العدد 430 -

السنة السابعة والثلاثون، ذو القعدة 1443هـ، حزيران 2022م

مع القرآن الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم

(فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ
بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ)

( لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٢٥٦ ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٥٧)  [البقرة: 256-257].

 

مما جاء في تفسير ابن كثير لهاتين الآيتين:

يقول تعالى: (لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ) أي: لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بيِّن واضح جليَّةٌ دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونوَّر بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهًا مقسورًا. وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار، وإن كان حكمها عامًا.

ونقل ابن جرير عن… ابن عباس، قال: كانت المرأة تكون مقلاتًا (لا يعيش لها ولد) فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده، فلما أُجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل الله عز وجل: (لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ ) وقد رواه أبو داود والنسائي جميعًا … ورواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه… وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم: أنها نزلت في ذلك .ونقل محمد بن إسحاق عن… ابن عباس قوله: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصيني، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلًا مسلمًا فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستكرههما، فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك.

وقوله: (فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي: من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله، ووحَّد الله فعبده وحده وشهد أن لا إله إلا هو (فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ) أي: فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم. قال أبو القاسم البغوي: حدثنا أبو روح البلدي حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم، عن أبي إسحاق عن حسان هو ابن فائد العبسي قال: قال عمر t: إن الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال، يقاتل الشجاع عمن لا يعرف ويفرُّ الجبان من أمه، وإن كرم الرجل دينه، وحسبه خلقه، وإن كان فارسيًّا أو نبطيًّا. وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث الثوري. ومعنى قوله في الطاغوت إنه الشيطان قوي جدًّا، فإنه يشمل كل شر ٍّكان عليه أهل الجاهلية، من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها.

وقوله: (فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ ) أي: فقد استمسك من الدين بأقوى سبب، وشبَّه ذلك بالعروة الوثقى التي لا تنفصم فهي في نفسها محكمة مبرمة قوية وربطها قوي شديد؛ ولهذا قال: (فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ونقل عن مجاهد أن العروة الوثقى هي الإيمان. وعن السدي هي الإسلام. وعن سعيد بن جبير والضحاك يعني لا إله إلا الله. وعن أنس بن مالك هي القرآن. وعن سالم بن أبي الجعد قال: هو الحب في الله والبغض في الله… قال ابن كثير: وكل هذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها.

وقال معاذ بن جبل في قول : (لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ ) أي: لا انقطاع لها دون دخول الجنة. وأخرج الإمام أحمد عن محمد عن قيس بن عباد قال: كنت في المسجد، فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع، فدخل فصلى ركعتين أوجز فيهما، فقال القوم: هذا رجل من أهل الجنة. فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله، فدخلت معه فحدثته، فلما استأنس قلت له: إن القوم لما دخلتَ قِبل المسجد قالوا كذا وكذا. قال: سبحان الله، ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم، وسأحدثك لمَ: إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه: رأيت كأني في روضة خضراء – قال ابن عون: فذكر من خضرتها وسعتها – وسطها عمود حديد، أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي: اصعد عليه فقلت: لا أستطيع. فجاءني منصف قال ابن عون: هو الوصيف، فرفع ثيابي من خلفي، فقال: اصعد، فصعدت حتى أخذت بالعروة فقال: استمسك بالعروة. فاستيقظت، وإنها لفي يدي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه. فقال: «أما الروضة فروضة الإسلام، وأما العمود فعمود الإسلام، وأما العروة فهي العروة الوثقى، أنت على الإسلام حتى تموت”. قال: وهو عبد الله بن سلام. أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الله بن عون وأخرجه البخاري من وجه آخر،  عن محمد بن سيرين به.

وقوله: (ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ٢٥٧) يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام، فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير، وأن الكافرين إنما وليُّهم الشياطين تزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات، ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك (أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ) ولهذا وحَّد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات؛ لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة، وكلها باطلة كما قال: (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٥٣) [الأنعام: 153] وقال تعالى: (وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَۖ )[الأنعام: 1] وقال تعالى:(عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَٱلشَّمَآئِلِ) [النحل: 48] إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق، وانتشار الباطل وتفرُّده وتشعُّبه.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن ميسرة حدثنا عبد العزيز بن أبي عثمان عن موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد قال: يبعث أهل الأهواء (أو قال: يبعث أهل الفتن) فمن كان هواه الإيمان كانت فتنته بيضاء مضيئة، ومن كان هواه الكفر كانت فتنته سوداء مظلمة، ثم قرأ هذه الآية: (ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ٢٥٧).

ومما جاء من ظلالٍ في تفسير سيِّد قطب لهاتين الآيتين:

إن قضية العقيدة – كما جاء بها هذا الدين – قضية اقتناع بعد البيان والإدراك، وليست قضية إكراه وغصب وإجبار. ولقد جاء هذا الدين يخاطب الإدراك البشري بكل قواه وطاقاته. يخاطب العقل المفكر، والبداهة الناطقة، ويخاطب الوجدان المنفعل، كما يخاطب الفطرة المستكِنَّة. يخاطب الكيان البشري كله، والإدراك البشري بكل جوانبه، في غير قهر حتى بالخارقة المادية التي قد تلجأ مشاهدها إلجاء إلى الإذعان، ولكن وعيه لا يتدبرها وإدراكه لا يتعقلها لأنها فوق الوعي والإدراك. وإذا كان هذا الدين لا يواجه الحس البشري بالخارقة المادية القاهرة، فهو من باب أولى لا يواجهه بالقوة والإكراه ليعتنق هذا الدين تحت تأثير التهديد أو مزاولة الضغط القاهر والإكراه بلا بيان ولا إقناع ولا اقتناع.

كانت المسيحية – آخر الديانات قبل الإسلام – قد فرضت فرضًا بالحديد والنار ووسائل التعذيب والقمع التي زاولتها الدولة الرومانية بمجرد دخول الإمبراطور قسطنطين في المسيحية. بنفس الوحشية والقسوة التي زاولتها الدولة الرومانية من قبل ضد المسيحيين القلائل من رعاياها الذين اعتنقوا المسيحية اقتناعًا وحبًّا! ولم تقتصر وسائل القمع والقهر على الذين لم يدخلوا في المسيحية، بل إنها ظلت تتناول بضراوة المسيحيين أنفسهم الذين لم يدخلوا في مذهب الدولة وخالفوها في بعض الاعتقاد بطبيعة المسيح!.

فلما جاء الإسلام عقب ذلك جاء يعلن – في أول ما يعلن – هذا المبدأ العظيم الكبير: لا إكراه في الدين. قد تبين الرشد من الغيِّ. وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان واحترام إرادته وفكره ومشاعره، وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد، وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه… وهذه هي أخص خصائص التحرُّر الإنساني… التحرر الذي تنكره على الإنسان في القرن العشرين مذاهبُ معتسِّفة ونظمٌ مذِلَّة، لا تسمح لهذا الكائن الذي كرمه الله – باختياره لعقيدته – أن ينطوي ضميره على تصور للحياة ونظمها غير ما تمليه عليه الدولة بشتى أجهزتها التوجيهية، وما تمليه عليه بعد ذلك بقوانينها وأوضاعها: فإما أن يعتنق مذهب الدولة هذا –  وهو يحرمه من الإيمان بإله للكون يصرِّف هذا الكون – وإما أن يتعرض للموت بشتى الوسائل والأسباب!… والإسلام – وهو أرقى تصور للوجود وللحياة، وأقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مراء – هو الذي ينادي بأن لا إكراه في الدين، وهو الذي يبين لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين. فكيف بالمذاهب والنظم الأرضية القاصرة المعتسِّفة، وهي تُفرَض فرضًا بسلطان الدولة، ولا يسمح لمن يخالفها بالحياة؟!.

والتعبير هنا يرد في صورة النفي المطلق: لا إكراه في الدين: نفي الجنس كما يقول النحويون، أي: نفي جنس الإكراه. نفي كونه ابتداء، فهو يستبعده من عالم الوجود والوقوع. وليس مجرد نهي عن مزاولته. والنهي في صورة النفي – والنفي للجنس – أعمق إيقاعًا وآكد دلالة. ولا يزيد السياق على أن يلمس الضمير البشري لمسةً توقظه، وتشوِّقه إلى الهدى، وتهديه إلى الطريق، وتبين حقيقة الإيمان التي أعلن أنها أصبحت واضحة وهو يقول: قد تبيَّن الرشد من الغيّ. فالإيمان هو الرشد الذي ينبغي للإنسان أن يتوخَّاه ويحرص عليه. والكفر هو الغيُّ الذي ينبغي للإنسان أن ينفر منه ويتَّقي أن يوصَمَ به. والأمر كذلك فعلًا. فما يتدبر الإنسان نعمة الإيمان، وما تمنحه للإدراك البشري من تصور ناصع واضح، وما تمنحه للقلب البشري من طمأنينة وسلام، وما تثيره في النفس البشرية من اهتمامات رفيعة ومشاعر نظيفة، وما تحققه في المجتمع الإنساني من نظام سليم قويم دافع إلى تنمية الحياة وترقية الحياة، ما يتدبر الإنسان نعمة الإيمان على هذا النحو حتى يجد فيها الرشد الذي لا يرفضه إلا سفيه، يترك الرشد إلى الغي، ويدع الهدى إلى الضلال، ويؤثر التخبط والقلق والهبوط والضآلة على الطمأنينة والسلام والرفعة والاستعلاء!. ثم يزيد حقيقة الإيمان إيضاحًا وتحديدًا وبيانًا: فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها إن الكفر ينبغي أن يوجه إلى ما يستحق الكفر، وهو «الطاغوت». وإن الإيمان يجب أن يتجه إلى من يجدر الإيمان به وهو «الله».

والطاغوت صيغة من الطغيان، تفيد كل ما يطغى على الوعي، ويجور على الحق، ويتجاوز الحدود التي رسمها الله للعباد، ولا يكون له ضابط من العقيدة في الله، ومن الشريعة التي يسنها الله، ومنه كل منهج غير مستمَدٍّ من الله، وكل تصور أو وضع أو أدب أو تقليد لا يستمد من الله. فمن يكفر بهذا كله في كل صورة من صوره ويؤمن بالله وحده ويستمد من الله وحده فقد نجا.. وتتمثل نجاته في استمساكه بالعروة الوثقى لا انفصام لها.
وهنا نجدنا أمام صورة حسية لحقيقة شعورية، ولحقيقة معنوية.. إن الإيمان بالله عروة وثيقة لا تنفصم أبدًا .. إنها متينة لا تنقطع، ولا يَضلُّ الممسك بها طريق النجاة… إنها موصولة بمالك الهلاك والنجاة… والإيمان في حقيقته اهتداء إلى الحقيقة الأولى التي تقوم بها سائر الحقائق في هذا الوجود، حقيقة الله… واهتداء إلى حقيقة الناموس الذي سنَّه الله لهذا الوجود، وقام به هذا الوجود. والذي يمسك بعروته يمضي على هدى إلى ربه، فلا يرتطم، ولا يتخلَّف، ولا تتفرق به السبل، ولا يذهب به الشرود والضلال.

(وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع منطق الألسنة، ويعلم مكنون القلوب. فالمؤمن الموصول به لا يبخس ولا يظلم ولا يخيب.

 (ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٥٧) ثم يمضي السياق يصور في مشهدٍ حسيٍّ حيٍّ متحركٍ طريقَ الهدى وطريقَ الضلال؛ وكيف يكون الهدى وكيف يكون الضلال… يصوِّر كيف يأخذ الله – ولي الذين آمنوا – بأيديهم، فيخرجهم من الظلمات إلى النور. بينما الطواغيت – أولياء الذين كفروا – تأخذ بأيديهم فتخرجهم من النور إلى الظلمات! إنه مشهدٌ عجيب حيٌّ موحٍ، والخيال يتبع هؤلاء وهؤلاء، جيئة من هنا وذهابًا من هناك، بدلًا من التعبير الذهني المجرَّد، الذي لا يحرِّك خيالًا، ولا يلمس حسًّا، ولا يستجيش وجدانًا، ولا يخاطب إلا الذهن بالمعاني والألفاظ. فإذا أردنا أن ندرك فضل طريقة التصوير القرآنية، فلنحاول أن نضع في مكان هذا المشهد الحي تعبيرًا ذهنيًّا أيًّا كان. لنقل مثلًا :الله ولي الذين آمنوا يهديهم إلى الإيمان .والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يقودونهم إلى الكفران… إن التعبير يموت بين أيدينا، ويفقد ما فيه من حرارة وحركة وإيقاع! وإلى جانب التعبير المصوّر الحي الموحي نلتقي بدقة التعبير عن الحقيقة: (ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ٢٥٧) إن الإيمان نور، نور واحد في طبيعته وحقيقته… وإن الكفر ظلمات، ظلمات متعددة متنوعة؛ ولكنها كلها ظلمات. وما من حقيقة أصدق ولا أدق من التعبير عن الإيمان بالنور، والتعبير عن الكفر بالظلمة. إن الإيمان نور يُشرق به كيان المؤمن أول ما ينبثق في ضميره .تُشرق به روحه، فتشفُّ وتصفو وتشعُّ من حولها نورًا ووضاءةً ووضوحًا… نور يكشف حقائق الأشياء، وحقائق القيم، وحقائق التصورات، فيراها قلب المؤمن واضحة بغير غبش، بيِّنة بغير لبس، مستقرة في مواضعها بغير أرجحة؛ فيأخذ منها ما يأخذ ويدع منها ما يدع في هوادة وطمأنينة وثقة وقرار لا أرجحة فيه… نور يكشف الطريق إلى الناموس الكوني فيطابق المؤمن بين حركته وحركة الناموس الكوني من حوله ومن خلاله؛ ويمضي في طريقه إلى الله هيِّنًا ليِّنًا لا يعتسف ولا يصطدم بالنتوءات، ولا يخبط هنا وهنا. فالطريق في فطرته مكشوف معروف. وهو نور واحد يهدي إلى طريق واحد .فأما ضلال الكفر فظلمات شتى منوعة: ظلمة الهوى والشهوة، وظلمة الشرود والتيه، وظلمة الكبر والطغيان، وظلمة الضعف والذلة، وظلمة الرياء والنفاق، وظلمة الطمع والسعر، وظلمة الشك والقلق… وظلمات شتى لا يأخذها الحصر تتجمع كلها عند الشرود عن طريق الله، والتلقِّي من غير الله، والاحتكام لغير منهج الله… وما يترك الإنسان نور الله الواحد الذي لا يتعدد، نور الحق الواحد الذي لا يتلبس، حتى يدخل في الظلمات من شتى الأنواع وشتى الأصناف، وكلها ظلمات! والعاقبة هي اللائقة بأصحاب الظلمات: ( أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا) وإذ لم يهتدوا بالنور، فليخلدوا إذًا في النار! إن الحق واحد لا يتعدد والضلال ألوان وأنماط… فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *