العدد 339 -

السنة التاسعة والعشرون ربيع الثاني 1436هـ – شباط 2015م

مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته

مقتطفات من كتاب  التيسير  في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته

 ( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)    ).

جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه

عطاء بن خليل أبو الرشته

أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:

  1. بعد أن ردّ الله سبحانه ادّعاءهم حول إبراهيم ويعقوب – عليهما السلام – وبيّن بطلان قولهم إنهما يهود أو نصارى – وذلك في الآيات السابقة – فإن الله سبحانه بعد ذلك قد ردّ دعوتهم إلى دينهم، فهو محرَّف باطل وذلك أنهم كانوا يقولون: اليهود تقول اتّبعوا ديننا فهو الأفضل، والنصارى تقول اتّبعوا ديننا فهو الأفضل، فردّ الله عليهم دعواهم تلك بأنها باطلةٌ وأوحى إلى نبيه محمّد صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم بل الحق أن نتبع ملة إبراهيم – عليه السلام – الذي كان تاركاً لكلّ دينٍ باطلٍ ومائلاً عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق والذي لم يكن عليه السلام من المشركين.

وفي هذا تعريض باليهود والنصارى بأن دينهم باطلٌ، وأنهم مشركون حيث قد حرفوا دينهم  ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) المائدة/آية13. وكذلك نسبوا لله ولداً سبحانه وتعالى عما يصفون  ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ).

وروى ابن جرير عن عبد الله بن صوريا الأعور قال للنبي  صلى الله عليه وسلم : ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمّد تهتدِ. وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله  ( قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) فهو ردّ على قولهم ذاك وبيان بطلانه، وفيه كذلك دلالة الإشارة أن إبراهيم ليس يهودياً ولا نصرانياً، فملته غير ملتهم.

 ( حَنِيفًا ) مائلاً عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق، وسمي إبراهيم \  ( حَنِيفًا ) لأنه حنِفَ إلى دين الله الحق فأسلم وجهه لله سبحانه.

وأصل (الحَنَف) الميل، ومنه (رجل حنفاء) و(رجُل أحنف) وهو الذي تميل قدماه كل واحدة إلى أختها بأصابعها.

  1. ثم يخاطب الله المؤمنين بأن يؤمنوا بالله وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وبما أنزل على موسى وعيسى وعلى كلّ نبي بدون تفريق بينهم في النبوة، فلا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعض كما يفعل اليهود والنصارى، بل نؤمن بهم جميعاً ونسلم لله خاضعين طائعين له سبحانه.

فإن آمن اليهود والنصارى مثل هذا الإيمان أي بالله وجميع رسله وبما أنزله على رسله فإنهم يكونون بذلك من المهتدين، وأما إن أعرضوا عن ذلك وآمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، وآمنوا ببعض ما أنزل الله وبدَّلوا وغيَّروا بعضه الآخر كما هم يفعلون، فإنهم لن يضروك شيئاً – وهو خطاب للرسول  صلى الله عليه وسلم  – وسيمكنك الله من رقابهم فالله سميعٌ لما يقولونه من افتراء عليه سبحانه، وعليمٌ بما يخفونه من كيدٍ للإسلام والمسلمين.

وقد أنجز الله وعده لرسوله  صلى الله عليه وسلم  فمكَّنَه من أعدائه وبخاصة يهود، وكان ذلك في عقاب بني قينقاع، وقتل قريظة، وإجلاء بني النضير، والقضاء على كيان يهود خيبر، وغيرهم من أعدائه صلوات الله وسلامه عليه.

 ( بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا )  ( أُنْزِلَ ) يُعَدَّى بحرفي الجر (إلى) و(على) فهو هنا  ( أُنْزِلَ إِلَيْنَا ) وهو في الآية الأخرى  ( وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا   ) آل عمران/آية84  ( قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) آل عمران/آية84.

 ( وَالْأَسْبَاطِ ) جمع (سِبط) و(السِّبْط) هو الحفيد والمراد بهم أبناء يعقوب وذراريهم، فأبناء يعقوب هم حفدة لإبراهيم وإسحاق، والذراري حفدة لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولذلك قيل عن الحسن والحسين – عليهما رضوان الله – إنهما سبطا رسول الله  صلى الله عليه وسلم .

 ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ ) (الفاء) للتعقيب أي ترتيب ما بعدها على ما قبلها، و(الباء) زائدة على نحو قوله سبحانه  ( وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا ) يونس/آية27 أي مثلها. وعليه يكون المعنى (فإن آمنوا مثل إيمانكم فقد اهتدوا)، أي فإن آمنوا بكل ما آمنتم به بالله ورسله وما أنزل على رسله، وليس أن يؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض، بل بكلّ ما آمنتم به.

 ( وَإِنْ تَوَلَّوْا  ) أي وإن أعرضوا فلم يؤمنوا بكلّ ما آمنتم به.

 ( فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ) أي فما هم إلا في خلاف وعداوة وليسوا من طلب الحق في شيء.

 ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ  ) أي سيكفيك شقاقهم فإن الكفاية لا تتعلق بالأعيان بل بأفعال الأعيان، أي سيكفيك عداوتهم بأن يمكنك من رقابهم، فقد أنجز الله وعده وقضى على كيان يهود ونصر الله رسوله والحمد لله رب العالمين.

  1. ثم يبين الله سبحانه أن هذا الإيمان الذي ذكره في الآية السابقة هو صبغة الله التي تطهر المؤمنين من رجس الكفر وأدرانه، وأن لا صبغة أحسن منها فهي حلية المؤمن وزينته والتي تدفعه لعبادة الله وحده طاعة لله سبحانه وشكراً على نعمه.

 ( صِبْغَةَ  ) الصبغة من صبغ على وزن جِلْسَة من جلس على وزن فِعْلَة وهي الهيئة التي يقع عليها الصبغ كما في جِلْسة للهيئة التي يقع عليها الجلوس، واستعملت (الصِّبغة) هنا استعمالاً مجازياً لعلاقة المشابهة للدلالة على الإيمان، فهو يطهر صاحبه من أدران الكفر ويعطيه وصفاً جديداً طيباً بسبب الإيمان كالثوب يغسل وينظف من الأوساخ ويصبغ فيعطيه نقاءً وصفاءً وجمالاً بسبب الصبغ.

 ( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ) استفهام استنكاري أي لا صبغة أحسن من صبغة الله تعالى.

******

 ( قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) ).

  1. لقد بين الله في آيات سابقة بطلان ما زعمه اليهود والنصارى من كون إبراهيم ويعقوب – عليهما السلام – على ملتهم، ومن كون دينهم هو الحق وأن الهدى في اتّباعه، وبعد أن بين الله سبحانه أن الحق هو الإيمان بالله والأنبياء السابقين وما أنزل إليهم دون تفريق بينهم، وأنهم إن أرادوا الهداية فعليهم أن يتبعوا هذا الحق ويسلموا لك وإلا فإنهم في شقاق وسيكفي الله رسوله شقاقهم.

بعد بيان كلّ ذلك فإنهم لا زالوا يُحاجُّون المسلمين ويجادلون في أنهم على الحق، فيخاطب الله رسوله  صلى الله عليه وسلم  أن يقول لهم كيف تحاجوننا في أنَّ الله لكم وحدكم، وأنكم على صوابٍ فيما تعملون وغيركم على خطأٍ، إنَّ مجادلتكم هذه باطلة فالله سبحانه ربنا أجمعين والتقرب إليه يكون بالأعمال وليس بالأماني، فميزان أعمالنا وأعمالكم هو الفيصل في ذلك وبخاصة ونحن المخلصون لله الصادقون مع الله في إيماننا.

 ( أَتُحَاجُّونَنَا ) الاستفهام للإنكار والتوبيخ أي أتجادلوننا بعد كلّ ما تبين لكم.

 ( وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ) فيها تعريض لعدم إخلاص اليهود والنصارى، فهم قد أشْركوا بالله بنسبة الولد إليه سبحانه وتعالى عما يصفون، وغير ذلك من سوء صنيعهم. و(الإخلاص) أن يكون العمل لله وحده، نقياً من كل شركٍ أو مصلحة، بل الصدق كلّ الصدق في حصر العمل ابتغاء مرضاة الله جلّ ثناؤه.

يقول  صلى الله عليه وسلم : “إن الله تعالى يقول: من أشرك معي شريكاً فهو لشريكه. يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله تعالى لا يقبل إلا ما خَلُص له“.

  1. ( أَمْ تَقُولُونَ ) في هذه القراءة المتواترة:

أ. قد تكون  ( أَمْ ) إما متصلة بما قبلها أي أن  ( قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا )  ( أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ) كلاهما داخـل في كلامٍ واحـدٍ بمـعنى أي الأمـرين تأتون: أنْ تحاجوا في الله وأنْ تقولوا إنَّ إبراهيم وإسمـاعـيل… فهـو منكـر والمراد إنكار كلا الأمـرين والتوبيخ عليهما.

ب. وقد تكون  ( أَمْ ) منقطعة مقدرة بـ(بل) و(الهمزة) وهي تدل في هذه الحالة على الإضراب والانتقال من التوبيخ على المحـاجـة إلى التوبيخ عن الافتراء على الأنبياء – عليهم السلام -.

وفي هذه الحالة يكون الكلام الجديد  ( أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى ) يكون استئنافاً غير داخل في الأمر الأول في الآية السابقة.

والمعنى يكون: أنهم ليس فقط يحاجون دون دليلٍ بل يقولون غير ذلك أيضاً، إنهم يفترون على الأنبياء أنهم كانوا هوداً أو نصارى وهو انتقال من التوبيخ على المحاجة إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياء.

وهناك قراءةٌ متواترةٌ أخرى للآية  (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ  ) وعلى هذه القراءة تكون  ( أَمْ ) منقطعة لا غير لأن صيغة الآية الأولى  ( قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا ) خطاب مباشر في حين أن صيغة الآية الثانية  ( أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ) وهذه فيها إضراب من المخاطب إلى الغيبة، ولا يحسن في المتصلة أن يختلف الخطاب من مخاطبٍ إلى غيره كما يحسن في المنقطعة، ولذلك فهي منقطعة فحسب.

وحيـث إن القـراءة الأولى  ( أَمْ ) لها معـنيان فهي من المتشابه، والقراءة الثانية  ( أَمْ ) لها معنى واحد فهي من المحكم، والقراءتان متواترتان والمحكم يقضي على المتشابه ولذلك تكون  ( أَمْ   ) في الآية الكريمة منقطعة، ويكون معنى الآية الكريمة: أن اليهود والنصارى ليس فقط يُحاجُّون دون دليل بل يقولون غير ذلك إنهم يفترون على الأنبياء – إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط – بأنهم كانوا يهوداً أو نصارى ويوبخهم الله سبحانه على ذلك.

أ. إن الله سبحانه هو الأعلم بإبراهيم – عليه السلام – والأنبياء من بعده فهم حنفاء لله مسلمين له وليسوا يهوداً أو نصارى  ( قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ    ).

ب. إنهم يعلمون من كتبهم أنَّ هؤلاء الأنبياء ليسوا يهوداً أو نصارى وإنما يكتمون ذلك عامدين، وإن أظلم الكاتمين هم الذين يكتمون شهادة ثابتة عندهم من خلال ما أنزل الله سبحانه في كتبهم، فإنهم يكونون بذلك أظلم الكاتمين  ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ ).

ويختم الله الآية بأنه سبحانه لا يغفل عن شيء.ٍ فهو يعلم ما يسرون وما يعلنون من كتمان الشهادة والافتراء على أنبياء الله وغير ذلك من أعمال، وسيعاقبهم الله عليها العقاب الشديد الذي يستحقون.

 ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) كررت هذه الآية الكريمة للتأكيد، وقد ذكرنا تفسيرها في الآية السابقة فنكتفي به.q

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *