًا من الكافرين.

ومن معاني الآية أيضًا أن الكافرين يرون المؤمنين مثلَي عدد الكافرين، أي ضعف عددهم. ومن معانيها ثالثًا أن الكافرين يرون المؤمنين ضعف عدد المؤمنين الفعلي. ومن معاني الآية رابعًا أن يرى المسلمون الكافرين مثلَيهم، أي مثل المؤمنين مرتين، أي ستمائة نفر وقليلًا، وحينئذ يكون عدد الكافرين في عيون المؤمنين أقل من العدد الفعلي لهؤلاء الكافرين. إذًا، فما حكاية (مِّثۡلَيۡهِمۡ) هذه؟ لقد وعد الله المؤمنين بنصره حين قال: (ٰيَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَى ٱلۡقِتَالِۚ إِن يَكُن مِّنكُمۡ عِشۡرُونَ صَٰبِرُونَ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ يَغۡلِبُوٓاْ أَلۡفٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَفۡقَهُونَ ٦٥) [الأنفال: 65]. والنسبة هنا أن المؤمن الواحد يخرج إلى عشرة من الكافرين فيهزمهم، ذلك وعد الله، وحين أراد الله التخفيف قال الحق: (ٱلۡـَٰٔنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمۡ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمۡ ضَعۡفٗاۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ صَابِرَةٞ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمۡ أَلۡفٞ يَغۡلِبُوٓاْ أَلۡفَيۡنِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ ٦٦) [الأنفال: 66]. لقد خفف الله النسبة، فواحد من المؤمنين يغلب اثنين من الكافرين. فالمؤمنون موعودون من الله بالغلبة حتى وهم ضعاف.

 والحق يقول في الآية المبشرة للمؤمنين، المنذرة للكافرين، والتي نحن بصددها الآن: (وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ). ونحن نسمع كلمة (عبرة) كثيرًا، والمادة المأخوذة منها تدل على الدخول من مكان إلى مكان، فقال عن ذلك (عُبور)، ونحن في حياتنا العادية نخصص في الشوارع أماكن لعبور المشاة، أي المسافة التي يمكن للمشاة أن ينفذوا منها من ضفة الشارع إلى الضفة الأخرى من الشارع نفسه. وعبور البحر هو النفاذ من شاطئ إلى شاطئ آخر. إذًا، فمادة (العبور) تدل على النفاذ من مكان إلى مكان، و(العَبرة) أي الدمعة لأنها تسقط من محلها من العين على الخد. و(العِبارة) أي الجملة التي نتكلم بها، فهي تنتقل من الفم إلى الأذن، وهي عبور أيضًا. و(العبير) أي الرائحة الجميلة التي تنتقل من الوردة البعيدة عن الإنسان قليلًا لتنفذ إلى أنفه. إذن فمادة (العبور) تدل على (النفاذ). وحين يقول الحق: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ) أي تنقلكم من أمر قد يخيفكم أيها المؤمنون لأنكم قليل، وهم كثير، إنها تنقلكم إلى نصر الله أيها المؤمنون، وتنقلكم أيها الكافرون إلى الهزيمة برغم كثرة عُدتكم وعَددكم. فالعبرة هي حدث ينقلك من شيء إلى شيء مغاير، كالظالم الذي نرى فيه يومًا، ونقول إن ذلك عبرة لنا، أي إنها نقلتنا من رؤيته في الطغيان إلى رؤيته في المهانة. وهكذا تكون العبرة هي العظة اللافتة والناقلة من حكم إلى حكم قد يستغربه الذهن، فتذييل هذه الآية الكريمة بهذا المعنى هو إيضاح وبيان كامل، فالحق يقول في بداية هذه الآية: (قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ) وتنتهي الآية بقوله: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ).

إذًا، فالعبرة شيء ينقلنا من أمر إلى أمر قد تستغربه الأسباب، وذلك إن كنت متروكًا لسياسة نفسك؛ لكن المؤمن ليس متروكًا لسياسة نفسه؛ لأن الله لو أراد أن يعذب الكفار بدون مواجهة المؤمنين وحربهم لعذبهم بدون ذلك؛ ولكن الله يريد أن يكون عذاب الكافرين بأيدي المؤمنين: (قَٰتِلُوهُمۡ يُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَيۡدِيكُمۡ وَيُخۡزِهِمۡ وَيَنصُرۡكُمۡ عَلَيۡهِمۡ وَيَشۡفِ صُدُورَ قَوۡمٖ مُّؤۡمِنِينَ١٤) [التوبة: 14]. ولو كان الله يريد أن يعذب الكافرين بغير أيدي المؤمنين لأحدث ظاهرة في الكون تعذبهم، كزلزال يحدث ويدمرهم، ولكن الله يريد أن يعذب الكافرين بأيدي المؤمنين: (وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ) و(الأيد) هو القوة، إذًا، فهو يريد منك فقط النواة العملية، ثم بعد ذلك يكملها الله بالنصر، (وأيَّده) أي قوَّاه، ويؤيد الله بنصره من يشاء، وتكون العبرة لأولي الأبصار.

وقد يقول قائل: أتكون العبرة لأولي الأبصار، أم لأولي البصائر؟ وهنا نقول: إن العبرة هنا لأولى الأبصار؛ لأن الأمر الذي تتحدث عنه الآية هو أمر مشهدي، أمر محسوس، فمن له عينان عليه أن يبصر بهما، فإذا كان التفكير والتدبُّر ليس أمرًا موهوبًا لكل مخلوق من البشر، فإن البصر موجود للغالبية من الناس، وكل منهم يستطيع أن يفتح عينيه ليرى هذا الأمر المشهدي. وإذا ما نظرنا إلى المعركة بذاتها وجدنا الدليل الكامل على صدق العبارة؛ فالمؤمنون قلة وعددهم معروف محدود، وعتادهم قليل، ولم يخرجوا بقصد حرب، إنما خرجوا لقصد الاستيلاء على العير المحملة بالأرزاق من طعام وكسوة تعويضًا عما اغتصبه المشركون من أموالهم في مكة، ولو أنّهم استولوا على العير فقط لما كان النصر عظيمًا بالدرجة التي كان عليها؛ لأن العِير عادة لا تسير بعتاد ضخم إنما تحفظ بالحراسة فقط. ولكن الله يريد لهم النصر على ذات الشوكة، أي الطائفة القوية المسلحة، لقد وعدهم الله بالنصر على إحدى الطائفتين: (وَإِذۡ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحۡدَى ٱلطَّآئِفَتَيۡنِ أَنَّهَا لَكُمۡ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَيَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَٰفِرِينَ٧) [الأنفال: 7].

لقد كان وعد الله أن ينصر المؤمنين على إحدى الطائفتين، والأمل البشرى كان يود الانتصار على الطائفة غير ذات الشوكة أي الطائفة غير المسلحة وهي العير، ولكن مثل هذا النصر لا يكون له دَوِيُّ النصر على الطائفة المسلحة، فقد كان من السهل أن يقال: إن محمدًا ومن معه تعرضوا لجماعة من التجار لا أسلحة معهم ولا جيش، ولكن الله يريد أن يجعل من هذه المعركة فرقانًا وأن يحق الحق.

إنكم أيها المؤمنون لم تخرجوا إلاَّ لِقصد العير أي لم يكن استعدادكم كافيًا للقتال، أما الكفار فقد جاؤوا بالنفير، أي بكل قوتهم، فقد ألقت مكة في هذه المعركة بأفلاذ أكبادها. وعندما يأتي النصر من الله للمؤمن في مثل هذه الموقعة فهو نصر حقيقي، ويكون آية غاية في العجب من آيات الله. وتصير عبرة للغير؛ لذلك نجد العجائب في هذه المعركة، معركة بدر. الغرائب أنك تجد الأخوين يكون لكل منهما موقف ومجابهة. وتجد الأب والابن لكل منهما موقف ومجابهة برغم عمق الصلة بينهما، فمثلًا ابن أبي بكر رضي الله عنه، وكان هذا الابن لم يسلم بعد، وكان في جانب الكفار، وأبوه الصِّديق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن أسلم ابن أبي بكر يحكي الابن لأبيه بشيء من الامتنان والبر: لقد تراءَيْت لي يوم بدر فزويت وجهي عنك. فيرد أبو بكر الرد الإيماني الصدِّيقي: والله لو تراءيتَ لي أنت لقتلتك. وكلا الموقفين منطقي، لماذا؟ لأن ابن أبي بكر حين يلتقي بأبي بكر، ويرى وجه أبيه، فإنه يقارن بين أبي بكر وبين ماذا؟ إنه يقارن بين أبيه وبين باطل، ويعرف تمام العلم أنه باطل، فيرجح عند ابن أبي بكر أبوه، ولذلك يحافظ على أبيه فلا يلمسه. لكنَّ أبا بكر الصديق حينما يقارن فهو يقارن بين الإيمان بالله وابنه، ومن المؤكد أن الإيمان يزيد عند الصِّديق أبي بكر، فلو رآه يوم بدر لقتله.

ولله حكمة فيمن قُتل على أيدي المؤمنين من مجرمي الحرب من قريش، ولله حكمة فيمن أبقى من الكفار بغير قتل؛ لأن هؤلاء مدَّخرون لقضية إيمانية كبرى سوف يبلون فيها البلاء الحسن. فلو مات خالد بن الوليد في موقعة من المواقع التي كان فيها في جانب الكفر لحزنا نحن المسلمين؛ لأن الله قد ادَّخره لمعارك إيمانية يكون فيها سيف الله المسلول، ولو مات عكرمة لفقدت أمة الإسلام مقاتلًا عبقريًّا. لقد حزن المسلمون في موقعة بدر لأنهم لم يقتلوا هؤلاء الفرسان؛ لأنهم لم يعلموا حكمة الله في ادِّخار هؤلاء المقاتلين؛ لينضموا فيما بعد إلى صفوف الإيمان. والله لم يمكِّن مقاتلي المسلمين يوم بدر من المحاربين الذين كانوا على دين قومهم آنئذٍ إلا لأن الله قد ادَّخرهم لمواقع إيمانية قادمة يقفون فيها، ويحاربون في صفوف المؤمنين وهذا نصر جديد.

ونرى أبا عزيز وهو شقيق الصحابي مصعب بن عمير الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبشر بدين الله، ويعلِّم أهل المدينة، وكان مصعب فتى قريش المدلل صاحب ترف، وأمه صاحبة ثراء، وبعد ذلك رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبس جلد شاة بعد أن كان يلبس الحرير، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: »انظروا إلى الإيمان ماذا فعل بصاحبكم.« والتقى مصعب في المعركة مع أخيه أبي عزيز، وأبو عزيز على الكفر، ومصعب رضي الله عنه مسلم يقف مع النبي صلى الله عليه وسلم، وحين يرى مصعب رضي الله عنه أخاه أبا عزيز وهو أسير لصحابي اسمه أبو اليسر، فيقول مصعب: يا أبا اليسر اشدد على أسيرك؛ فإن أمه غنية وذات متاع، وستفديه بمال كثير. فيقول له أخوه أبو عزيز: أهذه وصاتك بأخيك؟ فيقول مصعب مشيرًا إلى أبي اليسر: هذا أخي دونك.

كانت هذه هي الروح الإيمانية التي تجعل الفئة القليلة تنتصر على أهل الكفر، طاقة إيمانية ضخمة تتغلب على عاطفة الأخوة، وعاطفة الأبوة، وعاطفة البنوة. وقد جعل الله من موقعة بدر آية حتى لا يخور مؤمن وإن قلَّ عدد المؤمنين، أو قلَّت عُدّتهم، وحتى لا يغتر َّكافر، وإن كثر عددُ قومه وعتادهم. وقد جعلها الله آية للصدق الإيماني؛ ولذلك يقال: احرص على الموت توهب لك الحياة. وقد كانت القضية الإيمانية هي التي تملأ نفس المؤمن، إنَّها قضية عميقة متغلغلة في النفوس. ولماذا يتربص الكفار بالمؤمنين؟ إنهم إن تربصوا بهم، فسيدخل المؤمنون الجنة إن قُتِلوا أو ينتصرون على الكفار، وفي ذلك يقول الحق على لسان المؤمنين: (قُلۡ هَلۡ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلَّآ إِحۡدَى ٱلۡحُسۡنَيَيۡنِۖ وَنَحۡنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمۡ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٖ مِّنۡ عِندِهِۦٓ أَوۡ بِأَيۡدِينَاۖ فَتَرَبَّصُوٓاْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ٥٢) [التوبة: 52]. فالظفر هنا بأحد أمرين: إما النصر على الكافرين، وإما الاستشهاد في سبيل الله، ونيل منزلة الشهداء في الجنة وكلاهما جميل. والمؤمنون يتربَّصون بالكافرين، إما أن يصيب الله الكفار بعذاب من عنده، وإما أن يصيبهم بأيدي المؤمنين. إنها معادلة إيمانية واضحة جلية.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *