العدد 431 -

السنة السابعة والثلاثون – ذو الحجة 1443هـ – تموز 2022م

تجديد الدين

يوسف الساريسي – بيت المقدس

لقد جعل الله تعالى في حياة الجماعات البشرية سننًا ونواميس تحفظها من الفساد كسنة التدافع وتداول الأيام بين الناس، وسنة تعجيل إهلاك الباغي المتجبِّر، وسنة كون النهضة لا تكون إلا بالفكر … وغيرها. وجعل سبحانه وتعالى كذلك سننًا خاصة بأمة الإسلام تحافظ على بقاء دين الإسلام وحفظه، فيكون دينه الخاتم هذا دينًا صحيحًا وصالحًا لكل زمان ومكان، ويكون دينًا ظاهرًا على كل الأديان والمبادئ، فكان من نعم الله الكثيرة على أمة الإسلام أنه سبحانه تولَّى حفظ كتابها ودينها من التحريف، وجعل فيها في كل عصر طائفة ظاهرة على الحق، فمن أراد الحق وجده عند تلك الطائفة، وبالتالي فلا يخلو أي عصر من دعاة للحق يكونون شهداء على الناس. وكذلك كان من نعم الله تعالى على المسلمين صونًا لدينهم أنه يبعث على رأس كل مئة سنة من يجدِّد لهذه الأمة دينها، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو داود: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»، فيقوم المجدد بتجديد أمر الدين، فيبيِّن الفهم الصحيح للإسلام، ويزيل عنه ما علق به مما ليس منه، ويجتهد لحل أكبر المشكلات التي تواجه المسلمين. فكانت هذه النعمة من أعظم النعم على المسلمين بفضل الله ومنَّه؛ ليبقى هذا الدين حجة على العالمين إلى يوم القيامة بوصفه الدين الخاتم، وتكون أمة الإسلام شاهدة على باقي الأمم.

وهنا لا بد أن يرد السؤال: لم يحتاج الدين إلى التجديد؟ والجواب على ذلك أن الإسلام دين يطبقه الناس في حياتهم، بما فيها من سنة التدافع بين الأفكار الإسلامية وغيرها، وإفراط وتفريط في التطبيق، وبما فيها من وقائع تستجدُّ تحتاج لإنزال الأحكام الشرعية عليها، الأمر الذي ينتج عنه احتمال دخول أفكار غريبة على الإسلام نتيجة التدافع، وضعف الفهم نتيجة الإفراط والتفريط، وانفكاك ارتباط الوقائع بالأحكام الشرعية إن لم يحصل الاجتهاد فيها… وهذه العوامل – إن طال عليها الأمد – أنتجت جمودًا وانفصالًا بين الإسلام وبين الواقع، مما يستدعي المداومة على التجديد.

وقبل أن نبدأ بمناقشة معنى التجديد وواقعه، سنبدأ أولًا بالتعرض لفكرة انبعاث مشروع تجديد الدين في العصر الحديث عند بعض مفكري المسلمين، والتي يظهر بأن الدافع لوجودها عندهم ليس دافعًا إسلاميًا، بل هو تقليد للغرب في الأساس؛ حيث افتُتِن المسلمون بأمم أوروبا الرأسمالية منذ بداية القرن التاسع عشر، وقلَّدوهم في كل شيء، وكان من جملة ذلك أمر تجديد وإصلاح الدين؛ لذلك نرى أنه من المستحسن أن نعرج قليلًا على تاريخ نشأة فكرة الإصلاح والتجديد لدى أوروبا النصرانية قبل عصر النهضة لنرى ما فعلته بهم وبأمر دينهم، فتكون لنا فيهم عبرة!

نشوء فكرة الإصلاح والتجديد في أوروبا

كانت أوروبا قبل القرن السادس عشر الميلادي ترزح تحت استبداد الكنيسة الكاثوليكية، الأمر الذي دفعَ للثورة وقيام حركات الإصلاح في أوروبا، من بروتستانتية إلى علمانية إلى ثورات حقيقية على القياصرة والملوك كالثورة الفرنسية، والتي انتهت بتغيير الفكر وأنظمة الحكم في أوروبا.

وقد نادى القس الألماني مارتن لوثر بالإصلاح الديني في بداية القرن السادس عشر بدعوى إصلاح الكنيسة الكاثوليكية من سلطة تفسير الدين والعصمة عن الخطأ وصكوك الغفران التي كان محصورة في بابا الفاتيكان في روما، وقد نادى لوثر بضرورة إعادة فهم العهد الجديد أي الإنجيل والعهد القديم أي التوراة وفق رؤية جديدة، وهذه كانت بداية فكرة التجديد الديني للنصرانية في أوروبا، ثم نشأ عن دعوته تلك المذهب البروتستانتي، وبذلك انقسمت النصرانية إلى ثلاث فرق هي الأرثوذوكسية الشرقية والكاثوليكية البابوية الغربية والبروتستانتية. وقد تولَّدت عن هذا المذهب البروتستانتي الجديد كنائس نصرانية لا حصر لها، كل لها عقيدتها وتشريعاتها ومنهجها الديني المستقل، وبذلك تشظَّت الكنيسة النصرانية الغربية إلى طوائف وكنائس متعددة ومتناحرة فيما بينها، ومرجع ذلك إلى فكرة الإصلاح الديني اللوثرية.

وقد تقبَّلت الكنيسة البروتستانتية – فيما بعد – فكرة العلمانية الجديدة التي نشأت في أوروبا بعد الصراع بين رجال الدين والملوك والقياصرة من جهة والمفكرين والفلاسفة من جهة أخرى، بعد أن ثاروا على فكرة الحق الإلهي واستبدلوا بها فكرة الحق الطبيعي وضرورة فصل الدين عن الحياة أي العلمانية. وكان أول من تقبل فكرة فصل الدين عن الدولة هي الكنيسة البروتستانتية في بريطانيا بعد ثورة كرومول سنة 1680م، وبذلك نشأت جذور المبدأ الرأسمالي الجديد والعلمانية من بريطانيا.

ابتداع فكرة التطور في أوروبا

بعد أن تخلَّت أوروبا عن الدين وفصلته عن الحياة، كان لا بد لها من وضع تشريعات وقوانين بعيدًا عن الدين، وقد أخذ الأوروبيون عن الإغريق والرومان ما يسمى بالقانون الطبيعي بدل تشريعات الكنيسة، وواقع القوانين الطبيعية أنها ثابتة ولا تتغير، في حين أن القوانين التي يشرعونها يضطرون باستمرار إلى تغييرها وترقيعها وأقلمتها مع الواقع.

وهذا الأمر أحدث مشكلة عندهم لأن القوانين البشرية (الديمقراطية) متغيرة حسب أهواء البشر ومصالحهم، وهذا يناقض قوانين الطبيعة الثابتة. وكان لا بد من تبرير لهذا الأمر بزعم أن الطبيعة نفسها تحوي قانونًا للتطور؛ ولذلك اخترعوا أو ابتدعوا فكرة خيالية سموها التطوُّر واعتبروها قانونًا في الطبيعة؛ حيث زعم منظِّرو التطوُّر بأنه لا بد للقانون والنظام البشري أن يتطوَّر؛ لأن هذا هو قانون الطبيعة في الأصل، وهي في تغيُّر وتطوُّر دائمين، فيجب أن تتلاءم القوانين التي يشرِّعونها مع ما يستجدُّ من ظروف ووقائع، والأنظمة التي لا تتطور مع مرور الزمن، سيؤدي تراكم المشكلات أمامها إلى عجزها عن مسايرة الواقع فتصبح جامدة وفاشلة، وبالتالي فهناك حاجة مستمرة إلى استبدال قوانين عصرية متطوِّرة ومتحضِّرة بها!!    

ولأن العلم التجريبي عند الغرب هو أساس الصحة والصلاح، فقد استغلَّ الأوروبيُّون علم الحياة لإثبات دعوى التطور وأنه قانون طبيعي في حياة الكائنات الحية. فنشأت مدرسة التطوُّر الطبيعي في فرنسا على يد جورج دي بوفون، ثم ابتدع داروين في إنجلترا نظرية التطوُّر (النشوء والارتقاء)، بعد أن دمج في نظريته بين أفكار مدرسة الوضع الطبيعي وأفكار مدرسة التطور الطبيعي.

وعليه عندما يدَّعي واضعو الأنظمة الرأسمالية وكذلك الاشتراكية، بأن التطوُّر والتقدُّم والتجدُّد هي من قوانين الطبيعة ولا بد منها، وهي التي تبقي الأنظمة والأفكار حيَّة تنمو وتتطوَّر، ومن لا يتطوَّر فإنه سينقرض ويفنى حتمًا، بناء على نظرية داروين… هذا الادِّعاء هو تعبير عن الفشل ولكن باستخدام ألفاظ ملتوية، فإذا كان القانون والنظام لا يصلح ولا يستطيع معالجة المشاكل والوقائع التي وجد من أجل حلِّها، فهو قانون ونظام فاشل وفاسد. وما قيام واضعيه بعمليات تغيير في أسسه وتفصيلاته تحت شعار التطوُّر والتحديث، إلا محاولات لإخفاء هذا الفساد والفشل تحت شعار التطوُّر والحداثة.

مع أنهم لو تفكَّروا عميقًا لوجدوا أن معيار صلاح ونجاح أي نظام أو قانون هو قدرته على حلِّ المشكلات بواسطة قواعده وأسسه التي قام عليها، وإذا استجدَّت مع الوقت وتغيُّر الظروف قضايا ووقائع جديدة، واستطاع هذا النظام والقانون علاجها دون الخروج عن هذه القواعد والأسس، فإنه يعتبر ناجعًا، أما إذا لجأ القائمون عليه إلى محاولات متعسِّفة لتغييره وتكييفه وفق الظروف المستجدَّة، بالقيام بتأويلات فاسدة للقانون فيخرجون عن أسسه وقواعده، فينحرف عن مقاصده ومعاييره، فهذا يدل على فساد وفشل هذا القانون في حلِّ المشكلات المستجدة.

وعليه فدعوى التطوُّر والتجديد هي محاولة للتهرُّب من نتائج الفساد والفشل في الأنظمة والقوانين، وفقًا للمعيار الذي يحدِّد بأن صلاحية الأنظمة والقوانين هو قدرتها على إيجاد حلول ناجعة للمشاكل، وليس بناء على قدرتها على التلوُّن والتمطُّط والترقيع تحت عنوان التطور الزائف.

نشوء تيار الإصلاح و»التجديد» عند المسلمين

غزت فرنسا بقيادة نابليون مصر سنة 1798م ثم فلسطين وانسحب منهما سنة 1801م، وتولَّى بعدها محمد علي باشا حكم مصر، وكان من أعماله أن أوفد نخبة من شباب مصر ليتعلموا من علوم أوروبا، والذين عاد بعضهم مضبوعًا بالأفكار الأوروبية الجديدة من ديمقراطية وحريات وأنظمة رأسمالية، بعدما انبهروا بتقدم أوروبا الصناعي والحضاري، وقد قاموا بنشر هذه الأفكار الجديدة في مصر وما جاورها، وكان من رموز هذا التيار رفاعة الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي وخير الدين التونسي وغيرهم.

وكان من رجْعِ وجود تيار جديد ينادي ويدعو إلى تقليد أوروبا في حضارتها وأنظمتها، أن نشأ تيار آخر ينادي بالتوفيق بين الإسلام والحضارة الغربية وهو تيَّار المدرسة الإصلاحية، وكان على رأس هذا التيَّار جمال الدين الأفغاني؛ حيث بدأ يبث أفكار التجديد والإصلاح بين المسلمين. وقد تأثَّر بالأفغاني جماعة من علماء الأزهر وأبرزهم محمد عبده الذي أصبح شيخًا للأزهر، الذي كان من تلاميذه محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار، ثم استمرَّ هذا التيَّار الإصلاحي الوسطي – الذي يحاول التوفيق بين الحضارة والمبدأ الرأسمالي وبين حضارة الإسلام ومبدئه – وانتشر على شكل حركات وجماعات وأفراد في مختلف بلاد المسلمين.

ومن أبرز ما تنادي به المدرسة الإصلاحية عند المسلمين فكرة التجديد والإصلاح الديني. وهذه الفكرة – إذا تعمقنا فيها جيدًّا- نجد أنها تشابه ما قام به نصارى أوروبا حين نادَوا بفكرة الإصلاح الديني، والتي كان من أبرز نتائجها قبولها بالعلمانية وفصل الدين عن الحياة. فقد عمدت المدرسة الإصلاحية إلى أخذ ما عند الغرب من ديمقراطية في الحكم ومن نظام اقتصادي رأسمالي وتغليف هذه الأمور بغلاف شرعي تحت غطاء فكرة التجديد والتوفيق؛ ولكن هذا التيَّار الإصلاحي لم يوافق – بشكل صريح – على فكرة العلمانية – كما حصل عند البروتستانت في أوروبا – وإنما أراد الاستفادة مما عند الغرب من أنظمة في الاقتصاد والحكم، فيما يحتفظ بعقائد الإسلام وعباداته وأخلاقه.

وقد حاول الإصلاحيون تجديد الدين من خلال البحث في شريعة الإسلام عن أمور تجيز الأخذ بما عند الغرب من أنظمة وأفكار، فوجدوا أحاديث للرسول عليه الصلاة والسلام تنص على التجديد، فكان ذلك وأمثاله مدخلًا لهم لتغيير أمور في الدين لتوافق ما عند الغرب تحت ستار الإصلاح والتجديد. ثم عمد هؤلاء إلى أصول الفقه فوجدوه منغلقًا دونهم حائلًا دون قبول الأنظمة الغربية؛ لكنهم بحثوا ونقَّبوا حتى وجدوا ثغرة ينفذون من خلالها، ألا وهي فكرة تأويل مقاصد الشريعة والمصالح المرسلة بشكل يستساغ معه قبول «الانتفاع» بما عند الغرب من أمور متعلقة بالاقتصاد والحكم، باعتبار أن الحضارة الغربية هي مقياس التحضُّر والتطوُّر والحكمة، ولا بد من أن تتوافق أحكام الإسلام معها.

هذا سردٌ تاريخيٌّ سريعٌ لنشوء فكرة تجديد الدين، وهي محاولة تشبه إلى حدٍّ ما، بما حدث في الغرب المسيحي للاستفادة من تجربته؛ ولكن هذا الأمر هو دخول في جحر الضب الذي دخله نصارى أوروبا وأثمر لديهم علمانية وإلحادًا وعقائد منحرفة وفرقًا دينية جديدة لا يجمع بينها شيء. فهل نحن المسلمون نقبل بأن نستنسخ تلك التجربة المدمرة لدين النصرانية، فنطبقها على دين الإسلام، ثم ندَّعي أنه تجديد للدين؟!

التجديد في خضم حرب الأفكار

في بداية القرن الحالي تبنَّت أمريكا بوصفها قائدة الحضارة الرأسمالية الغربية مواجهة الإسلام تحت ذريعة محاربة الإرهاب؛ حيث دعا وزير دفاعها رامسفيلد سنة 2003م إلى تشكيل وكالة جديدة في مواجهة ما أسماه حرب الأفكار، وهي حرب قديمة متجدِّدة؛ وذلك للتعامل بفاعلية أكبر مع تهديدات القرن الحادي والعشرين. وكذلك نشر الكاتب الأمريكي توماس فريدمان مجموعة مقالات حول حرب الأفكار؛ حيث رأى أن الحرب يجب أن تكون داخل المجتمعات الإسلامية، وذلك من خلال تعزيز المعتدلين ليقوموا بهذه المهمات نيابة عن الغرب للتخلُّص من أفكار التطرُّف والعنف والإرهاب.

وبما أن التوجه الإسلامي يزداد قوة في الأمة، وأن عملية استئصاله تبدو مستحيلة؛ حيث أحسَّ الغرب الرأسمالي بما يسعى المسلمون الواعون المخلصون إلى تحقيقه اليوم من تجديد بالدعوة لإقامة الخلافة، وبخطورة هذا التوجه عند الأمة عليه، في ظل تراجع للغرب وتقدم للإسلام في الصراع الحضاري، ورأى الغرب أن الأنظمة الحالية في بلادنا قد استُهلِكتْ، وعُدمت الثقة بينها وبين شعوبها. فهو إذًا يرى أنه لا بد أن يتدارك الأمر قبل أن يصل الإسلام إلى السلطة؛ ولذلك عمد إلى التعامل مع الإسلام. فأراد أن يكون التجديد على طريقته في إذابة الدين وتطويره واللعب في فهم نصوصه. والغرب يحاول إفراغ الإسلام من مضامينه التي يصارع فيها ويتحدَّى حضارة الغرب خصوصًا في السياسة والاقتصاد والحكم.

وقد رست دعوته مؤخَّرًا على شاطئ محاربة الإسلام السياسي (الإسلاموي) وبالدعوة إلى أن الإسلام هو مجرد دعوة خلقية تعبدية شعائرية. لا دولة فيه ولا شريعة ولا سياسة ولا جهاد. وهذه الدعوة هي على النقيض من الدعوة إلى تجديد الدين بحسب المفهوم الشرعي. فالنموذج الذي يتبنَّاه الغرب الكافر لإبعاد المسلمين عن إقامة الخلافة والحكم بما أنزل الله هو نموذج (الإسلاموية)؛ حيث وضع الغرب ضغوطًا ضخمة على الحركات الإسلامية من أجل الإعلان عن تخلِّيها عن العمل السياسي الإسلامي، وتهديدها بالاستئصال، والسماح لها بالعمل الخيري والخلقي والتعبُّدي فقط، تحت ذريعة أنه لا سياسة في الإسلام.

وسياسة الكافر المستعمر في مواجهة الإسلام هي إيجاد أدوات تتجاوب مع سياسته، وتحاول أن تضع للإسلام قواعد وأصولًا جديدة تحت اسم تجديد الدين، وهذا التجديد المزعوم له طروحات كتجديد أصول الدين، الحاجة إلى فقه جديد. الواقعية أو فقه الواقع، فقه الضرورات، فقه الموازنات، أخفُّ الضررين، مرونة الإسلام، ودعوى تجديد الدين باستغلال مقاصد الشريعة بطريقة ملتوية وغير منضبطة بأصول الفقه الصحيحة، وكذلك دعوى القراءة المعاصرة للنص الديني.

الابتداع والتجديد

كان من جراء سيطرة مفاهيم الغرب في هذا العصر عند المسلمين حصول خلط بين مفهومين شرعيين، وهما: مفهوم التجديد ومفهوم الابتداع، فهما مفهومان تناولهما الإسلام بالبحث فلا يجوز الخلط بينهما. فالتجديد هو مما أقره الإسلام ودعا إليه، أما الابتداع، فقد نهى الإسلام عنه واعتبره ضلالة، والفرق بين المفهومين يتضح بمراجعة الأدلة، فحديث «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها»، لا يجوز أن يُحتجَّ به بعيدًا عن النصوص الأخرى المتعلقة بهذا الباب، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: «وإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» وقوله: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».

أما الابتداع فيكون على شكلين: فمن أحدث وأثبت أمرًا مما لم يثبته الشرع فقد ابتدع، مصداقًا لقوله عليه الصلاة والسلام: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، ومن أنكر ما أثبته الشرع فقد ابتدع مصداقًا لقوله تعالى: (أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضٖۚ). فالابتداع هو تغيير في الدين بالإحداث فيه وبالزيادة عليه مما ليس منه، فمفهوم البدعة هو التغيير بالزيادة أو بالنقصان – ولكنها تكون غالبًا بالزيادة – على الأمور التي وردت بها كيفيات شرعية محددة (طريقة)، وتكون بشكل خاص في العبادات كالصلاة والحج. فصلاة المغرب ثلاث ركعات ومن زاد عليها برابعة أو خامسة فهو مبتدع وفعله محرَّم، والتباعد في صلاة الجماعة بدعوى وجود مرض الكورونا هو بدعة محرمة لأنها تغيير في الكيفية الشرعية لاستواء ورص الصفوف، وتعذيب الجسد والحرمان من التمتع بالطيبات بهدف سمو الروح هي فكرة مبتدعة مأخوذة من الفلسفة الهندية.

ومن الابتداع محاولة الإتيان بأدلة مستحدثة في علم أصول الفقه كإدخال المنفعة والضرر الرأسماليان تحت غطاء درء المفاسد وجلب المصالح، ومن يريد إدخال أنظمة الكفر الغربية الحديثة إلى الإسلام تحت غطاء مقاصد الشريعة ليُلبِّس على الناس دينهم فقد ابتدع. فالابتداع في العصر القديم كان بالزيادة على الدين مما ليس منه، أما الابتداع في العصر الحديث فيتم بالانتقاص من الدين وخصوصًا نظامه السياسي والاقتصادي.

أما تجديد الدين فهو واقع ومطلب شرعي، يحدث كل قرن من الزمان، ينفي عن هذا الدين كل خبث، ويزيل كل ما علق به مما ليس منه، ويعيد ما نقص منه، فيعيده المجدِّد تمامًا كما أنزل على الرسول عليه الصلاة والسلام. فلا يقصد بتجديد الدين الإتيان بجديد لا أصل له في الإسلام، فالإتيان بجديد مما ليس من أمر الإسلام هو إحداث في الدين وهو مذموم، وهذا يدل على أن المراد بالتجديد هو إحياء ما مات، وبناء ما اندرس، وإزالة ما زاد. أو هو تنقية الفكرة الإسلامية وبلورتها وتصفيتها كي يصلح الإنهاض بها.

إن من أحد أهم الأمور التي يتناولها التجديد هو تحديد البدع المحدثة المحرمة، التي استحدثت عبر العصور الإسلامية المختلفة وإزالتها؛ لأنها بدع علقت بالدين وهي ليست منه. أما إذا كانت المحدثات ليس مما ينطبق عليها قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» بأن كانت من أمر الإسلام ولا تخالفه وكان لها أصل، فهي بحسب مفهوم المخالفة ليست مردودة بل مقبولة لأنها من أمر الإسلام. فهي ليست بدعًا محرمة بل هي محدثات حسنة، ويمكن تسميتها مجازًا بــــ«البدعة الحسنة». وهذه المحدثات التي من جنس أمر الإسلام تدخل تحت باب التجديد، فهي تجديد مستحسن ويندرج تحتها السنن الحسنة في الإسلام.

فيلحق بالتجديد مفهوم السنن الحسنة في الإسلام، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من سنَّ في الإسلام سنَّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أجورهم …» رواه مسلم، والمقصود من سنَّ من الأعمال المحمودة مما أمر الله به، وإن لم يكن لها مثال موجود على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ومن هذا الباب قول عمر رضي الله عنه عن صلاة التراويح جماعة: نعمت البدعة هذه. وكون العمل حسنًا أو قبيحًا إنما يعرف من جهة الشرع، تشهد له أدلة من الشرع وإلا كان بدعة مذمومة.

والفرق بين التجديد والسنن الحسنة في الإسلام، أن الذي يسنُّ سنَّة حسنة فهو يقوم بعمل مطلوب شرعًا، لم يحدد له الشرع كيفية وهيئة خاصة؛ ولكنه يقوم به بطريقة معيَّنة تشجع الناس على الاقتداء به في عمل الخير. في حين إن التجديد يشمل السنن الحسنة ويزيد على ذلك بأنه يشمل إحياء ما مات من السنن، وإزالة ما زاد من بدع، بالإضافة إلى حلِّ ما استعصى عليهم من إشكاليات جديدة وقضايا مستحدثة.

ومن التجديد الذي يلزم المسلمين بشكل دائم، هو أن تتم معالجة أهم القضايا التي تهم أمة الإسلام في ذلك العصر، وتكون بحاجة إلى حلول تجديدية حسنة، ومن أمثلة ذلك فكرة الخراج التي عمل بها سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه، فقد أدرك أنه لا بد من وجود مورد إضافي وثابت لبيت المال للأعطيات وللإنفاق على مصالح الدولة والجيوش، ولإطعام الفقراء إلخ. ومن الأمثلة كذلك ما قام به الإمام الشافعي من وضع علم أصول الفقه بسبب حاجة المسلمين له آنذاك بعد اتساع الشقة والخلاف بين فقه الإمام أبي حنيفة وفقه الإمام مالك، وحدوث إشكاليات لا بد لها من علاج من خلال قواعد وأصول للفقه الإسلامي. ومن الأمثلة على التجديد فكرة «الوقف» التي أحدثها المسلمون لتمويل حاجات جماعة المسلمين والفروض الكفائية التي خوطبوا بها، حيث يقف الأغنياء بعض العقارات والأراضي والأموال كصدقات جارية للمنافع العامة للمسلمين. [راجع مجلة الوعي العدد 407 / آب 2020، موضوع «من فقه التجديد»]

ولتمييز الابتداع من التجديد، لا بد لكل فكرة تجديدية من أصل في الشريعة، فعمل سيدنا عمر بالخراج استند فيه لآية من القرآن: (وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعۡدِهِمۡ) أي أن للمسلمين الذين جاؤوا بعد الفاتحين سهم في الفيء أي في ملكية الأراضي الخراجية، وقبل منه الصحابة ذلك. والأوقاف الخيرية أصلها حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية …» فالأوقاف تدخل باب الصدقة الجارية. وعلم أصول الفقه له أصل في الكتاب والسنة وآثار الصحابة وعند الفقهاء، والشافعي رحمه الله جاء فجمع هذه القواعد والأصول ورتبها ووسَّع عليها وأوجد علمًا جديدًا. فجميع المحدثات التي لها أصل في الشريعة وتقع تحت مفهوم المخالفة لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما ليس منه» بأن تكون منه، أي لها أصل فهي محدثة مقبولة وهي أمر تجديدي مستحسن، والجديد فيها أنها تواكب النوازل وحاجات المسلمين وقضاياهم، ويتم إيجاد حلٍّ تجديديٍّ لها من الشريعة وفق الأصول المعتبرة المتصلة بالوحي، لا تلك التي لا أصل لها، أو التي تستند إلى ثغرات في ظنيات الأصول كالمصالح ومقاصد الشريعة، وهي بالأساس حلول متأثرة بغير الإسلام، وبالتالي فهي لا تندرج تحت مسمى التجديد الشرعي، بل هي من الابتداع.

ومما يلزم المسلمين في هذا العصر من أمور تجديدية مستحسنة، هو السعي لحل زعزعة الثقة بأفكار الإسلام وأحكامه التي أوجدتها الحضارة الغربية بعد الغزو الفكري للمسلمين، خصوصًا في مجال السياسة والاقتصاد والحكم، فكان لا بد من مجدد مجتهد للاضطلاع بهذه المهمات الجسام في هذا العصر.

علاقة التجديد بدعوى التطوًّر

بسبب الخطورة البالغة لشيوع نظرة إيجابية لمصطلح «التطوُّر» عالميًّا بما في ذلك عند المسلمين، لا بد لنا من تبيان التلبيس والزيغ في هذا المصطلح واستبداله بمصطلح آخر يكون مناسبًا وحقيقيًّا، والتوقف عن استخدام هذا المصطلح المتوهَّم.

التطوُّر هو انتقال الشيء من طور إلى طور، وهو يعني تغير الشيء بشكل تدريجي إلى الأفضل والأحسن، والتطوُّر يقرن عند الغرب بالحداثة والحضارة والتقدم، فالتحديث والتحضُّر هي ألفاظ قريبة من معنى التطوُّر إن لم تكن تطلق على ذات المعنى، أي هي من مرادفات لفظة التطوُّر عندهم، وتطوير الدين يعني تغييره بشكل يواكب الحضارة والحداثة وإزالة ما يعيق انتقاله إلى الأفضل.

أما التجديد فهو جعل الشيء جديدًا، أي إعادته على الصورة التي كان عليها عند أول صناعته، فتجديد الثوب يعني إصلاحه وإزالة ما علق به بشكل يعود وكأنه جديد، وتجديد الآلة يعني تنظيفها وأصلاحها لتعود لأداء وظيفتها التي صنعت من أجلها وكأنها آلة فاعلة جديدة، وهكذا. فالتجديد هو إعادة الشيء إلى أصله وحاله الأول ليقوم بوظيفته التي وُجد من أجلها.

والفرق بين التطوير والتجديد من زاوية فكرية، أن التطوير لا يقصد منه المحافظة على جوهر الشيء واعادته كما كان في الأصل، بل يقصد به تغيير الشيء بشكل يواكب الحضارة الحديثة وإزالة الأفكار التي تعيق هذا التغيير والانتقال إلى الحداثة المتطوِّرة، حتى لو تمَّ تغيير جوهر ذلك الشيء وأصله. وأما التجديد فيكون بإصلاح الشيء وإزالة ما علق به مما ليس منه مع المحافظة على أصله وجوهره.

فيكون معنى تطوير الدين هو تغيير أفكاره التي هو عليها بشكل يواكب الحضارة والحداثة وإزالة ما يعيق انتقاله إلى الأفضل، وبالتالي يتمُّ إدخال بعض الأفكار إلى الدين حتى ولو خالفت أصوله؛ لأنها متحضِّرة وحديثة فيتطور بها. أما تجديد الدين فيعني إحسان فهم الدين وإعادته كما نزل به الوحي، بناء على إدراك واقع النصوص الشرعية بشكل صحيح، وإزالة ما علق به من أمور تضعف فهمه وليست منه. فهي عملية تنقية للفكرة وبلورة وتصفية للدين من عوامل التغشية والتحريف والتشويه.

ويطلق مصطلح التطوُّر من قبل بعض الناس ويراد به الإحسان والتحسين، أي بمعنى الإجادة في فهم الأشياء والظواهر والجودة في إتقان الصناعات؛ ولكن هذا المعنى هو خلط مفهوم الإحسان بمفهوم التطوير؛ لأن الإحسان قد يكون في القديم وقد يكون في الجديد، أما التطوُّر فلا بد أن يكون الجديد فيه أحسن وأفضل من القديم؛ لأن التطور هو انتقال من حال إلى حال أفضل.

فنظرية التطوُّر في الغرب تفترض بأن كل شيء جديد هو متطوِّر، وهو أفضل من القديم، وهي تفترض عدم وجود انتكاس في التاريخ؛ ولكن الواقع وحقائق التاريخ تخبرنا بأن الإحسان والتحسين قد يكون في القديم وقد يكون في الجديد، ولا علاقة للإحسان بالزمن القديم ولا بالجديد، فالإحسان له علاقة بكيفية الفهم والأداء للأمور، فعلوم اللغة وأصول الدين والفقه هي علوم قديمة ولا يوجد من علماء اليوم من يقترب أو يداني القدماء الذين أبدعوا في هذه العلوم وأحسنوا فهمها والتأليف فيها.

وأما خلط مسألة التطوُّر بالصناعات الحديثة، فالتطوُّر فيها ناتج عن وجود مبدأ جديد في أوروبا نتج عنه نهضة في جميع المجالات ومنها العلوم والصناعات ولا علاقة لذلك بالزمن والتطور الزمني، بدليل أن العلوم عند المسلمين كانت متقدِّمة ومتطوِّرة؛ ولكنها انتكست وتأخَّرت مع انحطاط الفكر عند المسلمين.

فلا بد لنا من نبذ استخدام مصطلح «تطوُّر» واستخدام مصطلح أفضل وأدق وأصدق وهو مصطلح «الإحسان».

متى يلزم التجديد أو التطوير؟

عندما تتراكم المشكلات في مجتمع ما وتعجز الأنظمة والقوانين عن حلها وتتراكم القضايا بعضها فوق بعض بلا مخرج، يبحث الناس عن أسباب تعقُّد تلك المشكلات؛ فيجدون المخرج بتجديد أو تطوير هذه الأنظمة والقوانين، وكذلك يحدث فيما يتعلق بالأفكار والمفاهيم المجتمعية.

وهذا صحيح إذا كانت تلك الأنظمة والقوانين والمفاهيم لا تنبثق من قاعدة فكرية قطعية وصحيحة بأن كانت مجموعة من التشريعات والأنظمة والمفاهيم التي تواضع عليها البشر من عند أنفسهم، وفي هذه الحالة هناك مبرِّر للقيام بالتطوير والتحديث في هذا الفكر وهذه التشريعات بحثًا عن حلول أفضل لعلاج مشاكل الإنسان ومفاهيم أرقى تواكب الحضارة والحداثة والتقدم. أما إذا كان هذا الفكر وهذه التشريعات منبثقة من قاعدة فكرية قطعية وصحيحة بأن كانت دينًا ربانيًا من لدن خالق الإنسان، فلا يصلح معه التطوير والتغيير ويصلح معه التجديد فقط.

فالإسلام هو دين الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو من عند خالق الإنسان وهو أعلم بما يصلح لهؤلاء الناس من أفكار وأنظمة وتشريعات، فلا يجوز للبشر المسُّ بأصول هذا الدين وجوهره ولا ما جاء به من أحكام شرعية؛ لأن كل ذلك يعتبر جزءًا من الوحي الربَّاني؛ ولذلك فالتطوير والتحديث لا مجال له في دين الإسلام لأنه دين رباني من لدن الحكيم الخبير.

وما يزيدنا اصرارًا على عدم حاجة دين الإسلام للتطوير، أن ما يهدف إليه من ينادون به هو إدخال أفكار من الحضارة الرأسمالية الغربية إلى الإسلام، تحت شعار التحضُّر والتحديث والتطوير، وهي في حقيقتها تقليد أعمى للحضارة المتغلِّبة، رغم أن تلك الحضارة الرأسمالية ومبدأها هي من وضع البشر، فهي قطعًا معرَّضة لكل أنواع الزلل والخلل ثم النقص والقصور، هذا بالإضافة إلى فساد تلك الحضارة في أسسها وقاعدتها الفكرية، ويضاف إلى ذلك فشلها في التطبيق العملي، وما جرَّته على العالم من نتائج كارثية وإجرام في حق الشعوب والأمم غير الأوروبية.

أما لماذا يلزم تجديد الدين، مع أنه دين ربَّاني لا يتغيَّر ولا يتطوَّر؟ فالجواب عليه هو أن التجديد لا يتعلق بتغيير النصوص الدينية من كتاب وسنة، ولا يتعلق كذلك بتغير اللغة العربية ولا بتطوُّرها. بل مردُّ ذلك – كما ذكرنا في المقدمة – أن الإسلام دين يطبقه الناس في حياتهم، فيحصل التدافع بين الأفكار الإسلامية وغيرها، وإفراط وتفريط في التطبيق، ووقائع تستجد تحتاج لإنزال الأحكام الشرعية عليها، الأمر الذي قد ينتج عنه احتمال دخول أفكار غريبة على الإسلام، وضعف الفهم نتيجة الإفراط والتفريط، وانفكاك ارتباط الوقائع بالأحكام الشرعية، وهذه العوامل إن طال عليها الزمن أنتجت انفصالًا بين الإسلام وبين الواقع، مما يستدعي المداومة على التجديد.

أما بالنسبة لتغيُّر اللغة العربية، فاللغات تختلف وتتنوَّع وتتغيَّر عبر الأزمنة، وهذا من سنن الله تعالى في اللغات قال تعالى: (وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ)، فاللغة العربية التي نزل بها الوحي ليست ذاتها لغة العرب اليوم، بل طرأ عليها تغيُّرات واختلفت عبر العصور وأصبحت مجموعة من اللهجات العامية، ولا يقصد بالتجديد في اللغة العمل على إعادة العرب للتكلم باللغة الفصحى لغة قريش التي نزل بها الوحي، فإن هذا درب صعب جدًّا فوق كونه غير مطلوب شرعًا، وإنما المطلوب هو أن نفهم نصوص الوحي بالأداة التي نزلت بها وهي لغة العرب في حينه، وأي تغيُّر طرأ عليها بعد انقطاع الوحي لا حجة به ولا يُلتفت إليه.

فالتجديد إذن يكون بإعادة الفهم اللغوي الصحيح للنصوص الشرعية الذي طرأ عليه عند العرب تغيُّر واختلاف منذ انقطاع الوحي حتى يومنا هذا؛ ذلك أن الخطاب الشرعي المعتبر هو ذلك الخطاب الذي نزل به الوحي وخوطب به العرب حسب فهمهم كعرب لتلك النصوص، وهذا الفهم لا يجوز أن يتطوَّر ويتغيَّر مع الزمن، بل يجب المحافظة عليه تمامًا كما كان قبل انقطاع الوحي. لذلك كان على المجدِّد والمجتهد والمفسِّر والفقيه وكل علماء الشريعة إتقان اللغة واللسان الذي تكلمت به قريش والعرب وقت تنزُّل الوحي، كي يكون كل منهم قادرًا على الفهم الصحيح لمراد الشرع من كلامه.

وقد قام علماء اللغة في القرون الأولى – مع بداية ما يسمى بفساد اللسان – بتتبع قبائل العرب الفصيحة وتدوين وكتابة اللغة العربية والشعر العربي الذي هو ديوان العرب، وقاموا بإيجاد معارف لغوية لازمة للفهم كعلوم البلاغة والنحو والصرف وفقه اللغة والإملاء والرسم والمعاجم وغيرها؛ ولذلك فقد كفانا علماء اللغة وعلماء الإسلام عناء هذا الأمر، والمطلوب هو دراسة تلك العلوم والاعتماد عليها في فهم النصوص الشرعية، كي يكون فهمنا لها كما فهمها صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الإحسان المطلوب.

والتجديد كذلك يكون بفهم الوقائع التي نزلت عليها الأحكام الشرعية قبل انقطاع الوحي أي فهم المناط، فقد يكون فهم النص الشرعي عند الفقيه أو المجتهد صحيحًا لا غبار عليه، حسب قواعد الفهم اللغوي والشرعي لتلك النصوص؛ ولكن قد تكمن المشكلة لديه في فهم وتمييز الواقع الذي تعلَّق به النص، فيحدث الخلل عندما تنزل تلك النصوص على غير واقعها ومناطها الشرعي؛ ولأجل ذلك كتب العلماء في أسباب نزول القرآن وفي أسباب ورود الحديث وكتبوا في المغازي والسير؛ لأن ذلك يُعِين في فهم واقع النصوص.

ويكون التجديد في هذا الأمر بتتبع الأماكن والآثار والظروف المناخية والشروط الطبيعية التي كانت سائدة زمن تنزُّل الوحي، وهذا الجهد يمكن التجديد فيه بشكل كبير، ومن فوائده مثلًا معرفة الموازين والمكاييل الشرعية كمقدار الصاع والدينار الشرعي والذراع والقُلَّة… إلخ، ومعرفة أدوات القتال والحرب والملابس وأدوات الطعام التي كانت مستخدمة، وكيفية البناء في المدن والقرى وآبار المياه وأساليب الزراعة والصناعة، ومثل هذا يفيد في فهم الكثير من الأمور كالسفر الشرعي وأحكام المياه والطرق والبناء وحق الشفعة وغيرها، وهذه كلها تعين المجتهد والفقه في تحقيق المناط وفهم الوقائع التي نزلت عليها النصوص الشرعية.

وإنه من الإجرام ما يحدث في بلاد الحرمين من تدمير للآثار الإسلامية بحجج واهية، فيقومون بهدم الآثار الإسلامية الهامة كبيت النبيِّ وبيوت الصحابة والمساجد الأثرية وغيرها، فهذه جرائم بحق المسلمين وتاريخهم، والمطلوب هو المحافظة على جميع الآثار الإسلامية خصوصًا تلك التي كانت موجودة زمن الوحي لما لها من تعلُّق بالوقائع التي نزلت بشأنها النصوص الشرعية، والتي تساعدنا في فهم وجه من أوجه مناط الأحكام الشرعية وفهم سيرة النبيِّ عليه الصلاة والسلام وتاريخ المسلمين.

فالتجديد المطلوب من المسلمين اليوم هو فهم الإسلام كما كان – وهو جديد – زمن تنزُّل الوحي على رسول الله عليه الصلاة والسلام. وتجديده يكون بالالتزام بضوابط شرعية وعقلية معيَّنة بهدف إحسان فهم النصوص الشرعية وفهم مناط الأحكام التي تعلَّقت بها هذه النصوص وتنزيلها على الوقائع الجديدة التي تطابق ذات الوقائع التي نزلت عليها النصوص. وإذا حدثت وقائع جديدة ليست لها أحكام شرعية تناولها الفقهاء السابقون، يقوم المجتهدون والفقهاء بالاجتهاد لاستنباط أحكام شرعية للمستجدات وفق ضوابط علم أصول الفقه.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *