العدد 418 -

السنة السادسة والثلاثون، ذو القعدة 1442هـ الموافق حزيران 2021م

صهيب الرومي… ثالث ثلاثة مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه

هو صهيب بن سنان بن مالك (أبو يحيى). أما عن حياته في الجاهلية، فيمكن القول إنه ولد في أحضان النعيم، فقد كان والده حاكم (الأبلَّة) ووليًّا عليهـا لكسرى، وكان من العرب الذين نزحوا إلى العراق قبل الإسلام بعهد طويل، وله قصـر كبير على شاطئ الفرات، فعاش صهيب طفولة ناعمة سعيدة. وذات يوم تعرضت البلاد لهجوم الروم، وأسر الـُمغيرون أعدادًا كثيرة وسبَوهم وكان من بين هؤلاء صهيب، فقضى طفولته وصدر شبابه في بلاد الروم، وأخذ لسانهم ولهجتهم (صار أَلْكَن)؛ لذلك سمي بالرومي، وباعه تجار الرقيق أخيرًا لعبد اللـه بن جدعان في مكة، وأُعجب سيِّدُه الجديد بذكائه ونشاطه وإخلاصه؛ ونتيجةً لذلك أعتقه سيِّدُه وحرَّره وأخذ يتاجر معه حتى أصبح لديه المال الكثير.

كان صهيب بن سنان صاحبًا للنبي محمد قبل أن يوحى إليه، ولما دعا النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام كان من أوائل من أظهروا إسلامهم في مكة، فقد أسلم مع عمار بن ياسر في ساعة واحدة في دار الأرقم، يقول عمار بن ياسر رضي الله عنه: لقيت صهيب بن سنان رضي الله عنه على باب دار الأرقم، ورسول الله  صلى الله عليه وسلمفيها، فقلت له: ماذا تريد؟ فأجابني: ماذا تريد أنت؟ قلت له: أريد أن أدخل على محمد، فأسمع ما يقول. قال: وأنا أريد ذلك، فدخلنا على رسول اللهصلى الله عليه وسلم، فعرض علينا الإسلام، فأسلمنا ثم مكثنا على ذلك حتى أمسينا، ثم خرجنا ونحن مستخفيان، فكان إسلامهما بعد بضعة وثلاثين رجلًا. وروى ابن سعد، وكذلك الطبراني من حديث أم هانئ ومن حديث أبي أمامة عن رسول الله: «السُبَّاق أربعة: أنا سابق العرب، وصهيب سابق الروم، وبلال سابق الحبشة، وسلمان سابق الفرس».

 ولما كان صهيب من الموالي، استضعفته قريش فعذّبته، وقد كان ممن عُذِّبَ كذلك من الصحابة (بلال وعمَّار وأمُّه سُميَّة وخبَّاب بن الأرتّ) فأُخذوا وأُلبسوا أدرع الحديد، ثمَّ أُصهِروا في الشمس، فكان يُعذب ليترك دين الإسلام حتى يغيب عن الوعي، ولا يدري ما يقول، وفيه وفي المستضعفين الذين عُذّبوا من المسلمين نزلت آية: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل: 110]. كما روى عبد الله بن مسعود أن جماعة من قريش مرَّت بالنبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم وعنده خبَّاب بن الأرتّ وصُهيب وبِلال بن رباح وعمَّار بن ياسر، فقالوا: «أرضيتَ بهؤلاء؟!» فنزلت آيات:(وَأَنذِرۡ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحۡشَرُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ لَيۡسَ لَهُم مِّن دُونِهِۦ وَلِيّٞ وَلَا شَفِيعٞ لَّعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ ٥١ وَلَا تَطۡرُدِ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ مَا عَلَيۡكَ مِنۡ حِسَابِهِم مِّن شَيۡءٖ وَمَا مِنۡ حِسَابِكَ عَلَيۡهِم مِّن شَيۡءٖ فَتَطۡرُدَهُمۡ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٥٢ وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لِّيَقُولُوٓاْ أَهَٰٓؤُلَآءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنۢ بَيۡنِنَآۗ أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِأَعۡلَمَ بِٱلشَّٰكِرِينَ ٥٣ وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِ‍َٔايَٰتِنَا فَقُلۡ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡۖ كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ أَنَّهُۥ مَنۡ عَمِلَ مِنكُمۡ سُوٓءَۢا بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٥٤ وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ وَلِتَسۡتَبِينَ سَبِيلُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ ٥٥ قُلۡ إِنِّي نُهِيتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِۚ قُل لَّآ أَتَّبِعُ أَهۡوَآءَكُمۡ قَدۡ ضَلَلۡتُ إِذٗا وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُهۡتَدِينَ ٥٦ قُلۡ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبۡتُم بِهِۦۚ مَا عِندِي مَا تَسۡتَعۡجِلُونَ بِهِۦٓۚ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ يَقُصُّ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰصِلِينَ ٥٧ قُل لَّوۡ أَنَّ عِندِي مَا تَسۡتَعۡجِلُونَ بِهِۦ لَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡۗ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِٱلظَّٰلِمِينَ ٥٨ ) [الأنعام: 51-58]

وعن أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربية صُهيب، فعندما همَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة، علم صهيب به، وكان من المفروض أن يكون ثالث الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر؛ ولكن أعاقه الكافرون، فسبقه الرسولُ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وحين استطاع الانطلاق في الصحراء، أدركه قناصة قريش، فصاح فيهم: «يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلًا. وايمُ الله، لا تصلون إليَّ حتى أرمي بكل سهم معي في كنانتي ثم أضربكم بسيفي، حتى لا يبقى في يدي منه شيء، فأقدموا إن شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي وتتركوني وشأني» فقبل المشركون المال وتركوه قائلين: أتيتَنا صُعلوكًا فقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت بيننا ما بلغت، والآن تنطلق بنفسك وبمالك. فدلَّهم على ماله وانطلق إلى المدينة، فأدرك الرسول صلى الله عليه وسلم في قباء، ولم يكد يراه الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ناداه متهلِّلًا: «ربِحَ البيعُ أبا يحيى… ربِحَ البيعُ أبا يحيى» فقال: يا رسول الله، ما سبقني إليك أحدٌ، وما أخبرك إلا جبريل، فنزل فيه قوله تعالى: (وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ ٢٠٧) [البقرة: 207].

وكان من أهم ملامح شخصية صُهيب الرومي ولاؤه للإسلام وللرسول صلى الله عليه وسلم، يتحدث صهيب رضي الله عنه فيقول: «لم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدًا قط إلا كنت حاضرَه، ولم يبايع بيعة قطُّ إلا كنت حاضرَه، ولم يسِر سرية قطُّ إلا كنت حاضرَه، ولا غزا غزاةً قطُّ، أول الزمان وآخره، إلا كنت فيها عن يمينه أو شماله، وما خاف المسلمون أمامهم قطُّ، إلا كنت أمامهم، ولا خافوا وراءهم إلا كنت وراءهم، وما جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين العدو أبدًا حتى لقي ربه». وكان صُهيب إلى جانب ورعه خفيفَ الروح، حاضرَ النكتة، فقد رآه الرسول صلى الله عليه وسلم  يأكل رطبًا، وكان بإحدى عينيه رمد، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم ضاحكًا: «أتأكل الرطب وفي عينيك رمد»، فأجاب قائلًا: «وأي بأس؟ إني آكله بعيني الأخرى».

وعن جوده وإنفاقه، فقد كان صهيب جوادًا كريم العطاء ينفق كل عطائه من بيت المال في سبيل الله، يُعين المحتاجَ، ويُغيث المكروب، ويُطعم الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا، حتى أثار سخاؤه المفرِط انتباه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: «أراك تطعم كثيرًا حتى إنك تسرف»، فأجابه صهيب: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خياركم من أطعم الطعام ورد السلام»، فذلك الذي يحملني على أن أطعم الطعام.

ومن مواقف الصحابة من صهيب الرومي، موقف عمر بن الخطاب، روى البغوي من طريق زيد بن أسلم، عن أبيه أن عمر قال له: «يا صهيب ما فيك شيء أَعيبه إلا ثلاث خصال؛ أراك تنتسب عربيًّا ولسانك أعجمي، وتكنَّى باسم نبي وتبذر مالك. قال: أما تبذيري مالي، فما أنفقه إلا في الحق، وأما كنيتي فكنَّانيها النبي صلى الله عليه وسلم، وأما انتمائي إلى العرب فإن الروم سبتني صغيرًا، فأخذت لسانهم».

 وعندما اعتُدي على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يصلي بالمسلمين صلاة الفجر، وعندما أحسَّ نهاية الأجل، راح يلقي على أصحابه وصيته وكلماته الأخيرة ثم قال: «وليصلِّ بالناس صُهيبًا». وقد كان اختيار سيِّدنا عمر إياه ليؤم المسلمين في الصلاة مزية تملأ حياته عظمة، فقد اختار عمر يومئذ ستة من الصحابة، ووكل أن يكون أمر الخلافة في واحد يختارونه منهم، وهم كما نقل عنه: «هـؤلاء الرهـط، الذين مات رسـول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وقال فيهم: إنهم مِـنْ أهل الجـنـة…» وضرب لهم أجلًا قدره ثلاثة أيام. وقال لهم بعد حديث طويل: «فإذا متُّ فتشاوروا ثلاثة أيام. ولـيُصـلّ بالناس صُهيبًا. ولا يأتينّ اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم» وطلب من المقداد بن الأسود أن يختار مكان الاجتماع ومن أبي طلحة الأنصاري حراسة المجتمعين، ومن صهيب أن يراقب الاجتماع. وقال له: «صلّ بالناس ثلاثة أيام. وأدخل عليًا وعثمان والزبير وسعدًا وعبد الرحمن بن عوف وطلحة إن قَدِمَ، وأحضر عبد الله بن عمر ولا شيء له من الأمر، وقم على رؤوسهم. فإن اجتمع خمسة، ورضوا رجلًا، وأبى واحد، فاشدخ رأسه بالسيف. وإن اتفق أربعة، فرضوا رجلًا منهم، وأبى اثنان فاضرب رأسيهما، فإن رضي ثلاثة منهم رجلًا، وثلاثة رجلًا، فحكِّموا عبد الله بن عمر، فأيُّ الفريقين حَكَم له فليختاروا رجلًا منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين، إن رغبوا عمَّا اجتمع عليه الناس» ثم طلب منهم أن يتركوا البحث في الخـلافة حتى يموت. إن عمر ليتأنَّى، وخاصة في تلك اللحظات التي تأخذ فيها روحه الطاهرة طريقها إلى بارئها، ألف مرة قبل أن يختار، فإذا اختار، فلا أحد هناك أوفر حظًّا ممن يقع عليه الاختيار، ولقد اختار عمر صهيبًا… اختاره ليكون إمام المسلمين في الصلاة حتى ينهض الخليفة الجديد بأعباء مهمته، اختاره وهو يعلم أن في لسانه عجمة، فكان هذا الاختيار من تمام نعمة الله تعالى على عبده الصالح صهيب بن سنان.

وعن وفاته، مات صهيب في شوال سنة ثمان وثلاثين، وهو ابن سبعين. وكانت وفاته في المدينة المنوَّرة، وقد دُفن في البقيع بعد أن صلَّى عليه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *