العدد 414-415-416 -

السنة الخامسة والثلاثون – رجب وشعبان ورمضان 1442هـ – شباط وآذار ونيسان 2021م

حزب التحرير يشق طريقه نحو تحقيق غايته والأمة الإسلامية محل العمل وموضع الأمل في عملية التغيير

أبـو حنيـفـة التـحريـري

الأرض المباركة فلسطين

 في سياق بحث عملية تغيير واقع المسلمين والانتقال بهم من واقع كفر يخضعون بحسبه لأنظمة كفر إلى واقع إسلامي يتحاكمون فيه إلى شرع الله تبارك وتعالى، يحسن بنا أن ندخل من بوَّابة الأمة الإسلامية التي وصفها الله تعالى بقوله: (كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ١١٠) وبقوله: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ) حيث دلَّت الآيتان على خيرية أمة الإسلام في كل زمان ومكان، وعلى وسطيتها أي عدالتها على الناس كافة، وأن هذه الخيرية وتلك العدالة خبر في معنى الطلب فيه أمر جازم للأمة بوجوب تصَدُّرها للأمم، وإخضاعها أي الأمم لسيادة الإسلام وسلطان المسلمين. ولا يُتصور أن تتصدَّر الأمة الإسلامية غيرها من الأمم ما لم تستردَّ هي سلطانها المفقود، وتقيم خلافتها على منهاج النبوة؛ لأن الخلافة هي التعبير العملي لمقتضى خيرية الأمة وشهادتها على الناس، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فالأمة الإسلامية والحال كذلك قادرةٌ على تغيير واقعها الفاسد تغييرًا أساسيًّا شاملًا يستند إلى عقيدتها فكرةً وطريقة، وقادرةٌ على تغيير واقع البشرية ككل بحمل رسالة الإسلام إلى الناس كافة بالدعوة والجهاد، قال تعالى: (وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ ).

ولولا أن الأمة قادرة على إنفاذ ما كلفها الله به لما كان لهذا التكليف معنًى؛ إذ لا يُتصور تكليف العباد بما لا طاقة لهم به، وما كان فوق الوُسع، فهذا ممتنع ولا يستقيم، قال سبحانه: (لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ). ولولا أنها أيضًا كذلك لما كان لوعد الله سبحانه المسلمين بالنصر والاستخلاف مَعنًى، فالله تعالى وعد المسلمين بالاستخلاف في الأرض في قوله:(وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ٥٥) فأخبرَ بِوعدِهِ المسلمينَ بالاستخلاف في الأرض، وتمكين الإسلام الدينِ الذي آمنوا به، وتحقُّق الأمن بعد الخوف. وكذلك في قوله سبحانه: (وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) فيها توكيد لنزول النصر بلام التوكيد ونون التوكيد الثقيلة، وفيها كلمة (مَن) اسم موصول مِن صِيغ العموم الدالة على استغراق جميع مَن ينصر الله من المسلمين، فالنصر الـمُؤكَّد بلام التوكيد ونون التوكيد الثقيلة في الآية للمسلمين كل المسلمين. وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالنَّصْرِ وَالسَّنَاءِ وَالتَّمْكِينِ…» صحيح ابن حبان.

 لقد كان لا بدَّ من التقديم لهذا البحث بما أسلفنا بيانه أعلاه من استطاعة الأمة على تغيير واقعها، واستحقاقها وعد الله لها بالاستخلاف في الأرض لسببين:

الأول: ما أصاب كثيرًا من أبناء المسلمين اليوم من يأس وإحباط من قدرة الأمة على تغيير واقعها، والانفكاك من هيمنة أعدائها عليها؛ فاضطربت الحالة النفسية لدى المسلمين، بعد أن تكالب عليها مَن بأقطارها من قوى الشر التي رمتها عن قوس واحدة، وبات أكثر الناس مستسلمًا لِلوهَنِ الذي أخلدهم إِلى الاعتراف والتسليم بالفجوة الهائلة بين المسلمين وبين أعدائهم الذين بسطوا سيادتهم على كل بلاد المسلمين عبر حكام أقل ما يُقال فيهم أنهم خونة عملاء.

الثاني: استفزاز أبناء الأمة، ورفع الحالة الإيمانية فيهم، وإشعال جذوة طاقاتها الهائلةلأخذ زمام المبادرة، فتستدرك الأمة ما فاتها من نكوص على أعقابها شَلَّ هِمَّتها على مدى قرن من الزمان.

لقد كان لهيمنة أفكار الكفر الباطلة من ليبرالية واشتراكية وحريات وأيديولوجيات من مشارب شتَّى، اقتحمت على المسلمين جوانب حياتهم من كل باب؛ كان لها نتائج مدمِّرة على الأمة الإسلامية أصابت عصب طاقتها الفكرية في مقتل، وارتكست بها إلى حضيض التبعية للكافر المستعمر في كل شيء؛ فالقول ما تقوله أمريكا، والفصل لكل أزمة عاصفة بالأمة ما تُمليه أمريكا ودول الكفر على الحكام العملاء من مشاريع سياسية وبرامج استعمارية تكرِّس النفوذ والهيمنة للكافر المستعمر، وتفرض رؤًى اقتصادية تحرم المسلمين من كل ما جعله الله لهم حلالًا طيِّبًّا مما أفاءت به الأرض من كنوز وثروات ليس لها حدٌّ ولا عدٌّ، وتشرف على مناهج ثقافية مدروسة قَدَّمت الفكر الوضعي الدَّخيل، وأخَّرت الوحيَ الربَّاني الأصيل! هكذا ترَّدى حال الأمة الإسلامية إِلى أسوأ حال وأردى مآل القهقرى، وشلَّ حيويَّتها الحضارية من أمة تصدرت قيادة العالم على كافة الصُّعُد، إلى شعوب مُكبَّلة وراء جدران وهمية ابتدعها الكافر المستعمر أطلق عليها اسم الوطن الـمُفدَّى، وألقاب ومسمَّيات من الزعامات المأجورة، والرويبضات المأمورة، والقيادات المجرورة… وحول هؤلاء ثُلة فساد وإفساد، كالقطيع الذي لا تجد فيه راحلة واحدة وسط صحراء تعُجُّ بالهائمين على وجوههم لا يجدون ما يركبون!

لقد أصبحت الدار التي تُؤوي المسلمين منذ هدم دولة الخلافة الإسلامية في 28 رجب 1342ه دار كفر، ظهرت فيها أحكام الكفر ودساتيره بفعل قوى أعداء الأمة والمِلَّة ظهورًا قهريًّا على حساب أحكام الإسلام التي أُقصِيت تمامًا عن موضع التطبيق في الحياة والدولة والمجتمع. وكان واجبًا على المسلمين حينئذ أن ينهضوا بسلاحهم نهضة رجل واحد في وجه الكفار وعملائهم من الأتراك والعربللحفاظ على كيان الأمة، دولة الخلافة، من أن يقع بنيانها، وتهوي أركانها، وتخبو نيرانها… عملًا بالحديث الشريف فيما رواه البخاري في صحيحه عن عُبادةَ بنِ الصّامِت قال: «دَعَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: «أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا، عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ». إذ إن ظهورَ الكُفر البَواحِ أو الصُّراحِ موجِبٌّ لخروج الأمة كل الأمة على الحاكم الذي يُظهر أحكام الكفر في بلاد المسلمين ظهورًا بائنًا، ولكن المسلمين لم يفعلوا شيئًا من ذلك؛ فمرَّت المؤامرة ومُرِّرت بِحبكةِ حاقد عرف كيف يلعب لعبته القذرة. لقد كان صمت الأمة المطبَق بل ودوران شعوبها مع دولاب المؤامرة حيث دار قاصمة الظهر التي انتقلت بالمسلمين من دار الإسلام إلى دار الكفر؛ فأصبح المجتمع الذي يعيش فيه المسلمون مجتمعًا غير إسلامي استحوذ الكفر عليه من قمة الهرم إلى قاعدته.

إن دار الكفر كما عرَّفها الفقهاء تعني الدار التي لا يتحاكم المسلمون فيها إلى شرع الله، أو هي الدار التي تُطبَّق فيها أنظمة الكفر حتى ولو كان جُلُّ أهلها من المسلمين. ومن اللزوم الذهني لمصطلح دار الكفر أن تطغى أفكار الكفر الدخيلة، والمشاعر القومية والوطنية والعصبية، وتُسلَّط على أبناء المسلمين تحت وطأة الحكم الجبري البوليسي الكاتم على أنفاس الشعوب الإسلامية. فهذه ركائز ثلاث يقوم عليها كل مجتمع، الأفكار والمشاعر والأنظمة، وتغيير المجتمع كل مجتمع يقضي بتغيير هذه الركائز الثلاث أولًا، قال تعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ).

 إن دقةَ العمل لتغيير واقع المسلمين من دار كفر إلى دار إسلام تقضي بوجوب بلورة منهجية جلِيَّة تُقدِّم أحكام طريقة التغيير في ساحة العمل الإسلامي تأصيلًا وتفصيلًا، فعملية التغيير هذه ليست أعمالًا عشوائية يتلقَّفها آحاد المسلمين كما لو كانت وجبة سريعة؛ ولكنها أعمال منضبطة فكرًا وسلوكًا بمنهجية تنبثق عن عقيدة الأمة، والتي هي أصل كل فكر فرعي متعلق بسلوك أبناء المجتمع في معترك الحياة، إن كان فكرًا يعالج سلوك الفرد كفرد، أو فكرًا يعالج سلوك المجتمع كمجتمع. إن هذه المنهجية عملية تغيير راسخة في ثقافة الأمة المستمَدَّة من الوحيين: كتاب الله وسنة رسوله وما أرشدا إليه من إجماع الصحابة والقياس المعلَّل بعلة شرعية؛ لذا يجب أن يكون جلِيًّا لكل عاملٍ لإنهاض الأمة وساعٍ لنهضتها، أن يعلم أن عملية التغيير هذه طريقة شرعية بحتة متبرِّئة من أي ارتباط بالقوى الدولية والإقليمية والمحلية، ومتجرِّدة من حظوظ النفس وداعية الهوى والخضوع لإملاءات العقل، ومتنصِّلة من إملاءات الواقع تحت أي ظرف، قال تعالى: (فَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطۡغَوۡاْۚ إِنَّهُۥ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ ١١٢ وَلَا تَرۡكَنُوٓاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ١١٣).

والحاصل أن الشارع الحكيم الذي تكفَّل بالأخذ بأيدي الأمة إلى حيث يكون التغيير الصحيح الجذري، جعل هذا التغيير أحكامًا عملية تفصيلية تتردَّد حين السير ما بين قُطبين يتجاذبان عملية التغيير، وهذان القُطبان هما: الحزب السياسي الذي يعمل في الأمة ومعها، والأمة بكافة طاقاتها. فالقطب الأول وهو الحزب يتمثل دوره بتبنِّي الفكرة وحملها على بصيرة حملًا سياسيًّا رعويًّا مستهدفًا في طريقته ومنهجه ثلاث فئات: الفئة الأولى: الأنظمة الحاكمة، يُكافحها كفاحًا سياسيًّا لحملها على أن تبادر هي إلى التغيير، وإلا فتغييرها هي وإزالتها باعتبارها ركيزة الكافر المستعمر، والعقبة الكؤود أمام عملية التغيير. والفئة الثانية: الأمة، يدعوها إلى تبني فكرته واحتضانها إجمالًا لا تفصيلًا؛ فتصبح فكرته في أوساط المجتمع رأيًا عامًّا منبثقًا عن وعي عام يُمهِّد الأرضية الصلبة للانتقال بالفكرة نقلة نوعيَّة إلى حيث يكون التطبيق العملي الجذري الشامل للفكرة في المجتمع. والفئة الثالثة: أهل النصرة الذين يدعوهم الحزب لاحتضان الفكرة وحمايتها والقفز بها إلى سدة الحكم. وهنا تبرز العلاقة السببية ما بين قطبي عملية التغيير: الحزب بما يحمله من مشروع نهضوي من جهة، والأمة بفعَّالياتها المختلفة من أحزاب وسياسيين وعلماء ومفكرين وأهل رأي ومؤثرين وأهل نصرة من جهة أخرى. وإذا كان الحزب في موقعه هذا يقوم مقام المرسِل، فإن الأمة بكافة طاقاتها وفعَّالياتها الواسعة والضيِّقة تقوم مقام المستقبِل؛ لذا فالعلاقة بين قطبي عملية التغيير علاقة سببية تكاملية تعاضدية تقوم على وشيجة الإيمان والتسليم المشترك بالفكرة وما ينبثق عنها من أفكار ومعالجات هي روح الأمة وسر حيويَّتها وأملها الوحيد في التغيير المنشود.

وجنبًا إلى جنبٍ، جعل الشرع عملية التغيير خاضعةً لنواميس كونية وسنن اجتماعية ثابتة لا تتغيَّر ولا تتبدَّل ولا تتطوَّر، وأن هذه النواميس وتلك السنن تُحاذي حركة الحزب والأمة وعملية التغيير وتهيمن عليها؛ كَيلا تخرج عن إطار ما تقتضيه النواميس والسنن من موجبات تكون بالنسبة لعملية التغيير الضامن لصحة المسيرة، واستمرارها، وحتمية بلوغها الغاية.

 يقول الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله في نشرة مؤرخة في 27/2/1974م: “وإقامة دولة أي دولة، في جماعة أي جماعة، لها قوانين ونواميس، وهي أن تتقبَّل تلك الجماعة أو الفئة الأقوى فيها للمفاهيم والمقاييس والقناعات التي تقوم عليها تلك الدولة، وما لم تتقبَّل تلك المفاهيم والمقاييس لا يمكن أن تقوم فيها الدولة، ولو تسلَّط عليها متسلِّطون، وتولَّى السلطة فيها أقوياء. فالأصل في إقامة الدولة هو تقبُّل الجماعة أو الفئة الأقوى لتلك المفاهيم والمقاييس والقناعات… انتهى”.

فقد ثبَّت الله سبحانه سُنَّةً ملازمة لحركة الأمة وسلوكها على وجه يجعل الأمة قريبة أو بعيدة من بلوغ عملية التغيير المنشود، إن كان سلوكًا مُدبِرًا عن الفكرة الإسلامية، أو مُقبِلًا عليها. فإن الله تبارك وتعالى لا ينصر الأمة إن هي أدارت ظهرها لدينه مقابل استقبالها لكل فكرة وافدة عليها من شرق أو غرب، وما كان الله لينصر أمةً تستبدل الجبت والطاغوت بالوحي والملكوت. قال سبحانه: (ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمۡ يَكُ مُغَيِّرٗا نِّعۡمَةً أَنۡعَمَهَا عَلَىٰ قَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ٥٥) فالله السميعُ الـمُطَّلعُ على ما في نفوس المسلمين إذا غيَّروا وبدَّلوا نِعمة الله بُعدًا عن دينه وشريعته، العليمُ بما تضمره النفوس من ميول ذهبت بالمسلمين بعيدًا عن أوامره جلَّ وعلا، لا يمكن أن ينزل نصره على مدبرٍ عنه مقبلٍ على سواه. يقول سبحانه وتعالى: (يَٰٓأَيُّهَا   ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تُطِيعُواْ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ ١٤٩ بَلِ ٱللَّهُ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلنَّٰصِرِينَ ١٥٠). وإذا كانت الأفكار والمشاعر والأنظمة ركائز التغيير في المجتمع، فإن على المسلمين أن تثور مشاعرهم غضبةً لدين الله وحرمات المسلمين، لا أن تثور غضبةً للقومية والوطنية والعصبية الَمقيتة. وأن يرَوا في أفكار الإسلام ومعالجاته المنقِذ لهم من كل عاديات الفتن التي دَهَمت عليهم من كل باب، كلما انجلت فتنة، غشيتهم أختها… وإنَّ عليهم أن يثور حَنَقُهُم على حكامهم الموالين لأعدائهم، فيتحرَّكوا لخلعهم وإسقاط هذه الأنظمة بأزلامها ودساتيرها والمناهج الأيديولوجية التي أُسِّست عليها من أول يوم، بهذا فقط تقترب الأمة من استحقاقها الموجب لتنزيل نصر الله عليها حسب تلك السنن.

 هذا فيما يتعلق بالأمة ككل، أما فيما يتعلق بالحزب الذي تبنَّى الفكر الدعويَّ علمًا وعملًا، فقد خضع هو الآخر لسنن ونواميس تواكب سيره وعمله، وتُظلِّل حركته التحرُّرية في الأمة ومعها، ليس له أن يتقدَّمها أو يتأخَّرها، ومن هذه السنن وتلك النواميس:

أولًا: سُنة الإيمان بالفكرة والانطلاق بها في المجتمع، قال تعالى: (قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٠٨) فالحزب بعد اعتناقه للفكرة، يمضي في طريقه على بصيرة ووعي وإخلاص لله تبارك وتعالى، جاعلًا فكرَهُ وعمله وغايته على خط واحد مستقيم، وفق منهجية منضبطة في أعمالها، منتظمة في جزئياتها. فكل فكر لا ينتج عملًا، يُعتبر فكراً فلسفيًّا، وكل عمل لا يُفضي إلى تحقيق غاية، يُعتبر حركةً لولبية تنتهي بأصحابها إلى الفشل والاندثار.

ثانيًا: سنة الثبات على الدعوة، وتوطيد النفس على تحمُّل الأذى في سبيل الفكرة، قال سبحانه وتعالى: (قالَ موسى لِقَوْمِهِ اسْتَعينوا بِاللَّهِ وَاصْبِروا؛ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ؛ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقينَ) وعنْ خَبَّابِ بْن الأَرتِّ  قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُو مُتَوسِّدٌ بُردةً لَهُ في ظلِّ الْكَعْبةِ، فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصرُ لَنَا؟ أَلا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: قَد كَانَ مَنْ قَبْلكُمْ يؤْخَذُ  الرَّجُلُ فيُحْفَرُ لَهُ في الأَرْضِ فيجْعلُ فِيهَا، ثمَّ يُؤْتِى بالْمِنْشارِ فَيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجعلُ نصْفَيْن، ويُمْشَّطُ بِأَمْشاطِ الْحديدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلكَ عَنْ دِينِهِ، واللَّهِ ليتِمَنَّ اللَّهُ هَذا الأَمْر حتَّى يسِير الرَّاكِبُ مِنْ صنْعاءَ إِلَى حَضْرمْوتَ لاَ يخافُ إِلاَّ اللهَ والذِّئْبَ عَلَى غنَمِهِ، ولكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» رواه البخاري.

ثالثًا: سنة الأذى والتنكيل والملاحقة؛ إذ يتعرض حملة الفكرة لأصناف المحن والفتن من قتل وتعذيب وملاحقة، وتشهير بهم، وبث دعايات مغرِضة باطلة؛ لثنيِهم عن دعوتهم، وصرف الناس عنهم، قال سبحانه: (أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣).

رابعًا: سنة التمحيص، ذلك أن ثبات الدعوة وشبابها على ما هم عليه، دون أن يغيِّروا أو يبدِّلوا؛ فيه تكفير لذنوبهم، وتنقية لسرائرهم من شوائب الدنيا ومتاعها، وتزكية لنفوسهم من موبقات محبطة للعمل، قال سبحانه: (وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمۡحَقَ ٱلۡكَٰفِرِينَ).

خامسًا: سنة التمييز وتنقية الصفوف، ومن سنن الله في الدعوات الصادقة أن يتعرض أصحابها لمغريات يقدمها لهم الطواغيت؛ تحملهم على ترك دعوتهم، أو التنازل عن ثوابتها وغاياتها التي لا تلتقي مع الباطل في مكان وسط يُرضي الطرفين، ويُبقي الفريقين كل في موقعه دون أن يدفع أحدهما الآخر؛ فيعمد أهل الباطل حينئذ إلى طرح رؤًى وحلولٍ وسطية أو تقديم إغراءات مادية؛ فيتساقط أكثر العاملين على الساحة، وينماز الحزب المبدئي عن هؤلاء باعتصامه بمنهجه على ما بيَّنه سبحانه: (إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيۡهِمۡ حَسۡرَةٗ ثُمَّ يُغۡلَبُونَۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحۡشَرُونَ ٣٦ لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجۡعَلَ ٱلۡخَبِيثَ بَعۡضَهُۥ عَلَىٰ بَعۡضٖ فَيَرۡكُمَهُۥ جَمِيعٗا فَيَجۡعَلَهُۥ فِي جَهَنَّمَۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ٣٧).

سادسًا: سنة الاستيئاس من الاستجابة للدعوة، فما من دعوة صادقة إلا وتُبتلى بإعراض الناس عنها؛ لأن حملتها يقدمون للمجتمع فكرًا يراه أبناؤه غريبًا على عقولهم، بعيدًا تحقُّقُه في زمانهم؛ نتيجة لعوامل متعدِّدة، أبرزها هيمنة الشعور بالعجز لدى سواد الناس في المجتمع أمام قوة الباطل. قال تعالى: (حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسۡتَيۡ‍َٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ جَآءَهُمۡ نَصۡرُنَا ).

سابعًا: سنة التمكين والاستخلاف، بعد اجتياز الحزب لمحطَّات سيره مؤمنًا بفكرته، عاملًا بوعي وإخلاص لإيجادها في المجتمع، ثابتًا عليها أمام العواصف؛ يسمو الحزب إلى المرتقى الذي يؤهله لبلوغ غايته التي وعد الله عباده العاملين الصادقين إياها، عندها يتنزل نصر الله عليهم من حيث لا يشعرون، قال سبحانه: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّةٗ وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ ٥ وَنُمَكِّنَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنُرِيَ فِرۡعَوۡنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنۡهُم مَّا كَانُواْ يَحۡذَرُونَ ٦).

لقد قطع حزب التحرير أشواطًا طويلة عبر سبعة عقود أو يزيد من عمر دعوته التقيَّة النقيَّة، قاصدًا كل باب يلِجُ من خلاله إلى فعاليَّات الأمة وطاقاتها؛ لتحميلها فكرة الخلافة؛ فتتبناها الأمة أو من تتحقق بهم الكفاية من أبنائها المخلصين القادرين على إحداث التغيير الجذري بإقامة الخلافة. وقد تعاقب على الدعوة في سبيل ذلك ثلاث قيادات للحزب لم تخرج واحدة منها عن أحكام الطريقة قيد شعرة، بدءًا من قيادة التأسيس والبِذار التي حصرت الدعوة في بضع بلدان إسلامية رجاءة أن ترتكز الخلافة فيها أو في واحدة منها، مرورًا بقيادة التوسع والانتشار التي وسَّعت نطاق العمل ليشمل أكثر من أربعين بلدًا عربيًّا وأعجميًّا وغربيًّا، وصولًا إلى قيادة الاستنصار الحالية التي استأنفت المسيرة طارقةً المجتمع من غير باب يتراءى للحزب أنه سينفذ من خلاله إلى المجتمع. وهنا يحسن بنا أن نؤكِّد على حقائق جديرة بالذكر:

الأولى: إن الحزب تعرَّض منذ نشأته إلى هزَّات عنيفة جدًا استهدفت حركته الدعوية أملًا في خنق فكرته، وإحباط عمله، ووأد غايته؛ إذ تعرض الحزب لكافة صنوف الأذى والقمع الجسدي والمعنوي من قتل وتعذيب وتضييق، وتعتيم إعلامي، وتشويه فكري، وتضليل سياسي… فكان من جراء ذلك؛ ابتعاد كثير من أبناء الأمة، خصوصًا المؤثرين منها، عن الحزب وشبابه؛ لِما رأَوه من سُعار عداوة الأنظمة ومن ورائها دول الغرب الكافر على الدعوة وشبابها.

الثانية: إن الحزب مستمر في دعوته لا يَقيل ولا يَستقيل، لا يَغمض له جفن، ولا تفتُر له عزيمة… فلم تفلح أعمالُ الكفار والحكام ومن هو في حكمهم العدائيةُ في ثنيِ الحزب وشبابه عن دعوتهم، بل إن دعوة الحق قد اجتازت أهوالًا مزلزلة، حتى بات الحزب القوة السياسية الأولى في العالم، باعتراف القاصي والداني، للدرجة التي ألجأت قادة الدول الكبرى على البوح بقوة الحزب، والتحذير من فكرته، وما حربُ أمريكا على العراق وأفغانستان، وما تكالبُ قوى الشر كافة على ثورة الشام؛ إلا جرَّاء ارتعادهم من هاجس الخلافة الذي بات يؤرق كُبراءَهم قبل غِلمانهم الحكام العملاء.

الثالثة: إن طاقات الأمة الإسلامية هائلة وفاعلة، بيد أنها مبعثرة لا تنتظم في مكان واحد، فهي بحاجة إلى تجميع في مكان وزمان ملائمين، وتخطيط عميق ينتهي بتفجير مزلزِل يُطيح بالكفر وأذنابه بضربة واحدة – فقط ضربة واحدة – لا تبقي للكافر المستعمر في بلاد المسلمين صافر نار. وتجميع طاقات الأمة والتخطيط لها عمل جليل القدر، عظيم الأجر، تتربَّص به القوى الشيطانية، ويترصَّده أبالسة الإجرام عن اليمين وعن الشمال، ومن الخلف ومن قُدام، قال تعالى: (وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ).

لقد بات حزب التحرير بما يحمله من مشروع نهضة وتغيير مصدره الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والأمة الإسلامية، أمة الخيرية والشهادة على الناس، بطاقاتها المادية والبشرية والاستراتيجية الهائلة… بات الفريقان قاب قوسين أو أدنى من بلوغ الغاية، إقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة. وقد ساهمت عقود العمل السبعة الماضية في إكساب الحزب خبرة جبارة في سبر أغوار الأمم والدول، ورصد مكامن القوة والضعف فيها… وكذلك ساهمت في حمل الأمة على تغيير مشاعرها وأفكارها، من مشاعر كهنوتية ووطنية وعصبية هابطة إلى مشاعر عقائدية مبدئية دائمة، ومن أفكار كفر علمانية واشتراكية باطلة إلى أفكار صحيحة من جنس ثقافة الأمة وعقيدتها. كما ساهمت في تصويب البوصلة إلى وجهة خلع الأنظمة العميلة، وما ثورات الأمة على الأنظمة في تونس ومصر وليبيا واليمن والشام… وما  اشتداد الهجمة على الإسلام واستعار أوارها مؤخرًا إلا دليل صارخ على أن الأمة لم تعد تثق بحكامها، بل وأصبحت ترى فيهم سبب ما هي فيه من ضنك وشقاء، وأنها، أي الأمة، باتت على وعي على خبث القوى الاستعمارية وعداوتها للذين آمنوا، وأن هذه العداوة عداوة عقدية متجذِّرة في نفوسهم منذ بعثة الرسول صلوات ربي وسلامه عليه، وإلى يومنا هذا، وحتى تقوم الساعة.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يُبلِّغنا يوم النصر؛ فتنجلي هذه الغمة عنا وعن الأمة، اللهم آمين آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *