العدد 334 -

السنة التاسعة والعشرون ذو القعدة 1435هـ – أيلول 2014م

ثورات المسلمين: حتى تكون عملية تغيير صحيحة ومنتجة… والطريق إلى الأمام

بسم الله الرحمن الرحيم

ثورات المسلمين: حتى تكون عملية تغيير صحيحة ومنتجة…

والطريق إلى الأمام

كان الحديث قبل أربعة أعوام عن التغيير الجذري والثورة الشاملة في البلاد العربية مدعاةً لكمٍّ هائلٍ من التهكم والسخرية لدى الكثيرين، وإذا بالمنطقة تنفجر كالبركان الذي يقذف حممه في كل اتجاه بعد «حادث البوعزيزي» الذي شهدته مدينة سيدي بوزيد الصغيرة النائية في تونس الحبيبة، لتمتد بوهج عاصف إلى مصر واليمن وليبيا وسوريا والبحرين والعراق، وبوهج أقل كثيراً في الأردن والمغرب والسودان وغيرها.

إلا أن تلك الثورات أخفقت حتى الآن في تحقيق ما يتطلع إليه الناس من قضاء على الفساد والظلم والاستبداد والقهر والذل والفقر والتبعية للأجنبي، رغم سقوط عدد من أشرس طواغيت العرب، على نحو ما جرى في تونس واليمن ومصر وليبيا. ورغم تعدد أسباب الإخفاق، إلا أن المدقق يجد أن هناك أسباباً جوهرية يجب التنبه إليها ليتم التعامل معها، وإلا بقيت الثورات تدور في حلقة مفرغة.

السبب الأول: هيمنة النفوذ الاستعماري

إن النفوذ الاستعماري الغربي متغلغل في المنطقة، وهو يحول دون انعتاق أهلها من هيمنته باعتبارها منطقة استراتيجية حساسة للغاية، بل إن الغرب يعتبر الإخلال بنفوذه تهديداً استراتيجياً لمصالحه. فمنطقة الشرق الأوسط تمتلك الإسلام الذي يمثل طريقة حياة فريدة تفرض نظاماً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وأخلاقياً خاصاً، مؤهلاً لأن يكون منافساً عالمياً قويّاً إذا تحققت له السيادة ولأمته السلطان، كما تمتلك ثروات هائلة ومقدرات بشرية وتاريخاً زاخراً بالإلهام وموقعاً جغرافياً يشكل قلب العالم ويربط ثلاثة قارات معاً؛ لهذا كان الرئيس الأميركي باراك أوباما واضحاً وحازماً بشأن عدم تخلي أميركا عن المنطقة عندما ألقى كلمة شاملة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24-09-2013م ، حيث عرض معالم السياسة الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المضطربة، مؤكداً «أن الولايات المتحدة ستقدم على تحرك مباشر لإزالة التهديدات حين يكون ضرورياً، وستستخدم القوة العسكرية حين تفشل الدبلوماسية»، رافضاً «أي تخل أميركي عن هذه المنطقة» معتبراً «أن هذا الأمر سيؤدي إلى فراغ لا يستطيع أي بلد آخر ملأه»!

من هنا، نجد أن سياسات الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا تحاول جاهدة، سواء عن طريق الانقلابات العسكرية على نحو ما جرى في مصر، أو عن طريق السماح بفوضى دموية عارمة كما جرى في العراق وسوريا؛ لتلتف على محاولات الشعوب الثائرة في الانعتاق والتغيير فتحتويها وتفشلها بل وتفرض على الناس الاستسلام لما تفرضه من حلول شكلية.

ومن هنا كذلك، كان لا بد من التعامل مع دول الغرب الكافر كعدو، ولا بد من نبذ عملائه ومشاريعه وتسوياته الخبيثة بشكل حازم لا هوادة فيه، فالتغيير لن يكون مجدياً بالتعاون مع الدول الكبرى ولا بمسايرتها ولا بالتحالف مع عملائها أو الانجرار في مشاريعها… فكل هذا وبال على الأمة وعلى حركة التغيير فيها.

السبب الثاني: عدم وضوح الرؤية:

 ليس بإمكان أي ثورة أن تنجح وتصل إلى أهدافها بدون رؤية واضحة للبديل وللطريقة الموصلة إليه ولكيفية تنفيذ كل ذلك عملياً في الواقع. فعدم وضوح ما سبق يؤدي إلى الاختلاف والاضطراب والفوضى والتخبط واليأس، ما يسمح لدول الغرب صاحبة النفوذ وصاحبة الإمكانيات المهولة تسخير هذه الحالة لدفع عملائها وأتباعها لاختراق حراك الشعوب بمناورات ومبادرات ومشاريع وشخصيات تصرف الثورات عن وجهتها وتؤول بها إلى الفشل المحقق؛ لذلك كان لا بد من الاتصال الواسع والدائم بالناس لتصحيح وتوضيح أفكار الناس ومفاهيمهم بخصوص عملية التغيير، لا سيما:

– توحيد تصوراتهم وأفكارهم وطروحاتهم حول أن التغيير الوحيد المجدي والمقبول هو التغيير الذي يتم بالإسلام لتطبيقه وإقامة دولته.

– حصر عملية التغيير بالأمة وقواها، ونبذ أي تغيير يأتي به الغرب أو عملاؤه لأن ذلك مجرد انتحار، وسيؤدي إلى كوارث مهلكة.

– ضبط طريقة التغيير بأحكام الإسلام ومنهج الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي لم يدعُ للثأر الأهوج والانتقام الأعمى، كما لم يدعُ للعبث والفوضى والتدمير، وكانت سمة الرحمة ظاهرة في سيرته، لا سيما عندما تمكن من رقاب أعدائه وصاروا بقبضته بعد أن آذوه واضطهدوا أصحابه وهجَّروهم من مكة فقال لهم: «ما تظنون أني فاعل بكم؟» قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: «فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم). اذهبوا فأنتم الطلقاء». هكذا نجد أن منهج التغيير الذي تسلكه الثورة للوصول إلى أهدافها يجب أن يعكس أفكار وتوجهات وأهداف إقامة الإسلام في الحياة، فـ «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومن ابتغى العزة بغيره أذله الله».

– تقديم الأفكار بشكل واضح وبسيط وسلس، فالناس ينفرون من الأفكار المعقدة والغامضة، فضلاً عن أن الإسلام بطبيعته بسيط وسلس وواضح، وهذا هو أحد أبرز مميزاته ومكامن قوته وصلابته وقدرته على التأثير والتوسع والانتشار.

– إن الإطاحة بنظم الفساد والاستبداد والتبعية لا يتقصد تغيير أشخاص، إنما تغيير نظم باطلة واستبدالها بنظام الحكم في الإسلام الكفيل بوضع حد للمآسي والأحزان والآلام التي تعيشها الأمة. وإن أية دعوة أخرى لإقامة أنظمة وطنية أو قومية، ليبرالية أو ديمقراطية أو غيرها، يخالف الإسلام ويوثق تبعية الأمة لغيرها ثقافياً وسياسياً.

السبب الثالث: عدم الاجتماع على قيادة مبدئية واعية:

إن نجاح الثورة في تحقيق مرادها يتطلب بداهة قيادة مبدئية مخلصة صادقة واعية حريصة نبيهة ملهمة ومبدعة تقوم بتوجيه الحراك على بصيرة، قيادة تعبئ الناس وتشحذ هممهم وتوجه طاقاتهم بشكل منتج، قيادة تملك رؤية سياسية واجتماعية واقتصادية وأخلاقية شاملة، رؤية نابعة من عقيدة الأمة وثقافتها، تحقق طموحاتها وآمالها وتعالج آلامها، وترسم لها منهجاً واضحاً للسير عليه لإنجاز التغيير بالإسلام وللإسلام ولصالح أمة الإسلام، أمة الرحمة والخير والعدل والإنسانية الحقة.

ويلزم الإشارة هنا إلى أن هذه القيادة قد تكون شخصاً أو كتلة، مع التأكيد على أن فاعلية الكتلة وحصانتها أكبر بكثير من فاعلية الأشخاص وحصانتهم، مع التنبيه إلى أن معيار أهلية القيادة يجب أن ينبع من خبرة الأمة بها ونجاحها في الثبات على المبدأ وتجاوز التحديات التي يمكن أن تحرف أو تجرف من عنده خلل بصدق وعمق وجدية وجذرية، فالانقياد ينبغي أن يكون على بصيرة وأن يكون مرجعه رسالة الإسلام التي تمثل مبدأ الأمة؛ وذلك كما قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ )، وكما قال جلَّ من قائل: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ).

الطريق إلى الأمام

إن الأحداث الكبرى التي تجري في منطقتنا، تعطي فرصة استثنائية لمن لديه القدرة على التفاعل معها للتأثير فيها وتجييرها لتحقيق غاياته. ورغم إدراكنا ضخامة إمكانيات الدول الكبرى إلا أنه يمكن مجابهتها إذا تم انتزاع قيادة الأمة من العملاء والرويبضات والمراهقين والعابثين بمصيرها، فقد أرهق أولئك الأمة وأثقلوا كاهلها، وحالوا دون نهضتها وإنجازها التغيير المنشود؛ لهذا كان لا بد من العمل على تصحيح مسار الثورات وحمايتها من الاختطاف والسرقة والاحتواء، ويكون ذلك عبر نشر الوعي العام في الأمة على الأفكار الصادقة التي توجد لدى الناس المعايير التي تحتاجها لتمييز الغث من السمين والحق من الباطل، كما يلزم بيان واضح للتحديات التي تجابهها، وفضح المؤامرات التي تحاك لها بشكل دقيق لا لبس فيه وعلى نحو يلمس عمومُ الناس فيه صدقَ الدعوة وأهلية حاملها لقيادتهم. في هذا الإطار يجب أن يترافق نشر الوعي العام مع:

– العمل الجاد لكسب ثقة الإنسان البسيط في بلادنا، فالنجاح في هذا يشكل عاملاً مهماً في كسر ظهر مشاريع الغرب، إذ تعتمد الثورات على هذا العنصر في الحراك الجماهيري المكثف، وفي تأمين الحاضنة الشعبية لإيواء وحماية وتموين وتمويل ودعم كوادر العمل السياسي والعسكري والاجتماعي والأمني.

– الاتصال بشكل مركز ومباشر ومستمر بالأوساط الحية والفاعلة في الأمة، بل وبكل من لديه حيثية في المجتمع وقدرة على التأثير في محيطه، سواء كانت أوساطاً اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو دينية أو ثقافية على نحو مؤثر ولافت. فمن شأن استيعاب بسطاء الناس والتأثير بالشخصيات الفاعلة بشكل واسع عرقلة وتعطيل كثير من مشاريع الغرب وأعوانه.

– إدراك أن تهذيب الثورة القائمة وتحويلها من حالة  تمرد وسخط وهيجان فوضوي وعبثي في كثير من مظاهرها إلى حالة تغيير منتج صحيح بحسب تصورات الإسلام ومنهجه وأحكامه عامل محوري في خلق البيئة المناسبة للتأثير بالقوى التي يشكل تحركها عاملاً حاسماً في إنجاح الثورات، سواء أكانت تلك القوى في مواقع صنع القرار المباشر أم كانت ممن يرتكز إليهم صناع القرار في حماية سلطانهم واستمرار سياساتهم بشكل مباشر أو غير مباشر.

أخيراً وليس آخراً، إن مسؤولية المسلم الحريص على أمته الواعي على قضاياها كبير جداً في حمل الدعوة لتفويت الفرصة على كل من يمكر بالأمة ويكيد لها، وذلك لإحداث التغيير الصحيح بشكل صحيح يضمد جراحها ويوقف نزيفها وينتقل بها إلى بر الأمن والأمان. والفرصة جد مواتية لإحداث تغييرات جوهرية من خلال التفاعل الحي والمؤثر مع الأمة بخاصة:

– إن الأسباب التي أدت إلى تفجير الأوضاع في بلادنا وانطلاق عواصف الثورة فيها ما زالت قائمة، فالفقر والظلم والحرمان الممزوج بالذل وغير ذلك من جرعات القهر التي تولد الغضب والانفجار ما زالت سائدة بالتمام والكمال بل وفي حالة تصاعد مضطرد.

– إن الشعوب كفرت بأنظمة القهر والذل والاستبداد المتعفنة، ولا خيار أمام الشعوب إلا الخلاص منها، فالخضوع لهذه الأنظمة يعني مزيداً من الشقاء وانحداراً نحو الهاوية والهلاك المحقق.

– إن شعوبنا أكدت بالقول وبالفعل أنها ضد واقع البؤس الذي تحياه، وأنها شعوب حية وحيوية ومستعدة للتضحية والبذل بشكل سخي وكبير لتغيير أوضاعها.

– إن النخب التي حاولت تغريب الأمة على مدار قرن من الزمان قد سقطت، لا سيما بعد أن وضح مناصرة الغالبية الساحقة من رموزها اليسارية والليبرالية والعلمانية والقومية والوطنية للأنظمة الفاسدة ومعاداتها لخيار الأمة الواضح في استعادة الإسلام واقعاً حياً في حياتها.

– إن الأمة قد أقبلت نحو الحل الإسلامي في السياسة والمعاملات بشكل ملحوظ، في الوقت نفسه ظهر عليها نفورها من الغرب الذي افتضح أمر تآمره عليها ومجافاته لكل القيم التي يتفاخر بها كالطاووس الأرعن، وإدركت الغالبية الساحقة من المسلمين أن لا خلاص للأمة إلا باستقلالهم عنه وبتحكيم إسلامهم في واقع حياتهم.

قال تعالى: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *