العدد 238 -

العدد 328 – السنة الواحدة والعشرون، ذو القعدة 1427هـ، الموافق كانون الاول 2006م

بين الحاكم والعالم

بين الحاكم والعالم

 

الحاكم هنا هو خليفة المسلمين هارون الرشيد، الذي وصلت الدولة الإسلامية في زمنه أوج قوتها، وعصرها الذهبي، وامتدت من تخوم الصين شرقاً، حتى المحيط الأطلسي غرباً، حتى قال للسحابة: أمطري أنّى شئت يأتيني خراجك… وهو الذي خاطب نكفور إمبراطور الروم بقوله: من أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى نكفور كلب الروم… كان يحج عاماً ويغزو عاماً… وكان يصلي في الليلة مائة ركعة… هذا الخليفة بمثل هذه الصفات كان من الطبيعي أن يحقد عليه المستشرقون، ومن لف لفيفهم وانضبع بثقافتهم، فينعتونه بأقبح الصفات، وينسجون حوله الأكاذيب، ويرمونه بالمجون، ويقدحون في تقواه، ليشوهوا صورته وصورة الدولة الإسلامية التي كان رمزها وقائدها… لقد كان ورعاً تقياً، رقيق القلب يبكي إن سمع الموعظة، ويبحث عن العلماء الأجلاء ليعظوه. ولنا في قصته مع الفضيل بن عياض أنصع صورة تبين للمسلمين اليوم كيف كان حكامهم بالأمس وكيف كان علماؤهم، وشتان ما بين الأمس المشرق، واليوم المعتم، حيث حكام ظلمة وعلماء متزلفون إلا من رحم الله.

روى الفضل بن الربيع، وكان من المقربين للرشيد، وأحد وزرائه قال: حج أمير المؤمنين هارون الرشيد، فأتاني ليلة، فخرجت إليه مسرعاً فقلت: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت إلي أتيتك، فقال: ويحك، قسا قلبي، وحاك في نفسي شيء، فانظر لي رجلاً أسأله ويعظني، فقلت: ها هنا سفيان بن عيينة، فقال: امضِ بنا إليه، فقرعنا عليه الباب، فقال: من ذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعاً، فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك، فقال: خذ لما جئناك رحمك الله، فحادثه ساعة، ثم قال له الرشيد: أعليك دين؟ فقال: نعم، قال يا ابن الربيع: اقضِ دينه، فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئاً، انظر لي رجلاً أسأله، قلت: ها هنا عبد الرزاق بن همام، قال: امضِ بنا إليه، فأتيناه فقرعنا الباب، فخرج مسرعاً فقال: من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين، قال: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت إلي أتيتك، فقال: خذ ما جئناك له، فحادثه ساعة ثم قال له: أعليك دين؟ قال: نعم، قال: يا ابن الربيع، اقضِ دينه، فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئاً، انظر لي رجلاً أسأله، قلت: ها هنا الفضيل بن عياض، قال: امضِ بنا إليه، قال: فأتيناه، فإذا هو قائم يصلي يتلو آية يرددها، فقال: اقرع الباب، فقرعت الباب، فلما انتهى من صلاته قال: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فقال: مالي ولأمير المؤمنين؟ قلت: سبحان الله، أما عليك طاعة؟ فقام فنزل ففتح الباب، ثم صعد إلى غرفة، فأطفأ السراج، ثم التجأ إلى زاوية من زواياها فدخلنا فجعلنا نجول بأيدينا، فسبقت كف الرشيد قبلي إليه، فقال: يا لها من كف ما ألينها، إن نجت غداً من عذاب الله عز وجل، فقلت في نفسي ليكلمنّه الليلة بكلام تقي من قلب تقي، فقال الرشيد: خذ لما جئناك له رحمك الله، فقال: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا علي، فعدّ الخلافة بلاءً وعددتها أنت وأصحابك نعمة، فقال له سالم بن عبد الله: «فعد إن أردت النجاة من عذاب الله، فصم الدنيا، وليكن إفطارك منها الموت»، وقال له محمد بن كعب: «إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المؤمنين عندك أباً، وأوسطهم عندك أخاً، وأصغرهم عندك ولداً، فوقر أباك وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك»، وقال له رجاء بن حيوة: «إن أردت النجاة غداً من عذاب الله، فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت، وإني أقول لك فإني أخاف عليك أشد الخوف يوماً تزل فيه الأقدام» فهل معك رحمك الله مثل هذا؟ أو من يشير عليك بمثل هذا؟ فبكى الرشيد حتى غشي عليه، فقلت له: ارضَ يا أمير المؤمنين، فقال: يا ابن الربيع، تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا؟ ثم أفاق فقال: زدني رحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين، بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكا إليه، فكتب إليه عمر «يا أخي أذكرك طول سعي أهل النار، مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله، فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء» فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز فقال له: ما أقدمك؟ قال: خلعتَ قلبي بكتابك، لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله عز وجل، قال: فبكى الرشيد بكاءً شديداً، ثم قال: زدني رحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباس عم المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله أمرني على إمارة، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميراً فافعل»، فبكى الرشيد بكاءً شديداً ثم قال: زدني رحمك الله، قال: يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار، فإياك أن تصبح أو تمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة» فبكى الرشيد وقال له: أعليك دين؟ قال: نعم! دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي، قال إنما أعني من دين العباد، قال: إن الله لم يأمرني بهذا، إنما أمرني أن أصدق وعده، وأطيع أمره، فقال عز وجل: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ) [الذاريات 56-57] يا هارون أو تظن أن الذي أعطاك ينساني؟ قال: لا، قال: لا حاجة لي بعطيتك، قال الرشيد: هذه ألف دينار خذها فأنفقها على عيالك، وتقوَّ بها على عبادتك، فقال: سبحان الله أنا أدلك على طريق النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا، اذهب سلّمك الله، ثم سكت فلم يكلمنا، فخرجنا من عنده، فلما صرنا على الباب قال الرشيد: إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين.

قال الفضل بن الربيع: فخرجنا من عنده، فسمعنا إحدى نسائه قد دخلت عليه، فقالت: يا هذا، ترى ما نحن فيه من ضيق، فلو قبلت عطية أمير المؤمنين فتفرجنا بها، فقال لها: مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه، فلما سمع الرشيد هذا الكلام، قال لي: ندخل عليه ثانية، فلعله أن يقبل منا المال، فسمع الفضيل ذلك، فخرج إلى السطح وجلس على باب الغرفة، فجاء إليه الرشيد فجلس إلى جنبه، وجعل يكلمه ويترفق به، والفضيل لا يجيبه، فبينما نحن كذلك، إذ خرجت جارية سوداء فقالت: يا هذا قد آذيت الشيخ الليلة، فانصرف عنه رحمك الله، قال: فخرجنا من عنده، فقال الرشيد: الحمد لله أن في المسلمين الفضيل بن عياض.

هذه حادثة من آلاف الحوادث مثلها، كانت تجري بين خلفاء المسلمين وعلمائهم، فلقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *