العدد 414-415-416 -

السنة الخامسة والثلاثون – رجب وشعبان ورمضان 1442هـ – شباط وآذار ونيسان 2021م

أمريكا والحروب السياسية الحديثة

بقلم نصر إبراهيم

يعدُّ أول استعمال لتعبير «الحروب السياسية الحديثة» هو في كتاب «الحروب السياسية الحديثة: الممارسات الحالية والاستجابات المحتملة» تأليف ليندا روبنسون الصادر عن (مؤسسة راند للأبحاث) عام 2018م، والذي اشترك في تأليفه مجموعة من الباحثين. وحسب روبنسون فإن مفهوم الحروب السياسية الحديثة يعني «استخدام الدولة كافة الأصعدة الاقتصادية، والتكنولوجية، والعسكرية، والثقافية لمواجهة خصومها دون اللجوء إلى الحروب التقليدية».

إن مصطلح «الحرب السياسية» كان موجودًا منذ عقود، وينطلق من تعريف الدبلوماسي الأمريكي «جورج كينان» في عام 1948م مع بداية الحرب الباردة، والذي عرّفها بأنها: «توظيف كافة الوسائل -خلال وقت السلم- لتحقيق الأهداف الوطنية للدولة، من خلال عمليات علنية وسرية، تتراوح بين إدارة التحالفات السياسية والدعاية السوداء، والحرب النفسية واتخاذ التدابير الاقتصادية، وصولًا إلى تشجيع عناصر المعارضة في الدول المعادية». وبناء عليه، فإن كل وسيلة وصفها «كينان»، والتي استُخدمت أثناء الحرب الباردة على نطاق تاريخي، لا يزال يمكن إدراجها تحت مسمى «الحرب السياسية الحديثة»، التي قدمتها «روبنسون».

ولكن روبنسون عملت على التفريق بين هذين المفهومين المتوازيين؛ وهما «الحرب السياسية» و»الحرب السياسية الحديثة» فبيَّنت أنه منذ نهاية الحرب الباردة، غيَّر التقدم التكنولوجي في المجال المعلوماتي والسيبراني شكل وفعالية كلا الحربين. وهنا تختلف «وسائل القوة» لدى الحرب الحديثة، بالمقارنة بنظيرتها القديمة نسبيًا. فلقد انتشرت التطورات التكنولوجية على نطاق واسع في العقدين الماضيين؛ ما أدى إلى رؤية طفرة تقدُّمية في مجالات الاتصالات، وزيادة اعتماد البنية التحتية الوطنية على البرامج الإلكترونية. وربما مع تكامل هذه التقنيات المتطورة لدى دولة يزيد من تعرضها لهجمات من قبل خصومها لعرقلة تقدمها؛ مما يخلق تهديدات جديدة تتمثل في الحرب السيبرانية والتهديدات التقليدية الأخرى، مثل الدعاية ونشر المعلومات المضلِّلة ونشر الإشاعات.

وعليه، يرى المؤلفون للكتاب أن الحروب السياسية ليست سوى مصطلح واحد من بين عدة مصطلحات تصف حالات الصراع التي لا تدخل حيز الحروب التقليدية، فالمحللون الصينيون استخدموا مصطلح «الحرب غير المقيدة» أما الروس فقد تداولوا مسمى «القوة الناعمة » و«حرب الجيل الجديد» أما الولايات المتحدة فقد أسَّست لعدة مصطلحات منها «نزاعات المنطقة الرمادية» و«الحرب الهجينة» و»الحرب غير المتماثلة» و«الحرب غير النظامية» وكان المصطلح الأخير هو الذي تم اعتماده في العقيدة العسكرية الأمريكية من قبل وزارة الدفاع .

وعطفًا على ما سبق، فإنه يرجع وصف الحروب السياسية بالحديثة إلى ما أتيح لها من مجالات جديدة للصراع، وما انفتح أمامها من جبهات لم تكن من قبل. ففي العقود الأخيرة، وخاصة منذ عام 2014م، كما بيَّن الباحثون في ظلِّ ظهور «تنظيم داعش» كقوة فرضت نفسها على الساحة الدولية، بعد أن نجح في استخدام أدوات وتدابير الحروب غير العسكرية، فضلًا عن ضمِّ روسيا لشبه جزيرة القرم؛ وهما الحالتان اللتان يمكن اعتبارهما دليلًا على التأثير الذي تحدثه ظاهرة الحروب السياسية الحديثة، بالإضافة إلى  التطور التكنولوجي، فظهر على سبيل المثال ما سُمِّي الإرهاب الإلكتروني (الحرب الإلكترونية) الذي أقلق دول العالم وفي مقدمتها أمريكا، وهنا يمكن الإشارة إلى الهجوم الواسع والذي وصف بالأكبر والأخطر في تاريخ الولايات المتحدة، والذي طال معظم مؤسساتها السيادية والحساسة، حتى بلغ حسب قناة الجزيرة 18 ألف جهة، حتى باتت مواجهة هذا الهجوم في مقدمة أولوليات سياسة الرئيس القادم جو بايدن كما صرَّح بذلك عقب اكتشاف الهجوم .

وإذا أضيف إلى ذلك كله ارتفاع التكلفة للحروب التقليدية والخسائر الفادحة لهذه الحروب، ومنها الفشل في تحقيق أهدافها، واستعصاء الأمة الإسلامية باعتبارها التي استُهدفت في هذه الحروب. فقد  «انتقد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الإدارات السابقة، بسبب انخراطها في النزاعات الخارجية، مؤكدًا أن الولايات المتحدة أنفقت حوالى 7 تريليونات دولار خلال عشر سنوات فقط على عملياتها في الشرق الأوسط، فيما أهملت الداخل الأمريكي» وذلك حسب ما نقلت قناة «فوكس نيوز» الإخبارية الأمريكية؛ ما يظهر سبب الاهتمام الكبير بهذا النوع من الحروب.

خصائص الحروب السياسية الحديثة

1- ليس لهذه الحروب ساحة معركة محددة، بل مجتمع العدو كله ساحة لها، بكل مصالحه الاستراتيجية وبناه التحتية، ومن ذلك الأهداف «الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية، وستقلُّ فيها الوسائل العسكرية»

2- تعتمد هذه الحروب على انهيار العدو من الداخل، ومن ضمن ما تهدف إليه هو سلب إرادة الدولة واستعمارها، وليس القضاء عليها أو إلغاءها.

3- تستهدف هذه الحروب أفكار شعب العدو وثقافته، وتأييده لدولته ومواقفها لجعله هو يعرقلها ويفشل سياستها.

4- تعتمد هذه الحروب على مدنيين أكثر من اعتمادها على عسكريين، وعلى مجموعات قليلة العدد؛ وعليه يصعب تحديد هوية الطرف القائم بشن الحروب.

5- وسائل هذه الحروب القوة الناعمة بجانب القوة العسكرية «القوة الذكية» لذلك فالدولة تستخدم كافة عناصر قوتها، وتعتبر الأفكار والتكنولوجيا الحديثة والذكاء الصناعي وحرب المعلومات بجانب الاستخبارات من أهم ما تعتمد عليه هذه الحروب.

6- غالبًا ما تفضل الدول الكبرى استخدام «النفوذ الاقتصادي» باعتباره أحد أهم أسلحتها في الحروب السياسية.

7- تستند هذه الحروب عند الدول الكبرى على المصالح المشتركة بدلًا من الأهداف الأيدولوجية أو الوطنية كاستخدام روسيا وتركيا كوكلاء لتنفيذ السياسات الأمريكية.

8- وأيضًا تستغلُّ الدول الطائفية والإثنية والمذهبية لإحداث الانشقاقات داخل دولة الخصم للسيطرة والاستتباع.

9- يمكن للفاعلين السياسيين من غير الدول من التنظيمات والأحزاب أن يصلوا إلى مستويات غير مسبوقة في ممارسة الحروب السياسية، وأن يحقِّقوا نتائج مهمة ومؤثرة، وقد ظهر ذلك جليًا في أكثر من بلد من بلاد المسلمين.

10- تحتاج الحروب السياسية إلى فترة زمنية أطول من الحروب التقليدية، وهي تلحق بالخصم آثارًا تدميرية أعمق وبتكلفة أقل.

 فالحروب السياسية أدت إلى زيادة التدخل في شؤون الدول والمجتمعات للتأثير فيها وإنهاكها بغير قتال، واستعملت في ذلك تعابير مثل: «أساليب التفجير من الداخل على الساحة الدولية» ومثل «إذا فعلتَ هذا بطريقة جيدة ولمدة كافية وببطء مدروس يستيقظ عدوك ميتًا» و«التآكل البطيء للدولة وبأيدي أبنائها أنفسهم بدون تكلفة أو مجهود وأسلحة ومعدات» و«إن أعظم درجات المهارة هي تحطيم العدو دون قتال» وهذه فكرة أحد القادة العسكريين الصينيين.

تأثير الأفكار في الحروب السياسية الحديثة

جاء في مقال عنوانه «الجيل الخامس من الحروب (التفكيك الساخن)»: «الأجيال الجديدة من الحروب… هي حرب يتم فيها احتلال عقلك لا احتلال أرضك… وبعد أن يتم احتلالك ستتكفل أنت بالباقي… ستجد نفسك في ميدان معركة لا تعرف فيها خصمك الحقيقي… إنها حرب ستطلق فيها النار في كل اتجاه… لكن يصعب عليك أن تصيب عدوك الحقيقي… هي حربٌ من يخوضها يكون قد اتخذ قرارًا بقتل كل شيء يحبه… إنها حرب تستخدمك أنت في قتل ذاتك وروحك… وفي النهاية ستجد نفسك كنت تحارب بالوكالة لصالح رجل جالس في مكان آخر».

الحروب السياسية الأمريكية

لقد استخدمت أمريكا الحروب السياسية قديمًا، ولقد ازدادت الأبحاث في الحروب السياسية بعد الحرب العالمية الثانية إبِّان الحرب الباردة وبعدها، واستخدمت هذا النوع من الحروب بشكل كبير، وأصبحت تتفاخر به وتعده أهم أسباب انتصارها على الاتحاد السوفياتي ومعسكره. وتتخذ أمريكا خططها ووسائلها التي استخدمتها في الحرب الباردة مصدر إلهام وإرشاد لتطويرها وتطبيقها على صراعاتها الأخرى كحروبها السياسية مع روسيا وكوريا الشمالية والصين، وفي حربها على الإسلام، والذي جعلت له عدة أسماء: «حرب الأفكار» «مكافحة الإرهاب والتطرف» «التحول الديمقراطي».

فقد استخدمت أمريكا مجموعة واسعة من التدابير السياسية والثقافية والإعلامية والاقتصادية، وذلك من خلال عدد من المؤسسات، مثل: وكالة الولايات المتحدة للمعلومات USIA، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID، ووزارة الخارجية، ووكالة الاستخبارات المركزية.

ومن بين التدابير التي استخدمتها الولايات المتحدة في محاربة الشيوعية،كانت الجهود الاجتماعية؛ حيث تم دعم عدد من المؤلِّفين والفنَّانين والمجلاَّت، بالإضافة إلى إذاعة «صوت أمريكا». وكذلك تدابير اقتصادية؛ شملت تقديم مساعدات طويلة الأجل للدول والأحزاب السياسية والنقابات والتنظيمات الأخرى. ناهيك عن التدابير السرية التي شملت عمليات اغتيال.

وبعد الحرب الباردة، تمَّ تفكيك العديد من المؤسسات الأمريكية، مثل وكالة المعلومات USIA، وتمَّ تخفيض التمويل المالي والبشري لكل من وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ولكن في أواخر التسعينات، تمَّ بذل جهود لإعادة إحياء بعض هذه التدابير من حيث الإبقاء على الإذاعات والتلفزيونات الأمريكية في الخارج، وتطوير نموذج جديد للديموقراطية وبرامج اقتصادية عبر «الصندوق الوطني للديمقراطية NED» و»مؤسسة تحدي الألفية MCC».

محاولة تغيير أشكال الحروب

لقد صدرت عدة دراسات وتقارير لإخراج أمريكا من أزماتها وانخراطها في الحروب التي أنهكتها وأدت إلى تراجعها على الساحة الدولية، ومن أجل منافسة خصومها الدوليين. ففي مقال «مستقبل حروب الجيل الرابع» نُشر في 2/مارس 2015م، تم نشر مشاركة أعضاء مشروع «مستقبل الحرب» في معهد أمريكا الجديدة، والتي عبَّروا فيها عن رأيهم في أين يتجه الصراع في القرن الواحد والعشرين، وهذه طائفة من إجابات بعض المشاركين التي تُظهر التوجُّه العارم للابتعاد عن الحروب التقليدية:

– بيتر بيرجن، نائب رئيس معهد أمريكا الجديدة: «تمامًا مثلما فقدت الولايات المتحدة احتكارها للأسلحة النووية بعد فترة قصيرة من الحرب العالمية الثانية، فقد فقدت اليوم احتكارها لحرب الطائرات المسلحة بدون طيار والحرب الإلكترونية الفعَّالة. وهذان الشكلان من أشكال الحروب يحدثان على حد سواء خارج الأطر التقليدية المعتادة للحروب، كما لم يتمّ تغطيتهم بشكل حقيقي بموجب اتفاقيات جنيف. كما لم تتوقع هذه الاتفاقيات استخدام الحروب الإلكترونية من أجل إلحاق أضرار بالغة لأجهزة الأمن الوطنية لدولة لسنا في حالة حرب معها (مثل إيران وفيروس ستوكسنت) أو أضرار اقتصادية لصناعة أمريكية هامة في أوقات السلم (مثل شركة سوني وكوريا الشمالية)؛ لذا نحن بحاجة إلى سَنّ قوانين دولية من شأنها أن تخلق قواعدَ لتنظيم مثل هذه الأشكال الجديدة للحرب. وهذا بالطبع لن يُعيقَ ما تقوم به جماعات مثل تنظيم الدولة الإسلامية أو دول مثل كوريا الشمالية؛ ولكنّه سيجعل من الصعب على دولة مثل إيران أن تعطي طائرات بدون طيار إلى جماعات مثل حزب الله، أو دول مثل روسيا أن تنفذ هجمات إلكترونية خطيرة».

– شان هاريس، كاتب مرموق في صحيفة ديلي بيس: «الولايات المتحدة الأمريكية مُجهَّزة جيدًا للتعرف على خصومنا في الفضاء الإلكتروني أكثر مما يعرف الناس. والاختراق الأخير الذي حدث لموقع سوني، والذي تم نسبته بسرعة وبشكل حاسم إلى كوريا الشمالية، يوضح أن وكالات الأمن القومي لدينا تعرف من يهاجموننا. والسؤال الأكثر أهمية وصعوبة هو: ماذا نفعل حيال ذلك الأمر؟».

 -ديفيد كيلكولن المستشار الخاص السابق لوزير الخارجية، وكبير مستشاري الجنرال ديفيد بترايوس في العراق: «… نحن نواجه التهديدات الخاصة بالدول، وغير الدول في نفس الوقت، وفي كثير من الأماكن. وفيما يتعلق بالتفكير في مستقبل الحرب، لا يمكننا أن نتجاهل التهديدات المتعلِّقة بالدول، ولكننا الآن نتعامل مع التنِّين الذي تَّمت مشاهدته عن قرب، كما رأينا في العراق وأفغانستان، والذي تعلَّم طرقًا جديدة لتجنُّب قوتنا التقليدية. العجز الاستراتيجي والتمدُّد الوطني هو الخطر في هذا الأمر، وهناك حاجة ماسة إلى طرق جديدة للحرب، سواء أكانت طرقًا مفاهيميّة أم تكنولوجيّة».

– مايكل ليند، ومحرر سابق بمجلة نيويوركر، وهاربرز، وناشيونال أنترست: «التحديات الكبرى التي تواجه تحقيق أهداف النظام العالمي الأمريكي لن تنشأ من الفاعلين من غير الدول، ولكن من القوى العظمى المتنافسة سواء العالمية أو الإقليمية مما سيساعد على تقويض الصراعات المباشرة لصالح الحروب الباردة التي تشمل الحروب التجارية، والحروب الإعلامية، والأعمال التخريبية، وسباقات التسليح، والحروب بالوكالة… نحن بحاجة إلى جيش مُصمَّم من أجل مواجهة الحروب الباردة غير المباشرة، وليس إلى جيش نظامي مصمَّم من أجل خوض الحروب التقليدية غير المرجحة ضد الدول القوية».

– دوج أوليفانت، شغل منصب مدير مجلس الأمن القومي: «عجزت القوة العسكرية عن منح الشرعية الشعبية لنظام متغير (كما هو الحال في العراق وأفغانستان وليبيا) ولسوء الحظ، فإن تغيير النظام في كثير من الأحيان هو الهدف السياسي من الحرب. وتجاهل هذا الأمر هو خطر حقيقي؛ حيث يتمُّ استبدال نظام سيئ بحالة أسوأ من الفوضى والمعاناة وعدم الاستقرار؛ حيث يتم توجيه الجيش بواسطة القيادة السياسية ليفعل شيئًا خارج قدراته».

– توم ريكس، كبير مستشاري معهد أمريكا الجديدة، والحائز على جائزة بوليتزر: أعتقد أن النقطة الأكثر تعرضًا للإهمال في هذا الصدد هي: الفرق الكبير بين امتلاك القوة، ومعرفة كيف، وأين، ومتى، ولماذا نستخدمها».

– بيتر سينجر، مستشار للجيش الأمريكي ووكالة استخبارات الدفاع: «الأمور التي كانت غير طبيعية في الماضي سرعان ما تصبح طبيعية الآن؛ حيث أصبح كل من الأطراف الفاعلين من غير الدول والتكنولوجيا التي تعمل بدون العنصر البشري والإنترنت أجزاء جديدة هامة من واقعنا الحاضر ومن المستقبل المحتمل للحرب؛ ولكننا لا نتحدث بشكل كاف عن التوجهات التي تلوح في الأفق والتي تجعلنا غير مطمئنين».

 

تقارير ودراسات لمواجهة المنافسين الدوليين

فقد صدرت بعدها بأعوام عدة تقارير ودراسات لمراكز أبحاث أمريكية لمواجهة المنافسين الدوليين بوسائل جديدة (الحروب السياسية الحديثة) منها:

تقرير بعنوان «النفوذ الصيني والروسي في الشرق الأوسط»

وهو تقرير قد شارك بوضعه مجموعة من أهم مراكز الدراسات الأمريكية عبر تقديم باحثيها أوراقهم فيه، وذلك في مؤتمرٍ عُقد بتاريخ 9 أيار 2019م، برعاية اللجنة الفرعية لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والإرهاب الدولي المنبثقة عن لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي. هدف المؤتمر بحث تنامي النفوذ الصيني والروسي وكيفية مواجهته. ومن الذين قدموا أوراقًا في هذا المؤتمر مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية (CSIS) الذي قدم رؤيته وتوصياته حول النفوذ الصيني في الشرق الأوسط، ومعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى (WINEP) الذي قدَّم بحثًا بعنوان: «موسكو في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» ومعهد راند الذي قدم بحثًا بعنوان: «روسيا والصين في الشرق الأوسط، الآثار المترتبة على الولايات المتحدة في حقبة منافسةٍ استراتيجية».

ولقد تضمَّنت ورقة مركز (CSIS) التعليق التالي على مواجهة الولايات المتحدة للسياسة الصينية في الشرق الأوسط: «الخطر الأكبر الذي نواجهه في الشرق الأوسط هو افتراضنا أن خصومنا سيواجهوننا بنفس الطرق التي نهيئُ أنفسنا لها بشكل كبير. وما نفعله هو أننا نضاعف قواتنا وأعتدتنا لمواجهة انعدام الأمن، وعندما نُواجَه بالرفض نستعمل القوة. لقد كانت الهيمنة هي استراتيجيتنا – لعقود مضت من الزمان – وهي [أي الهيمنة] ما يصبح اليوم أمرًا مكلفًا بشكل متزايد. لا تبدي الصين تطلعات نحو الهيمنة في الشرق الأوسط، وتجد الأبواب مفتوحة أمام نفوذها. الولايات المتحدة تخسر بسبب أخطائها، وهي المسؤولة عن ذلك. وعندما تتصرف بشكل صحيح فإنها لا تجني عائدًا من ذلك. يبدو أن الصين تنافس بقصد السبق من غير أن يظهر أنها نِدٌّ أو منافس، ويبدو أن النتائج الأولية لمساعيها إيجابية. التحدي الصيني لنا ليس تحدي الندِّ الذي يسعى إلى الحلول مكاننا في الشرق الأوسط، بل هو تحدٍّ من ناشئٍ صاعدٍ يسعى إلى جعل نموذجنا بأكمله يبدو بدائيًا. يجب أن نتخذ من هذ التحدي الصيني عبرة لنكون أكثر تأنيًا في تقرير ما يجب علينا القيام به في الشرق الأوسط. هذا التحدي تنبيهٌ لنا بأننا بحاجة إلى استكشاف نماذج جديدة من العلاقات، بدلًا من مجرد مضاعفة ما فعلناه على مدار الخمسين عامًا الماضية. إنه تذكير لنا بأن هدفنا يجب ألَّا يكون مجرد تدعيم للوضع القائم وسعيٍ للمحافظة عليه، ولكنْ قيادة العالم إلى مستقبل أفضل هو ما سعينا إلى فعله في معظم تاريخنا، وعلينا أن نواصل القيام بذلك، كما علينا أن نستمر في جنيِ النجاح».

أما ورقة معهد راند فقد تحدثت عما أسمته عهدًا جديدًا من المنافسة الاستراتيجية. وجاء فيها بهذا الشأن: «زادت الصين وروسيا، اهتماماتهما بالشرق الأوسط في السنوات الأخيرة. وقد غطَّت هذه الاهتمامات مجالات متعدِّدة، تشمل التجارة والاستثمار، وقطاع الطاقة، والتعاون العسكري، والنشاط الدبلوماسي. ازداد الحضور الصيني في الشرق الأوسط بشكل كبير في السنوات العشر الأخيرة. وروسيا عادت إلى المنطقة عام 2015م بشكل دراماتيكي… تؤكِّد زيادة المشاركة الصينية والروسية في المنطقة على أن الولايات المتحدة تمرُّ بعصر جديد من المنافسة الاستراتيجية، لا تقتصر ساحة هذه المنافسة على أوروبا وآسيا، بل هي تجري في أفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط أيضًا. وتحصل في وقت أصيب فيه الكثير من الأمريكيين بالإنهاك بسبب دور الولايات المتحدة كزعيم وشرطي للعالم. ما هو الخطر من هذه المنافسة الاستراتيجية؟… لكي تفوز روسيا بالمنافسة، تسعى إلى تعطيل النظام الدولي الذي تقوده أمريكا والديمقراطيات الغربية، وإلى إعادة تأسيس مجال نفوذها أيام الاتحاد السوفياتي السابقة، وإلى إضعاف العلاقة بين أوروبا والولايات المتحدة. أما الصين فترى أن الولايات المتحدة تحاول احتواء تنامي قوتها، وهي تسعى إلى أمرين: الأول: استعادة دور الصدارة في آسيا مقابل الولايات المتحدة. والثاني: تكييف النظام الدولي ليصبح أكثر ملاءمةً لمصالحها وأهدافها. ولكي تنجح الولايات المتحدة في هذه التحديات، يجب أن يكون لديها اقتصاد نشِط ومنتج، يمكِّنها من مواصلة الحفاظ على النظام الدولي بالشكل الذي مكّننا من النجاح، كما مكّن الآخرين أيضًا، وعليها أن تعمل بالمشاركة مع حلفائنا وأصدقائنا. هذه المنافسة تجري على الساحة العالمية؛ ولكن الشرق الأوسط مسرح إقليمي مهم، وعلى وجه الخصوص لكل من روسيا والصين». وقد احتوت ورقة راند اقتراحات لمواجهة الخطر الروسي والصيني أهمها: «تحتاج الولايات المتحدة أن يكون لديها رؤية شاملة لكيفية الفوز في هذه المنافسة الاستراتيجية… تحتاج على الأقل لأربعة قواعد رئيسية… اقتصاد حيوي ومنتج؛ بحيث نكون نحن القائد في التكنولوجيا المتقدمة كالذكاء الاصطناعي… أن نبقى قائد النظام الدولي… في مؤسساته وقواعده وأعرافه… أن تعتمد الولايات المتحدة على شبكة حلفائها وشركائها لأجل بلوغ أقصى حدود قوتنا ولمواجهة التحديات المشتركة… يجب علينا الحفاظ على قوتنا العسكرية [التفوق]…».

ثم أعادت الورقة التأكيد على هذه المقترحات فقالت: «تحتاج الولايات المتحدة إلى وضع استراتيجية شاملة ومتماسكة بحيث تفوز في هذه المنافسة التي تعزِّز جميع عناصر القوة الوطنية: الاقتصادية، والدبلوماسية، والعسكرية، والثقافية، أو القوة الناعمة. لا تزال أبحاثنا لمواجهة روسيا والصين تتركز بقوة على البعد العسكري. ورغم أهمية هذا البعد، فإنه على نفس المقدار من الأهمية أو أكثر، أن ترسم الولايات المتحدة كيفية استعادة الاستثمار في اقتصادنا ونظامنا التعليمي كي نستمر روادًا للعالم في التكنولوجيا والابتكار. على الولايات المتحدة أيضًا أن تطوِّر نهجًا منظَّمًا وأكثر شمولًا للعمل مع حلفائنا وشركائنا في جميع أنحاء العالم لمواجهة روسيا والصين». ثم ختمت الورقة بما يؤكد وجود مشكلة أمريكية خطرة فقالت: «أدت عشرون عامًا تقريبًا من العمليات العسكرية، العديدُ منها في الشرق الأوسط، إلى مقتل الآلاف من الأفراد العسكريين الأمريكيين؛ ولكنها استنزفت اقتصادنا، وقوَّضت قدرتنا على التركيز على الاحتياجات المحلية الملحَّة، وأضعفت مكانتنا في العالم، وأوجدت فرصًا لروسيا والصين لتحقيق مكاسب على حسابنا. علينا أن نتعلم من تجاربنا في العراق وأفغانستان وليبيا وغيرها، وأن ندرك أنه على الولايات المتحدة أن تركِّز بشدَّة على مصالحها الحيوية في الشرق الأوسط، وأن تزِنَ بعناية تامة أيَّ قرار باستخدام القوة».

 إن ما تظهره هذه الدراسات والتقارير وتوصيات مؤسسة راند والتي ركَّزت على تفعيل دور وزارة الخارجية لمجابهة الحروب السياسية المحتملة أن هناك ضعفًا عند أمريكا في مواكبة هذه الحروب، وأن خصومها يتقدمون فيها، فضلًا عن أنهم يزدادون. وهذا يعني تفاقم المشكلات التي تحول دون اتساع سيطرة أمريكا، بل تهدد بتقلص نفوذها وانحلال قبضتها، وبسقوط أمريكا عن عرشها.

المسلمون والحروب السياسية الحديثة

  إننا نرى بوضوح أن بلادنا هي حلبة الصراع والمنافسة بين الدول الكبرى، وأن المسلمين هم المستهدفون بشكل رئيسي، وتستخدم ضدهم الحروب السياسية الحديثة متعددة الجبهات ومتعددة الصور والأشكال ومن جميع الدول الكبرى؛ فكان لابد من التنبُّه لهذه الحروب والعمل على مجابهتها والتصدي لها واستنفار الأمة وطاقاتها في هذا الصراع.  

إن مما لا بُدَّ منه لأي أمة الاهتمام بمواجهة هذه الحروب، وبذل ما تستطيعه كي لا تكون ضحيةً لها. وبخاصة أن أهدافها تتراوح بين حدَّين: أدناهما الإخضاع وسلب الإرادة، والحد الآخر هو التدمير والإبادة؛ ولذلك كان الاهتمام بهذه الحروب واجتراح سبل مواجهة لها قضيةً مصيرية. وهو ما لا نلمسه عند الدول القائمة في العالم الإسلامي ولا عند أي أحد. حتى الكتابات التي تشرح هذه الحروب وتحذِّر منها، لا نجدُ فيها اهتمامًا بكيفية مواجهتها يوازي الاهتمام بالحديث عنها. وإذا وُجد شيءٌ من ذلك فليس أكثر من رؤى عامة وخاطفة، لا سبيل إلى ترجمتها عمليًا؛ وبخاصة أن هذه الرؤى هي نصائح خجولة موجَّهة إلى الدول القائمة في البلاد العربية والإسلامية، وهي دول عميلة ومشاركة في جرائم إخضاع البلاد والعباد لأعدائها. وعلى ذلك، ليس ثمة أمل يُرتجى من الدول القائمة في بلاد المسلمين.

سبل مواجهة الحروب السياسية الحديثة

لقد تعرّض بعض الباحثين لسبل المواجهة، وقالوا إن سبل الوقاية من حروب الجيلين الرابع والخامس (الحروب السياسية الحديثة) هي الحكم الرشيد، أي في الاقتصاد والأمن والمحافظة على الهوية وسائر الخدمات، فهذا يقوي ولاء المواطنين للدولة ويحصِّن المجتمع؛ فيقطع الطريق على الأعمال التي تؤجِّج النفور بين الدولة والناس وبين مختلف مكونات الجماعة، واستهداف الجماعات المسلحة وحواضنها، وتوظيف الإمكانات الإلكترونية والسيبرانية في أعمال المواجهة والمراقبة وتطويرها، وتطوير أنظمة الحماية وأمن المعلومات. وتُعّدُ برامج توعية الأفراد ومنع اختراق المجتمع من أهم أساليب مواجهة هذه الحروب، إضافة إلى تفكيك التحالفات المعادية للدولة، ومنع تمويلها ودعمها ماديًا وبشريًا، ويتم ذلك بوسائل عسكرية وغير عسكرية، بهدف تجنُّب الانفجار من الداخل نتيجة وجود ثغرات في النسيج المجتمعي، وكي لا يقع الناس فريسة للإشاعات، ولا في فخاخ الأعداء من منظمات المجتمع المدني وغيرها.

وعلى كل حال، فإنه لا يُنتظر من الدول القائمة في بلاد المسلمين القيام بمواجهة هذه الحروب وأعمالها. وبما أن نتائجها كارثية على المسلمين وبلادهم؛ فيوجبُ ذلك  حمل هذا الأمر على محمل الجد، واتخاذه قضية مصيرية، ووضع استراتيجية لمواجهته؛ فتقوم استراتيجية المواجهة على أن تحشد لها قوى وطاقات كبيرة كما الهجمة قوية وكبيرة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك ما لم تكن المواجهة عالميةً وتشمل كل مجال ممكن كما الهجمة عالمية وشاملة. ومما يساعد في الأمر أن الأمة الإسلامية كبيرة وممتدة في كل زوايا الأرض، وتتوفر على طاقات وإمكانات بشرية ومادية كبيرة، تمكِّنها من الدفاع والهجوم في آن واحد. الأمر الذي ينبغي أن يتحمل مسؤوليته القادرون عليه من المهتمِّين بأمور المسلمين الذين تتوفر فيهم صفات العلم والوعي والقيادة.

 

ضرورة تفعيل طاقات الأمة في هذا الصراع:

 لا بد من تحرُّك المسلمين للقيام بالأعمال المطلوبة في هذه المواجهة العالمية، والإصرار على تحقيق هذا الأمر بمختلف الأساليب. وهذه المواجهة من محفزات المسلمين للعمل لإقامة دولة الخلافة، والقضاء على ما يحول دون إقامتها. فمن أعمالها مثلًا مواجهة الغزو الغربي في الهجوم على الإسلام وتحريف أفكاره، والقيام بهجوم مضاد في بلادنا وبلاده. وإذا كان أعداء الأمة أقوياء، بل هم أقوى دول الأرض ويمتلكون من الأسلحة الضخمة والفعالة والذكية ما يتجاوز الخيال، ويثير لدى الكثيرين أن مواجهة هذه القوى جنونٌ أو انتحار، فالرد على ذلك هو أن الأمة الإسلامية تتمتع بمزايا لا تحوزها أمة سواها، وهذا ما يوفِّر لها إمكانات ينبغي اكتشافها وتفعيلها واستثمارها. فللأمة كيانها العقدي الروحي والفكري والسياسي الذي يوجد فيها القابلية لتكون مؤهلةً للقيام بأعمال كثيرة وضخمة، منها إقامة دولة الخلافة، ومنها هزيمة دول كبرى وجيوش جرَّارة ذات أسلحة ذكية، ومصدر هذه القدرة الكبيرة هو الطاقة الإسلامية أولًا، ثم الطاقات الأخرى الكبيرة التي يوفِّرها حجم الأمة والبالغ الملياري نسمة، والجغرافيا الشاسعة التي تحتلها، وخصوصًا إذا وحَّدت جهودَها في هذه المواجهة.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *